المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
02/12/2013 06:00 AM GMT
مصطفى الحمداوي
هذه المقولة ليست صورة تجل صوفية فقط، ولكنها أيضا رؤية وجودية وفلسفية للشاعر كريم ناصر حول الكتابة والأدب والشعر بالخصوص. والشاعر كريم ناصر شاعر عراقي من مواليد الكوت محافظة واسط، يقيم في هولندا منذ سنة 1989. من مؤلفاته في الشعر: ديوان ‘بين حدود النفي’ الصادر سنة 1988، وديوان ‘بُرادة الحديد’ الصادر سنة 2000، ثم ديوان ‘أرخبيل الحدائق’ الصادر سنة 2006. ويواصل كريم ناصر مشروعه الشعري بديوان جديد صدر هذه السنة 2013، الديوان موسوم بعنوان ‘نبتة يدي غابة شوكية’. بمناسبة صدور ديوانه الأخير التقينا الشاعر كريم ناصر الفتى المتمرد ـ المهادن الذي يحمل في كلماته عبق مياه الفرات المتجددة دوما، و الرائحة المعتقة لحدائق بابل، فكان لنا معه هذا الحوار: حاوره:
* إخترت قصيدة النثر لتشتغل بواسطتها على مشروعك الشعري، هل نفهم ان كلّ الأشكال الشعرية الأُخَرى لم تعد تلائم طبيعة الخطاب الذي تود إيصاله إلى القارئ، أم أن قصيدة النثر فرضت نفسها فعلاً في هذا الظرف التاريخي، بدليل أنّنا أصبحنا نعيش عالم الرقميات والتكنولوجيات الدقيقة سريعة التطور؟ - قد يجوز القول إنَّ قصيدة النثر قد فرضت نفسها بتميزها الجذري جمالياً ومعرفياً، لا بدَّ من استغلال الفرص للتعبير عن الأفكار الدفينة.. إنَّ قراراً شجاعاً للوصول إلى الذروة يعتمد على قوّة البصيرة، لقد علّمتنا التجارب والتاريخ شاهد على ذلك.. إنَّ الجرأة بتعبير أشمل هي سمة للتطوّر الحضاري وتجسيد له، ولكن عادة ما نهمل مثل هذه المفردة وفي أكثر الأحيان لا نعيرها اهتماماً لأيّما سبب كان. والحقيقة لن يحصل الشاعر على استحقاقه في حال تقاعسه، ولم يغيّر رؤيته القديمة في إطار دائرته الثقافية، ما لم يجترج أنماطاً حديثة ذات تأثيرات مكثّفة.. إنّنا نعتقد بصحّة القول وبقيمة النص المغاير في الشكل والرؤية التقنية الفنية الحديثة. إنَّ فكرة المغامرة عملية رياضية وقد تدفعنا إلى خرق السائد، مثلما تزوّدنا بالأفكار الحرّة الجريئة كونها تمثّل الرغبة في اجتراح ما هو مسكوت عنه، وفي المقابل أنَّ الأديب تحديداً مطالبٌ بالبحث والإستقصاء عن المختلف إنطلاقاً من المغامرة. والحق أنَّ أفضل القصائد النثرية تلك التي تتضمّن التأويلات الدلالية والمعاني المختلفة، والآراء الجريئة المغامرة التي لا تقف عند حدّ معين، ولا تهتمّ بالنقد إلاّ إذا كان في إطاره المختلف. وعليه فإنَّ النص الجيد في نطاق المعقولية يصبح قطب اهتمام القرّاء والنقاد على السواء، ونجاحه بالطبع يرجع إلى كيفية صناعته.. وهكذا باختصار لا تحتاج قصيدة النثر إذناً للدخول إلى الساحة، والملاحظ أنّها ليست ظاهرة يلزم تأييدها، بل تبقى في العمق تجربة شعرية يعزّزها التأمّل الجاد.. لن يكون