السليمانية لا تزال المدينة المجازفة في كردستان |
المقاله تحت باب قضايا كاوة شيخ عبدالله عبدالله / نقاش
أصبحت مدينة السليمانية في كردستان العراق خلال السنوات الأولى من تأسيس الدولة العراقية بداية العشرينات من القرن الماضي عقبة كبيرة وحقيقية أمام سلطة الاحتلال الانكليزي والحكومة العراقية الناشئة حديثا، أما الآن والعراق يعيش في معاناة كبيرة ويشبه دولة مفككة، تعاني المدينة كذلك من صراع داخلي كردي شديد مع ازمة اقتصادية صعبة.
وتم تحويل السليمانية الى عاصمة لإمارة بابان نهاية عام 1784 التي كانت تدير الحكم من مدينة قلاجوالان الواقعة شمال السليمانية، واستمر أمراء امارة بابان في حكمهم من السليمانية حتى عام 1850. وبعد فشل وتفكك إمارة بابان انتهى دور السليمانية الى ان دخل الانكليز العراق من البصرة في عام 1917 ورسموا خريطة دولة جديدة. ولم تكن خريطة العراق قد رسمت بشكلها الحالي عندما اعلن الشيخ محمود الحفيد من السليمانية قيام الثورة ضد الانكليز في عام 1918 وشهدت ثورة الشيخ محمود الكثير من الصعود والنزول الى ان اعلنت دولة مستقلة في السليمانية وأصبح الشيخ محمود ملكا عليها. لم تعترف أية دولة جارة او دولة أخرى في العالم بدولة الشيخ محمود أبداً، وفي عام 1924 أصبح لهذه الدولة علمها الخاص وأصدرت الجرائد وسكت عملتها النقدية لفترة من الزمن، وفي تلك الأثناء كان الانكليز يحاولون بجد بناء عراق يضم دون قيد او شرط ولاية الموصل (السليمانية، كركوك، أربيل والمناطق الكردية المحيطة لمدينة الموصل). كل تلك الأحداث حولت السليمانية الى عقبة لا يمكن لسلطة الاحتلال البريطاني والحكومة العراقية في أي وقت اتخاذ قرار حول مصير ولاية الموصل التي تتمثل بـ (كردستان العراق) دون اخذ واقع المدينة في الاعتبار. وتقع السليمانية في أدنى شمالي شرقي العراق وتربطها حدود واسعة مع إيران، إلا أن بعدها الجغرافي هذا لم يكن أبداً سببا في إهمالها من قبل السلطات العراقية لان سكانها يتمتعون بخاصية سياسية مشاكسة لا تتمتع بها إلا القليل من المدن العراقية عدا الموصل وبغداد. وقد وصف الصحفي الفرنسي المعروف كريس كوتشيرا المدينة بأنها "العاصمة الروحية للقومية الكردية في العراق". وعندما أرسلت عصبة الأمم لجنة تحقيق واستطلاع رأي إلى ولاية الموصل عام 1924 لمعرفة رأي سكان الولاية في الاختيار بين العراق او تركيا او الاستقلال كان لواء السليمانية آخر مكان تزوره اللجنة وقد غمرت السعادة والفرح أعضاءها عندما استمعوا الى أقوال الناس. وقد كتب اي اف ويرسين رئيس اللجنة وهو دبلوماسي سويدي مخضرم في مذكراته التي طبعها تحت عنوان (من البلقان إلى برلين) ملاحظاته حول السليمانية: "كان البقاء في السليمانية ممتعا جدا، كان المرء يمكنه رؤية صورة واضحة للعقل الكردي الجديد. وقد لوحظت محاولات ثقافية كردية في السليمانية ويتوقع لها مستقبلا زاهرا". وتعتبر النكت والطرائف من الخصوصيات القديمة لأهالي السليمانية. وأصبحت نكتة السليمانية مثل كثير من الأمور الأخرى هوية وخاصية تعرف بها أهل المدينة، ومهما تعرضت المدينة للمآسي السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا ان اهلها لم يستغنوا عن الطرائف وإلقاء النكت. الكاتب ريبوار سيويلي استاذ الفلسفة الاجتماعية في جامعة صلاح الدين في أربيل له رأي أكاديمي حول تلك الخاصية القديمة لسكان السليمانية اذ يقول إن النكت والطرائف هي لغة اهل السليمانية الثانية حيث يمكنهم ان يعوضوا بها عن الأحداث السياسية والمأساوية. وقال سيويلي لـ"نقاش": إن للطرائف والنكت علاقة قديمة بالسليمانية، لطالما كانت نكت السليمانية هي لغتها الثانية، وقد استعانت في جميع الأوقات بالنكت لتفريغ الانتقادات والاحتجاجات لذلك فان لهذه الخاصية بعدا آخر وهو إبعاد شبح المآسي ومخاطرها. ويضيف: "الى جانب الكوارث والأحداث المأساوية فان نكت أهالي المدينة حاضرة دائما فالشخصيات المعروفة بالطرافة والدعابة تصبح ذات شهرة كبيرة إلى جانب النجوم والابطال السياسيين كما يصبحون أبطالاً، لذلك يبقي اهالي المدينة أسماءهم خالدة". وبعد بناء العراق أصبحت السليمانية في كثير من الأمور من أوائل المدن التي شهدت مبادرات سياسية واجتماعية. ففي عام 1918 كانت المدينة الأولى التي تعالت فيها أصوات الاحتجاجات ضد الاحتلال الانكليزي وكان ذلك حتى قبل اندلاع ثورة عرب العراق المعروفة تاريخيا بثورة العشرين ضد الاحتلال