بصدد كتاب (الأدب في خطر) لتزيفتان تودوروف: أنشودة حبّ للأدب |
المقاله تحت باب منتخبات صموئيل بيدو كتاب تودوروف حديث الصّدور’ الأدب في خطر ‘ هو قبل كلّ شيء إقرار : إقرار متحرّر من الوهم لباحث يخال أنّ النقد و التّدريس الأدبيين، فضلا عن العديد من الكتّاب، و بسبب الرّغبة في قطع الأدب عن العالم، أوجبوا على هذا الأدب رؤية ‘ مختزلة حدّ العبث ‘ (ص 17).
جزء عريض من كتاب تودوروف مكرّس لتاريخ الأفكار معيدا رسم الكيفية التي فرضت هذه النظرية عن أدب منفصل أو مكتف بذاته نفسها شيئا فشيئا حتى بلغت الأوج مع الشكلانية و البنيوية. بيد أنّ كتاب تودوروف ليس مجرّد استقصاء لأصول مقاربة الأدب : إنّه أيضا نشيد حبّ للأدب و للمعنى، كما لحقيقة الأدب؛ هذه الحقيقة المنقولة، بل و المعاشة بحدّة هي واحدة من أجمل المعارف المتّصلة بالإنسان و بالعالم. لنوجزْ في البدء فكرة تودوروف بخصوص أصول نظرية الأدب كشكل مقطوع عن العالم. من المرجّح أن يكون الأدب قد انفصل عن العالم بشكل من الأشكال في القرن الثامن عشر من خلال البحث عن الجميل و ميلاد العلم الذي ينشغل بذلك أي الاستيطيقا؛ غير أنّ قرن الأنوار إذا كان شهد تفتّح و تخلّق نظريات الجميل، لا يُنكر مع ذلك صلته بالعالم، بالمعنى، و بشكل من الحقيقة. و الأمر نفسه ينسحب على القرن التاسع عشر، و حتى عند شاعر كبودلير المتعلّق بنظرية ‘ الفن للفن ‘، لكن ما أسرع ما نتبيّن بحثه على أن يوجد في الشعر حقيقة أعلى من الحقيقة العلمية . الجميل هو الغاية لكنّه مرتبط بالأخلاق و بالخير ( يستشهد تودوروف بكانط على سبيل المثال ) و بشكل من أشكال العلم و المعرفة. إنّ الأدب إذن و إلى غاية القرن التاسع عشر مرتبط تماما بالحياة و بالعالم سواء كان مجرّد صورة أو رسم لهذا الأخير ( بمقتضى مقولة التمثيل كما وصفها ميشيل فوكو في الكلمات و الأشياء ) أو كانت هذه الحقيقة الشعرية العليا التي يتحدّث عنها بودلير. يبدو أنّ الأدب و بحسب تودوروف انفصل عن العالم عند نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. أولا عند نهاية القرن التاسع عشر من خلال أزمة اللغة الشعرية مع مالارميه و مع الطليعيين عند بداية القرن العشرين. إنّها الحقبة التي تمّت إعادة البحث فيها عن الأدب، عن المحاكاة، و عن معرفة العالم : تمّت المناداة بأدب مستقل عن حياة المؤلف ولا يتحدّث عن شيء آخر سوى عن نفسه. لا يذكر تودوروف ( يتجاهله بالطبع ) كتاب ‘ ضد سانت بيف ‘ لمارسيل بروست، و الذي ستتمّ الإحالة عليه على امتداد القرن العشرين، و الذي لن ينقطع القول عن أنّه يفصل جذريا حياة المؤلف عن عمله، ( هذا التأويل لكتاب بروست مختزل و منحرف، فبروست نفسه يعترف أنّ العمل الأدبي، في بعض الحالات، و يضرب المثل بدوستويفسكي، يرتبط و بعمق بحياة الكاتب ). يدرس تودوروف بخاصة البحث النقدي المشتغل على الأدب أكثر من الأعمال الأدبية نفسها ( على أنّ الرواية الجديدة في فرنسا تجسّد نموذجا معروفا للشكلانية في الأدب)؛ بالفعل إنّ الشكلانية و البحث عن ‘ الأدبية ‘ و البنيوية هي التيارات الأكثر هيمنة بدءا من النصف الثاني من القرن العشرين، ما يعني أنّ التحليل النفساني في المعالجة