هناك مبرّر من الإستسقاء من تأمّلات الماضي، وقد يكون مستحيلاً النهل منه ولا نرغب من جهتنا الاغتراف من منابع الأشكال الشعرية القديمة في عصر التكنولوجيا المرعب، إنَّ هذا يبدو لنا أمراً واضحاً، لذلك فما يخصّ الجنس الماضوي يظلّ أميناً لمعاييره، ولا يعد أثراً مقبولاً في الشعرية الحديثة، فربما تكمن في هذا النوع من الشعر نزعة إستعادية يقينية محروثة لا تنطبق على الحاضر ولا تجاريه، وقد غادرها الشعراء قبل مئة سنة، لا بدَّ من أنَّ هذا لا يعدو شيئاً صارخاً إذا ما اعتبرنا قصيدة النثر ثمرة الشعرية. * في الشعر، بصفة عامة، يمكن تطويع اللغة واختزالها وتكثيفها على أنساق متعدّدة، هل تتسع في رأيك لغة النثر، في الشعر، لكل انفعالات الإبداع وحمولاته الفكرية والفلسفية أيضاً؟ - اللغة تجسيد ماديّ، ولو درسنا الأدب بمجمله نجد أنَّ اللغة تمثّل معياره الجمالي، لذلك لا يمكن دحض اللغة أو هدمها.. إنّنا نستطيع تغيير شكل المادة الهلامي، ولكن ليس من السهل علينا تغيير حقيقة ماديّة ثابتة وإفراغها من مستواها الدلالي، سيكون العمل الأدبي هشّاً ما لم يحتفظ بأهلية جمالية تميّزه عن رطانة ما هو غير أدبي. نحن نعرف أنَّ ميكانيزمات اللغة، والمبادئ الصوتية (الفونولوجيا) هي التي تميّز الشكل الأدبي وتقرّر في شأنه. الشاعر خاصة يواجه مشكلة العمليات النحوية والصرفية على أمثلة تركيبية وفونولوجية، ويواجه أيضاً مشاكل قضايا التأويل الدلالي في الشعر أو في النثر معاً، ونثير الانتباه أنَّ ما يميّز الشعر عن الثر الشكل الصوتي والموسيقي، ومهما تعدّدت التعريفات فأننا نفهم قصيدة النثر (= الشعر) وإنّنا نصطلح عبارة القصيدة كتركيبة بنائية نهائية لكليهما لتصبح تعبيراً دقيقاً ووافياً، والحال أنَّ هذا ما نصبو إليه فعلاً. لا نستطيع أن نفهم الشعر بتاتاً دون أن نقوم بتفكيك البنية اللغوية، وليس من المنطق القول إنّ اللغة شكل وليس جوهراً، يجب أن تكون هناك لغةٌ تصنع العمل الشعري، وإلاّ فلم يعد من مبرّر لكتابته، سيكون من الصعب تأويل أيّة جملة دون الخوض في تفاصيل وحداتها النصية التي تمثّل موضوعها المعياري، إذا ما أخذنا الشعر كونه سفسطة كلامية، وهذا لا يمثّل القاعدة العامة بسبب تعارضه مع ما يحققه الإنزياح، ذلك ما نلاحظه حين نشير إلى صنف غير شعري ينتمي إلى ما أهو أدنى من مستوياته من حيث المحتوى والمعنى والصورة، هكذا يمكن أن يتناقض المعنى مع الفكرة عندما تضعف أدوات الربط، ولنتفق أنَّ للغة فاعلية مؤثّرة جوهرياً داخل سياق الشعر نفسه، وفي الحقيقة أنَّ للغة سطوة على وعي الفرد إذا ما أدرك المعاني الدلالية وأسلوب اشتقاقاتها. الشعر يتطلّب اختزالاً ومعرفة بتقنيات اللغة كما أسلفنا. *بعض يتّهم قصيدة النثر على أنّها تتخبط في أزمة مفهوم، وتتخبط في أزمة هوية لفرض نفسها كنمط شعري مختلف ومنفتح على كلّ الأشكال الجمالية والتعبيرية، إلى أيّ حد تتفق، أو لا تتفق، مع هذا المفهوم؟ - لا بدَّ من الاعتراف سلفاً أنّ الشعر حتمية تاريخية، ولا حاجة بنا إلى الشك والريبة والتقيّد بأقوال الآخرين، فكما قلنا إنَّ قصيدة النثر (= شعر) فنشير بذلك إلى هذه الخاصية انطلاقاً من نفس المفهوم لنعيد الشعر إلى المعيار. هناك آراء فجّة تُخفي الحقائق ولكنها لا تستحق السجال دائماً، ويزيد الأمر تعقيداً هذا التهويل القائم بشأن قصيدة النثر وما يثير الجدل حين يدعو خُصومها إلى محاربتها إلى درجة القيام بعمل انتقامي للنيل ممن يزاولون كتابتها، وإذا أخذنا مثالاً من الواقع الثقافي فلم يدّخر هؤلاء جهداً في إثارة كلّ ما من شأنه الانتقاص من قيمتها، ولكن لم أفهم إلى الآن لماذا يُنظر هكذا باشمئزاز مثير للغثيان إلى مبدع الشعر بهذه الطريقة الغريبة من غير معرفة سرّ النجاح العظيم الذي يلاقيه بامتياز؟ يسرّنا أن نسمع أنَّ قصيدة النثر تعتبر جنسا مثيرا للإعجاب إلهاماً لا يشبه أطلاقاً التقليد.. وبالطبع فالصوت الذي لا يدوّي مجلجلاً في اعتقادي أنّه سوف يرتفع عالياً ملهماً النفوس، والتاريخ سوف يؤيّد رأينا.. من هنا فلم تكن قصيدة النثر نمطاً خالصاً من منظور دلالي، ولن يكون تجنيسها ضرورياً لا كآليّة ولا كشكل، نحن نستطيع أن نقدّم البرهان فنثبت خلاف ما تأتي بها الاتهامات، لا شك في أنّ هناك تأويلاً زائفاً ونجد نفس الخلط عند أكثر المعنيين، في الواقع لا توجد أزمة مفهوم ولا توجد أزمة هُويّة كما يُزعم.. هكذا فلم تقنعنا الاستنتاجات السريعة، لأنّها ليست في الحقيقة إلّا تخرُّصات فضفاضة لا تنبع أساساً من وعي محترف إذا لم تتغذّ من قيم برجوازية، والدليل أنَّ قصيدة النثر لم تفقد وميضها البرقي قطّ، بل إنّها صارت تتنغّم بحلاوة خارجة عن سياق النمط إنتقالاً إلى التغيير الجوهري، والعالم حالياً يواجه حقيقة ثورة شعرية لتقابل الأفعال الوحشية للبشر. * كيف ترى دور الشعر في الحياة العامة، هل يعدّ مرآة لعكس الواقع وإعادة إنتاجه بصيغ مختلفة؟ أم هل يتجاوز ذلك ليخلق عوالم جمالية لمحاولة محو البشاعة، ومساءلة الإشكاليات الإنسانية العويصة؟ - لفهم المجتمع والثقافة لا بدّ من فهم معرفي مقابل يوفّر أرضيةً خصبةً للتلاقح بين المفهومات، ولفهم الشعر يتوجّب الخوض في بحر المعرفة لقراءة التاريخ والسيّر الذاتية والرواية والقصة فضلاً عن المسرحية. وعلى كلّ فعلاقة الشعر بحقول المعرفة والتاريخ والأدب تبقى علاقة جدلية مع ما نعتقد أنَّ الشعر حالة خاصة من وجهة نظرنا، حالة منتمية إلى مجال دلالي وسياقه جمالي. لمحو البشاعة لا بدّ من أن يكون الشاعر ملاكاً، نحن نؤمن أنَّ الشاعر ملاك منقذ، وهذا المعيار ما يجعله ذات معنى، فإذا لم يكن قدوة حسنة فأنّى له أن يكتب التراجيديا.. الشعر كما نعلم ينبوع لا ينضب وإنّ هدف الشاعر إستعادة