الانكليزي. كما كانت اول مدينة قصفت مباشرة من قبل طائرات الانكليز بهدف قمع وإبادة ثوار الشيخ محمود في عام 1922. كما كانت في عام 1930 اول مدينة في كردستان تنتفض ضد اتفاق الانكليز مع الحكومة العراقية الذي منح العراق استقلالا شكليا حيث كان أهالي المدينة وبتشجيع من المثقفين والسياسيين يقولون انه "لم يتم ذكر حقوق الكرد في ذلك الاتفاق" لذلك قاطعوا انتخابات البرلمان يوم السادس من ايلول (سبتمبر) من ذلك العام والذي كان عليه المصادقة على الاتفاق. ولا ينسى حدث السادس من ايلول (سبتمبر) عام 1930 من تاريخ الكرد في العراق والذي شهد فضلا عن مقاطعة الانتخابات البرلمانية العراقية تظاهرة جماهيرية كبيرة في سراي السليمانية انتهت بعنف دموي. وتعرض المتظاهرون الى اطلاق الرصاص من قبل الجيش والشرطة العراقية بشكل عشوائي وتفيد تقارير الانكليز الى سقوط (34) شخصا في الحادث. وقد اصبح هذا الحدث الأول من نوعه يقف فيه الناس بوجه قرارات الحكومة العراقية والاحتلال البريطاني. وكانت اولى المناطق التي انتفضت ضد الجيش العراقي القاسي إبان عهد صدام حسين في ربيع عام 1991 هي مدينتا رانية والسليمانية، وادت الانتفاضة الى إبعاد سلطة صدام حسين من كردستان نهائيا عدا مدينتي كركوك وخانقين ولم يتمكن من العودة اليها طوال بقائه في الحكم وتتمتع كردستان الان بحكومة وبرلمان. كل ذلك الماضي المليء بالتطورات كان سببا في كون السليمانية في مقدمة الاحتجاجات ضد الحكومة العراقية حتى بعد الحكم الملكي أيضا وقد خرجت المدينة اخيرا من كل تلك الاحداث بخسائر بشرية كبيرة جدا. ووصل الجيش العراقي في عهد صدام حسين الى قمة قسوته في مناطق السليمانية عندما قصف مدينة حلبجة بالقنابل الكيمياوية في السادس عشر من آذار (مارس) عام 1988 ما ادى الى مقتل أكثر من خمسة آلاف شخص وإعاقة وتشويه عدد اكبر بسبب تأثير الغازات الكيمياوية. وبعد شهر من ذلك بدأ الجيش العراقي حملات "عملية الأنفال" شملت مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ في منطقة كرميان التابعة لمحافظة السليمانية فقط دفنوا أحياء في صحاري جنوب العراق عدا قلة من العجزة والمرضى منهم. انتقام الجيش العراقي لم يقف عند هذا الحد بل حوّل مناطق شاسعة حول السليمانية بمحاذاة الحدود مع إيران الى مناطق محرمة وهجّر جميع سكانها فيما تعرضت طبيعة وبيئة المنطقة الي تخريب كلي لا تزال آثاره باقية إلى الآن. خاصية السليمانية المشاكسة لم تضمحل بعد ولا تزال باقية حتى في عهد الحكم الكردي. ومع ان المدينة قد انحازت في التقسيم الموجود منذ اكثر من نصف قرن بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني الى الطرف الثاني. وكانت صحيفة هاولاتي اول وسيلة إعلام أهلية والتي وقفت بشدة بوجه الأخطاء السياسية والادارية الكردية ونشرت الأخبار والتقارير عنها قد تأسست في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2000 وأصبحت بداية واساسا جيدا لتأسيس قنوات أخرى عديدة. وكان ثقل الإعلام الأهلي المتجسد في الصحف والمواقع الالكترونية يتمركز في السليمانية ويقوم بدور معارضة فعالة ويشكل خطرا حقيقيا على السلطة الكردية، وذهب الى ابعد من ذلك ما ادى الى ظهور قوة سياسية فاعلة هي حركة التغيير التي اصبحت اكبر معارضة كردية في تاريخ الحكم الكردي وهي تملك منذ ستة أعوام (24) مقعدا في برلمان كردستان المؤلف من(111) مقعدا. وشكلت السليمانية ومناطقها المحيطة باستمرار دعما للأحداث والتطورات وهي الآن قادرة على احداث تغييرات كبيرة على المستوى السياسي والاجتماعي في كردستان العراق ولكن يبدو ان هذه المدينة وفي ظل وجود ازمة اقتصادية حقيقية خلقتها الخلافات بين حكومتي بغداد والاقليم ستفقد دورها التاريخي مؤقتا في حال استمرار الازمة كما هي ولكن لا يمكن أبدا إدارة حكم خال من المشاكل دون إرضاء سكانها. وفي وضع كهذا ربما سيلجأ سكان المدينة الى التعبير عن احتجاجهم بإلقاء النكت والطرائف لدرء المآسي والمخاطر كما قال سيويلي، ولكن تاريخ العراق في مائة عام الماضية يظهر ان السليمانية هي المفتاح السحري لفتح الكثير من الأبواب، ومن يتمكن من الحصول عليها سيكون بإمكانه ان يصبح لاعبا سياسيا قويا فالشيخ محمود وجلال طالباني ونوشيروان مصطفى أمثلة بارزة في تاريخ العراق القريب حيث تمكنوا من دخول القاموس السياسي الكردي في العراق بدعم من جزء كبير من أهالي السليمانية ولا يمكن تهميشهم أبداً. |