تمّ استبعاده باعتباره ‘ لا علميا ‘ . إنّه عصر التجريبية و الوضعية، كما يلزم أن نضيف، و قصد الكاتب أو نيّته اعتُبرا غير قابلين للمعرفة : لا أحد في مقدوره أن يعرف ماذا أراد بلزاك أن يقول في ‘ أوجيني غراندي ‘ ، و المعالجة ‘ الموضوعية’ تقتضي تفحّص ما هي خواص المادّة الأدبية. أليس هذا الأمر أكثر موضوعية و ‘علمية’ من النظر إلى الأدب باعتباره حصيلة رغبة في التحدّث عن العالم و اقتراح رؤية مخصوصة، رؤية متّصلة بالضرورة بحقيقة نفسانية ؟ أليس الأكثر موضوعية القبول بأنّ الأدب يصدر عن شخص موجود و من خلاله يسعى هذا الأدب إلى كشف أسرار العالم و إلى تغييره، كما أوضح سارتر ذلك في ‘ ما الأدب ؟ ‘ كلاّ، كلّ هذا هو ‘ ميتافيزيقي أو مجرّد ‘ و انطباعي، و الدراسة الأدبية ترغب أن تكون ‘ جادة ‘ : نموذجها المحتذى بعد الآن هو نموذج العلوم الإنسانية و لاسيّما اللسانيات الأكثر ‘ تشدّدا أو صعوبة ‘ من ضمن هذه الأخيرة، كما سنبيّن ذلك. يلوح لنا أنّ الرؤية المقترحة هنا من قبل تودوروف بالغة الأهمية، لكن يجدر بسطها ربّما من وجهات متعدّدة و توضيحها في مواضع أخرى. الرغبة في دراسة الأدب ‘ علميا ‘ مرتبطة بإجلال العلم و الوضعية اللذين هيمنا في القرن العشرين و جاءا إلى الأدب على الأرجح ( في جزء منهما على الأقل ) لمطابقة النموذج الإبستيمولوجي لللسانيات مع نموذج التحليل الأدبي. لنذكّرْ بأنّ اللسانيات في هذه المرحلة كانت هي العلم القائد لمجمل العلوم الإنسانية. لقد أوضحت بنيوية دي سوسور بجلاء أنّ اللغة شكل و ليست ماهية أو جوهرا، و توزيعية بلومفيلد تطرح أنّ المعنى لا يمكن دراسته : التحديد السلوكي الذي يقدّمه هذا الأخير في كتاب ‘ اللغة ‘ كاشف تماما للفكرة المهيمنة التي بمقتضاها لا توجد إلاّ ظواهر لا يكون وصفها إلاّ تجربيبيا ( المثال الشهير تفاحة جيل و جاك )(1). كذلك عرف علم الأصوات تطورا باهرا : تشتغل اللغة كبنية ترتبط كلّ عناصرها فيما بينها بشكل متبادل و مشترك، و هذا ما تجليه بشكل واضح التعارضات بين السّمات المميّزة للفونيمات. في الأدب، كانت البنيوية حاضرة ومن قبل مع بروب الذي بيّن أنّ الحكايات الروسية الشعبية يمكن اعتبارها كتتابع وظائف متواترة، و أنّ الشخوص تتحرّك وفق نموذج سيتمّ تطويره من قبل غريماس في شكل خطاطة عاملية؛ و مثلما في علم الأصوات الذي يتمّ البحث فيه عن شكل ينحدر منه المعنى، تتمّ العناية هنا بالهندسية البدئية الأصلية لنوع من الأنواع الأدبية. إنّها المرحلة التي عرفت أخيرا نجاحا باهرا للدراسات المنطقية للغة كما عند فريج. يلزم انتظار أوستين و نظرية أفعال الكلام ليتمّ الاعتراف في نهاية الأمر بأنّ جملة ما ليست بالضرورة صادقة أو كاذبة. إنّ اللسانيات تستهوي العقول لأنّها، ربّما، تدرك و تصل إلى الموضوعية و تأثيرها على الدراسة الأدبية لا مراء فيه. إلاّ أنّ تودوروف لم يأخذ بالاعتبار وجود مقاربات أدبية عديدة تمنح الامتياز لدراسة المعنى، كما النظرية السارترية عن الأدب التي أشرنا إليها أعلاه؛ كما كذلك المقاربات النفسانية و السوسيولوجية للأدب، كما أيضا جمالية التلقي، حتى لا نذكر إلاّ هذه. و الشأن ذاته في اللسانيات : يمكن أن نجد