الفردوس المفقود وانجاز متواليات الكلمات التي تبني الحياة والجمال والأحلام.. فالرغبة في تحقيق الهدف الأسمى يتطلّب جهداً لا يقلّ حماسةً عن الهدف نفسه.. لنتّفق على الموت ألف مرّة أفضل من أن نبدأ بالعويل وسفح الدموع من غير أن نعي أنّنا نخرج من سياق الشعرية وتبادل الآراء واستنتاج المعاني.. من الأفضل أن نضع قدرنا على محك الوقائع لا أن نجري وراء الولائم والأُعطيات أو الهِبات المستمرّة لتكريس الفحش وتبرير مساوئه. لا ريب في أنَّ وظائف الشعر تتكفّل ببلورة عقل القارئ وتحوله من سارد شفاهي إلى منتج معرفي ليساهم في العملية الإنتاجية. والشعر بوصفه أثراً أدبياً يماثل الرواية أو القصّة في سياق كلّيته يمكن أن نقول إنّه أساس تكوّن المعرفة من منذ الألياذة والأوديسة.. إنّنا نعلم يقيناً أنَّ كلّ قصيدة جادّة تجلب معها أنظمة وقواعد وأفكاراً أدبية ومعرفية وفلسفية، وبهذا المعنى نستطيع أن نضمن استمرارية الشعر مع العلم أنّنا نعرف أنّه جنس صعب ومعقّد، لذلك نتفق مع الجميع على أنَّ كتابة الشعر السوريالي مثلاً: لا يفرز إلاّ نمطاً من التفكير الملتبس والشائك أحياناً، ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق المضيّ في سرد الأحداث وما تتضمّن من رؤى واضحة ممكنة الفهم. نحن نعرف أن لا قيمة جوهرية للشعر إذا لم تتحقّق نماذجُ التغيير بما يجعلنا نعتقد بالإختلاف والمغامرة، ونعترف أنَّ ما هو مغاير يقوم بتقويض كلّ ما هو تعليمي ومدرسي ونمطي.. لا نجادل إذا قلنا إنَّ الشعر الراقي يقوّم الذائقة ويوفّر الحوافز لاستكناه ما هو معرفي وجمالي وثقافي في مستوى ما نعده أدباً.. ولا نغالي في قولنا إنَّ الأجناس الراقية، إنما تفرز غالباً نمطاً من التفكير السليم، وهي نتيجة منطقية غير قابلة للتأويل، علينا أن نمضي بتصميم أكبر انجازاً وتأليفاً، لأنَّ ذلك ما يُميّزنا عن النكوصيين لكوننا نهتمّ بنماذج من الأدب الرفيع. كلّ كتابة معيارية تعدّ عملية اكتشاف لحقائق أدبية توفّر مدخلاً إلى المعرفة بوصفها مسحاً ميدانياً لمجمل البنى. ولا يبدو غريباً أن يقودنا وعينا إلى اختيار أفضل النماذج الشعرية، وليس النماذج الأقل شأناً، وقد يكون ذلك صعباً أحياناً، فالفرق دلالي في اختيار المعيار، كلّ أدب يعتمد في الدرجة الأولى على الحماس، يجب أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه الخاصية، لأنها تُمهّد الطريق إلى التفكير المنهجي في تناول الشعرية التي تؤمّن مقوّمات الثقافة الحقيقية، وتصقل العقل بسياقاته المختلفة. وهكذا نرى أنَّ الشعر يعدُّ الفيصل في حياتنا الثقافية، وبالتحديد هذا ما يجعل نمو العقل داخل صيرورة التطور نفسها وليس خارجها. ومقابل ذلك يمكن أن يفقد العمل الأدبي أيّ عمل كان، أهميته الاستراتيجية، إذا لم تتحقّق صيرورته الدلالية، وعليه فلا يمكن أن نفهم بدهياً طبيعة العمل الشعري، ما لم تكن لدينا معرفة أولية في البناء اللغوي، وليس بحدود بيبليوغرافيا شكلية لا تمثّل مستوى أبعد من التقنية.. نحن لا نطمع بشيء، غير أنَّ حرصنا وحده يدفعنا من أجل أن نبني صرحنا من صميم لغتنا. * هل ثمّة إضافة في ديوانك الشعري الأخير ‘ نبتة يدي غابة شوكية ‘، في البنية الفنية و الاشتغال على موضوعات تختلف كليّاً عما اجترحتها في دواوينك السابقة ‘بين حدود النفي، وبُرادة الحدود، وأرخبيل الحدائق’، أو بمعنى آخر، ما الذي قدمته للقارئ كجديد في هذا الديوان؟ - بالفعل نحن نأمل دائماً أن يخرج الشاعر من قوقعته عندما يتحرّر من ربقة التقليد، وينطلق ويكتب أدباً راقياً، مهما كانت عملية تشكّل النص معقّدة، لكن علينا أن نراجع كلّ صيغة لتمييزها أنّها قيمة رفيعة، عندما نكتب الشعر لا ينبغي لنا أن نقتنع بما نكتبه، فلا يأتي الإبداع اعتباطاً.. يعدّ الشعر تحديداً تجلّياً لحالات معينة لا تنضج بالوصف ولا بالتقليد، بل بالاكتشاف والمغايرة، فالنص المغاير من شأنه أن يفتح أمامنا تاريخ الإبداع، وإذا ما أنتجنا نصاً جيّداً بمعنى أنّنا اكتشفنا أسراراً جديدةً بدرجات مختلفة، والواقع أنّ النص الشعري الحقيقي لا يصبح أسير رؤية منقوصة إذا ما أصبحت اللغة مرجعاً معيارياً له، وبهذا يمكن أن يحتفظ الشعر بأدبيته أو بمادته المعرفية، وعليه فإنَّ الشعر لا يغدو مفيداً إلاّ في حالات معينة، لأنّ كلّ جملة مرهونة بوظيفة دلالية بغض النظر عن أيّ نقص، كما هو الحال عندما يُهمل الجانب اللغوي الذي يساهم في تقوية النص الشعري، وبخلاف ذلك يعجز الشعر عن أداء وظيفته الدلالية كما أسلفنا، وما يمكن أن يساهم في بناء الشعرية ينطبق على الأجناس الأدبية الباقية.. لا نتردّد في البحث عن الأشكال الجديدة، إذا كانت هذه الطريقة لا تفترض قواعد خاصة تؤطر الشعر، في وسعنا دائماً اجتراح الجديد، نحن نريد كتابةً يقف القارئ حيالها مبهوراً.. هذا ما يلخصه الديوان الجديد للقارئ النموذجي، وهو المساهم الأول في إنتاج المعاني الدلالية وفق رؤيته أمّا إذا لم يلاق الديوان شعبية لدى نفر معين كما يبدو لنا، فهذا لا يعني قطعاً أنه لن يلاقي نجاحاً مهما كان الأداء معقّداً، فذلك يرجع إلى حساسية اللغة، ولفهم هذه المعادلة نأخذ مَلارميه كأنموذج. لا ينفي الأبداع الفعلي سوى الصفات الغريبة، فلم تكن الجمل منغلقة على نفسها بشدّة ولا تعطي إنطباعاً فردانياً ليفضي إلى أبديّة غامضة، ولكي يكون القارئ محقّاً في حكمه فيجب عليه أن يمتلك سلفاً موهبةً سامية كأن يخرج من نطاق الجوقة وتبرير وجودها على أنّها أرث يفرض مشروعيته عليه، كبداية نقول إنَّ كلّ قارئ: كاتبٌ ضمني للشعر أو منتج حقيقي لابتكار حقائق معرفية ضمن عدد هائل من المعاني الدلالية. * الكتابة الشعرية الجديدة ‘دعنا نسميها هكذا’، هل استطاعت ترسيخ إيقاعها وصوتها الخاص عند جمهور القراء، أم هل لا تزال كتابة شعرية نخبوية تعجز عن الوصول الى المتلقي؟ - الشعر دراما العصر إجمالاً مع أنّه لم يبلغ هذه المرتبة، لكنه يقيناً يعيننا على فهم عظمة هذه التراجيديا (المأساة). من البديهي أن تكون الكتابة الإبداعية في نهاية الأمر نموذجية، ليس افتراضاً ولا تخيّلاً، لأنَّ وظيفتها الأولى هي إظهار الأفكار بحلّة غير منقوصة، وبخلاف ذلك لا نستطيع أن نُسمّي ذلك أدباً بمعنى من المعاني، يكفي أن نقتنع أنَّ الإبداع من شأنه يكشف الوجه الحقيقي عن السمات التي لا تمثّل طبيعة النوع الأدبي الخالص، وما ليس إبداعياً، وأحسن مثال للكتابات المثمرة تلك الأشكال المشذّبة المستنبطة من الفن، إذا سلّمنا جدلاً أنَّ الشعرية موضوع الفن. ليس هيّناً إنتاج نص شعري إبداعي ما لم يكن كاتبه مثقفاً معرفياً وقارئاً جيداً ومتابعاً حصيفاً، فكلّ عمل شعري لا بدّ من أن يتحدّد بعمق دلالاته وتنويع وحداته التي تكوّن المعنى، لذلك يمكننا القول إنّ كلّ نموذج عمل فني أو أدبي مرهون بثقافة كاتبه، والنص الشعري الراقي لا يحتاج إلى الإعلان عنه في المحافل ليصفو معياراً، لأنَّ المعيار هو ما يصنع مقبوليته لاكتسابه اللغة، وبكونه قيمة جمالية من مستوىً أعلى، أمّا النص الفقير فأنّنا نستطيع أن نعده (وحدة من مستوى أدنى) لهشاشة تراكيبه التي تتقاطع بطبيعة الحال مع الوحدات الشعرية الخالصة. لا يطالب الشاعرُ متلقّيه بتأويل كتاباته من منظور أكاديمي، ولكن نستطيع أن نقول إنَّ الشاعر يطالب في الأغلب الأعمّ بالغوص في أعماق الدراما الإنسانية التي يجعلها ملمحاً مميّزاً لمنجزه. إذاً على المتلقي أن يساهم ككاتب ضمني في إنتاج ما يعجز عن اجتراحه الشاعر من أجل التلاحم وإنتاج المعاني إنطلاقا من قراءة متتالية تمنح الشعر سمةً لا تلزم قارئه بالانسياق وراء سفسطات خارج السياق الشعري، بل إنّها تقصّر المسافة لتبادل الأدوار لإعادة إنتاج الوقائع وترتيب نسقها حسب الوعي الجمعي انطلاقاً من الذاكرة ومن الواقع المعيش معاً. الملاحظ من غير الممكن الاستغناء عن الشعر، مثلما لا يمكن للمرء أن يقطع صلاته كلّها بجنسه، وبلغته الحميمة التي تغذّيه بإكتشافاتها المعرفية.. لا شك في أنَّ الشعر يغمرنا بنوع من النشوة واليقظة الرهيبة ومن باب أولى يشير إلى أماني متوهّجة تجعلنا نشعر بسعادة تامّة، لكن من جانب آخر ما يشعرنا بالقلق اعتباطية النمط ورداءة التعبير المعبّر عن الإقفار الكامن في المعنى بسبب الدخلاء على الحرفة، وهؤلاء بالطبع يغرّدون طرباً خارج سياق الشعر، ويلقون الكلام على عواهنه، بطريقة تدعو إلى الريبة وتقود دائماً إلى العزلة المقيتة، لذا فالإلتزام بالصمت في اعتقادي خيرٌ من أن يظلّ المرء مهجوراً وتلتمع في ذهنه رؤية سمجة لا يكمن فيها الجمال، وهذه الإشارة تكفي لسقوط قيمة الخيال المجاني.
|