مقابل المادية البنيوية التصوّر التركيبي / النحوي عند Tesni’re، أو علم النفس الآلي الذهني عند غوستاف غيوم، أو منذ عهد قريب النحو التوليدي لنعوم تشومسكي. هؤلاء اللسانيون الثلاثة يبحثون عن المنظور وراء اللامنظور و يرغبون في دراسة اللغة كطاقة و ليس كآلة متّبعين أمنية Humboldt (2) الحاضرة عند هؤلاء اللسانيين. هذه النظريات هي على الأرجح الأكثر إثمارا لسانيا في القرن العشرين، هي التي تطمح أن ترى اللغة كما لو أنّها ‘ تتخلّق أو تصنع نفسها ‘. لقد تعرّضت هذه النظريات بالطبع إلى العديد من الانتقادات و خاصة علم النفس الآلي لغوستاف غيوم و القائمة على أساس أنّها ‘ ميتافيزيقية أو مجرّدة ‘ . هذا صحيح تماما، و إن كانت ‘ ميتافيزيقية أو مجرّدة ‘ ما الذي يجعل هذه المقاربات أن تكون أقل ملاءمة من المقاربات المادية ؟ ما حصل هو حكم مسبّق علموي لا أقل و أكثر. لقد حلّل بنفنيست هذه الظاهرة بعمق في حوار أعطاه لمجلة الآداب الفرنسية و تمّت إعادة نشره في الجزء الثاني من كتابه ‘ قضايا اللسانيات العامة ‘. يقول : ‘ كانت البنيوية في أمريكا تحظر أيّ انتقال إلى ما هو ‘ ذهني أو عقلي ‘ . العدو، الشيطان كانا النزعة العقلية أو الذهنية أي كلّ ما يحيل إلى ما ندعوه بالفكر. لم يكن هناك إلاّ شيء واحد جدير بالاعتبار هو المعطيات المدوّنة، المقروءة أو المسموعة التي يمكن تنظيمها ماديا ‘. يمكن تماما أن يتحقّق نقل هذا التحليل إلى الدراسات المهيمنة في مجال الأدب ما لم يتم تجاهل أنّ الدراسات الأدبية عرفت هي الأخرى أشباه هؤلاء اللسانيين الثلاثة. هذا هو التوضيح الذي يلزم أن نقدّمه للتحليلات _ لنكرّرْ القول مرّة أخرى _ بالغة الأهمية لتودوروف. يبدو لنا أيضا أنّ تاريخ نظريات الأدب كما استعرضها تودوروف يمكن بسهولة أن نستبدلها بتاريخ الأفكار بصفة عامة، و أنّ أوليّة الشكل على المعنى هي خاصية تميّز بالفعل النصف الثاني من القرن العشرين على وجه الخصوص. الأمر صحيح في الأدب و في نطاق تدريسه بدءا، لكن الأمر نفسه صحيح أيضا من زاوية نظر سوسيولوجية : الاثنان مرتبطان بعلاقة استلزام و اقتضاء أحادية الجانب، الإبستيمي الاجتماعي هو في الأصل من الابستيمي الأدبي.غير أنّه يعود لعلماء الاجتماع تحليل هذه الظاهرة التي تبدو اليوم مستنفدة. يتراءى بالفعل أنّ البحث السوسيولوجي عن المعنى يعود و أنّ هذا البحث يتمظهر كذلك في الدراسات الأدبية. كتاب تودوروف الذي هو بمثابة مانيفست ( بيان ) هو البرهان سوى أنّه ليس الوحيد الذي أشار إلى عودة الأبحاث عن المعنى. أذكر مثال علم الدلالة التأويلي لفرانسوا راستيي فيما يخصّ التحليل الأدبي المنحدر من اللسانيات : هدف فرانسوا راستيي تلميذ غريماس هو نقل علم الدلالة البنيوي إلى النص الأدبي من خلال مقولة السّمة الناقلة ( وحدة دلالية دنيا ) مع المحافظة على قسم من الدراسات السردية المنحدرة من البنيوية الكلاسيكية. تسمح أعمال راستيي بإنارة معنى النص بكيفية داخلية بالتأكيد ( راستيي لساني )، و مع ذلك نبقى ضمن مستوى المعنى. من المناسب بالطبع تطوير هذه المقاربة الأولية بمقاربة نصية لاحقا؛ بمعنى مقاربة بيوغرافية، تاريخية، اجتماعية، أو نفسانية، لأنّ هذه المقاربة هي الجديرة بالأدب قبل كلّ شيء : العمل الأدبي ينتجه شخص حقيقي، مندرج ضمن سياق سوسيو_تاريخي حقيقي أو واقعي. يمكننا في هذا الصّدد التفكير بأعمال أمبرتو إيكو حول تعيين مقاصد الكاتب. يلزم ضمن هذا المنظور تدريس الأدب، هذه أولوية. يحلّل تودوروف غروب قطاعات أدبية بفرنسا، كما حصيلة التعليمات الرسمية التي تطرح على الخصوص دراسة السجلاّت و الصور… إلخ. لكنّها تنسى أن تذكر أنّ الأدب هو قبل كلّ شيء مسألة معنى و أحاسيس. يرسم تودوروف، في صفحات رائعة، قوّة الأدب و المعرفة النفسانية و الإنسانية التي يمكن أن يحملها لنا؛ يكتب و هو يستحضر رواية ‘ الأبله ‘ لدوستويفسكي : ‘ اكتشفتُ في يوم آخر أنّ للحياة بعدا كنتُ أستشعره من قبل، غير أنّي مع ذلك تحقّقتُ على الفور من أنّه حقيقي : رأيتُ ناستاسيا فيلبوفنا من خلال عيون الأمير ميشيكن، ‘ أبله ‘ دوستويفسكي. كنتُ أسير معه في شوارع بطرسبرغ المقفرة، و قد اجتاحته نوبة صرع مداهمة. ليس في مقدوري الامتناع عن التساؤل : لماذا ميشيكن، أفضل الرجال، والذي يحبّ الآخرين أكثر من نفسه، عليه أن ينهي حياته التي آلت إلى عتاهة محبوسا في مشفى للأمراض العقلية و النفسية ؟ ‘ (ص 72 ) ما يتمنّاه تودوروف هو هذا التدريس للأدب الذي يعتبر هذا الأخير بمثابة تساؤل مطروح على العالم و مقترح معنى، على الأقل في المرحلة الثانوية؛ بمعنى تدريس إنسي يلزم بثّه لطلاّب كلّ التخصّصات، لدارس التاريخ أو الاجتماع أو لدارس الطب الذي ‘ في إمكانه أن يتعلّم من هؤلاء الأساتذة ( شكسبير، سوفوكل، دوستويفسكي، بروست ) أكثر من دروس الرياضيات التي تحدّد اليوم وجهة حياته ‘. ( ص89 ) الشكلانية و البنيوية ليستا مبعدتين، من المقاربات الأدبية بالطبع ( إنّها مواد يمكن أن تكون غالبا أكثر ملاءمة للتحليل )، لكن يلزم أن تبقى وسيلة تابعة لدراسة المعنى و ليس غاية كما كانتا. يذكر تودوروف دوستويفسكي مرارا، و من الجلي أنّ العمل الأدبي عند مثل هذا الكاتب هو انعكاس للحياة، إن كانت حياة نفسانية أو حياة معاشة بشكل واقعي. نحتفظ بنموذج ‘ الأبله ‘، فأن يكون دوستويفسكي حُكم عليه بالإعدام و تمّ العفو عنه في آخر لحظة، فهذا يمنح حرارة فارقة للانتقادات اللاذعة للأمير ميشيكن تجاه عقوبة الإعدام. كذلك حين يروي الأمير ميشيكن قصة محكوم سابق عليه بالإعدام الذي تخيّل نفسه، قبل أن يُعفى عنه في آخر لحظة، بأنّه هو نفسه قبّة الكنيسة، تلك التي كان يراها أمامه، فلا نقرأ شيئا آخر سوى ما تخيّله دوستويفسكي نفسه أمام مفرزة الإعدام؛ و ماذا نقول عن حالات الصرع عند الأمير ميشيكن و أزماته التي هي شبيهة بتلك التي كانت تهزّ دوستويفسكي و التي تمّ أيضا تسجيلها في ‘ الزوج الأبدي ‘ كما أنّ ‘ ذكريات منزل الأموات ‘ مرتبطة ( من يجرؤ على نكران ذلك ؟ ) بالتجربة الفظيعة لسجن الأشغال الشاقة التي عاشها دوستويفسكي. لكن، لنأخذْ الكاتب الذي، كما يبدو، كان الأكثر رغبة في فصل حياة الكاتب عن عمله الأدبي، مارسيل بروست. لقد كانت رواية ‘ البحث عن الزمن الضائع ‘ وثيقة الصّلة بحياة الكاتب. الحضور الكلّي لموضوعة المثلية الجنسية هي البرهان الواضح. أن يكون السارد المسمّى مارسيل، و لو لمرّة واحدة ليس بروست، فهذا أمر بدهي : ‘البحث عن الزمن الضائع′ ليس سيرة ذاتية. لكن أن يكون هذا السارد، مارسيل، مغرما بفتيات لهنّ جميعا أسماء شخصية ذكورية ليس بالتأكيد رهين صدفة : جيلبرت، أندري، ألبرتن، فالحالة لافتة للنظر حتى تتمّ الإشارة إليها. يمكن القول، و هذا صحيح، إنّ هذا الشأن مرتبط بحضور المثلية الجنسية في ‘ البحث عن الزمن الضائع ‘، حيث العديد من الشخصيات، و لاسيّما شارلو، تكتشف تدريجيا أنّها ذات ميول مثلية. على أنّ الحضور الكلّي للمثلية الجنسية هو بالطبع ناجم عن حياة مارسيل بروست ذاتها. في المقابل، ألا تفشي هذه الأسماء الشخصية، بشكل أبعد، نزوع بروست، المؤلف الحقيقي، و ليس مجرد السارد فقط، إلى أن ينقذف في عمله و يحيا من خلاله و بشكل لاشعوري مع سارد لا يتسمّى مارسيل إلاّ اتّفاقا ؟ إنّه سؤال الحياة المعاشة في الكتابة من قبل الكاتب مارسيل بروست المطروح هنا. كلّ الأعمال الأدبية مرتبطة باعتقادات كاتبيها، برؤيتهم للحياة، للحبّ، و بأخلاقهم الشخصية. إذا كان على الدراسات الأدبية أن تستلهم حتما من اللسانيات، يبدو لي أنّ لها منفعة في الاهتمام بنظرية أفعال الكلام و اعتبار الأدب عملا تخاطبيا ينجزه شخص حقيقي، يبحث، في الآن نفسه، على تغيير العالم بكشف أسراره ( سارتر )، و لكن أيضا أن يصير هذا الشخص محبوبا من خلال عمله، أن يعبّر عن أحاسيسه الحقيقية و أن يقترح معنى جديدا على قرّائه. طبعا، في المقابل، هناك دوما الرغبة في التأثير على أشخاص معيّنين؛ المرأة الحبيبة، أو الأصدقاء، أو أشخاص مجهولين. سيكون هذا المنظور في دراسة الأدب قطعا أكثر واقعية من تلك التي تثابر على اعتبار الأدب شكلا لا علاقة له بالعالم و منقطعا عنه بالضرورة. لمّا نقرأ فيدور دوستويفسكي لا يمكننا أن لا نفكّر و بحزن و بحنوّ في كلّ هؤلاء الأشقياء و سجناء الأشغال الشاقة و بؤساء النّاس الذين يتكاثرون في كتبه و الذين أحبّهم إلى درجة عالية. كلّ هذا العنف الاجتماعي و الأخلاقي و الجسدي الذي يصفه، كان الشاهد عليه و قاساه و كابده. كتبه حبّ مؤثّر للنّاس حتى الأسوأ منهم، و من الجلي أنّ الكاتب الروسي يسعى لكي يقترح على قارئه معنى جديدا للحياة و أن يولّد عنده ردّة فعل. مثال ذلك التساؤل الذي يطرحه تودوروف على الأمير مكيشين . سيفكّر قارئ فيدور دوستويفسكي في كلّ معاناة الكاتب و سيخطر بباله أنّه كان هناك الكثير من النّاس الفقراء و أنّه لا زال الكثير منهم يعيشون في بؤس اجتماعي و نفسي، و لا أحد يهتمّ بهم، و الذين يموتون مجهولين دون التجاسر على الشكوى و دون التجرّؤ على طلب شيء، ‘ و قد سحقتهم الحياة ‘ حتى نستعيد العبارة الموجودة في ‘ ذكريات منزل الأموات ‘. إنّ قراءة كتب دوستويفسكي إذن و التي تتحدّث عن هذه الآلآم ستجعلنا نغيّر من علاقتنا بالآخر و بأنفسنا. ألسنا هنا أكثر قربا من حقيقة الأدب و من محفّزاته النفسانية أكثر من البحث عن بنية النص التي لن تساهم بشيء في دراسة معناه الحقيقي ؟ هذا ما نعتقده على أي ّحال و هو أيضا ما يقترحه علينا كتاب تودوروف بكثير من الإقناع و اليقين. -----------------------------------------------
هوامش ( من وضع المترجم ) |