سنان أنطون: كل شاعر يصدر عن سلالة معينة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات "ليل واحد في كل المدن»، عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للكاتب العراقي سنان أنطون،
الصادرة حديثا عن منشورات الجمل، وفيها يتابع رحلته، في الكتابة، الموزعة ما بين الرواية والشعر. حول الكتابة والمجموعة الجديدة، هذا الحوار. * مضت سنوات لا بأس بها منذ أن أصدرت روايتك «إعجام»، قبلها كانت هناك مجموعة شعرية، اليوم تعود للشعر، وثمة رواية في الأفق. أولا ما سرّ هذا التأخر، ولو لم يكن كبيرا، عن النشر؟ ثانيا، كيف تفسرّ هذا التناوب في الكتابة، أقصد بين الشعر والرواية؟ - سرّ التأخّر هو أنني كنت منهمكاً بكتابة أطروحة الدكتوراه التي استغرقت عدّة سنوات، كما أنّني كنت بدأت كذلك بالتدريس في الحقل الأكاديمي وهذا كلّه يستنزف جهدا ووقتا ولا تبقى إلا سويعات قليلة كل أسبوع للإبداع. ومع ذلك فالقراءة كانت مستمرّة بالطبع وهاجس الكتابة وممارستها حاضران بغض النظر عن النشر. بدأت بكتابة هذه الرواية منذ سنة ونصف وأنا الآن على وشك إكمالها. العام الماضي حصلت على منحة سمحت لي بالإقامة في برلين وبالتفرّغ المؤقت وهذا أتاح لي الفرصة لالتقاط أنفاسي الإبداعية، إن شئت، والعودة إلى كتابة الشعر وتكريس الوقت كلّه للقراءة والترجمة بعيداً عن ضجيج الجامعة ومتطلبات التدريس اليومي. تجربة برلين كانت رائعة ثقافياً ووجوديّاً وأمدّتني بزخم شعري جديد وغزارة لم أعهدها من قبل. هناك نصوص كثيرة لم أنشرها بعد. ليس هناك تناوب مقصود أو مبرمج بين الرواية والشعر، فهاجس الشعر حاضر دائماً. وهناك مشروع رواية ثالثة لكن يجب وضعه، مؤقتاً، على الرف لأن طبيعة عملي الأكاديمي تتطلب أن تكون الخطوة القادمة نشر أطروحة الدكتوراه لتثبيتي في مهنتي وبعدها رواية ثالثة ورابعة وشعر إن أراد شيطان الشعر!. * منذ العنوان، عنوان مجموعتك الجديدة «ليل واحد في كل المدن»، تحيلنا إلى كتابة المكان، ولو جاء أحيانا بشكل مستتر. ماذا يعني لك المكان، أنت الكاتب العراقي؟ - ما زلت اكتشف ما تعنيه لي الأمكنة وليس لدي جواب محدّد، بل أجوبة، على سؤالك الماكر. نحن لا نعيش المكان ولا معانيه أو ذكرياته بصورة مباشرة أو محايدة. فلكل مكان صوره وتمثيلاته الموجودة أصلاً في المخيال الثقافي والاجتماعي والتي تفرض نفسها علينا كنسخ متشابهة ومختلفة في آن واحد، نلونها نحن، بما في جعبتنا من ألوان وهذه الأخيرة تعكس، دائماً، منطلقاتنا الثقافية والأيديولوجية التي لا نعيها في الغالب. وهكذا يصبح المكان الواحد أمكنة كثيرة لأننا نقاربه ونراه بطرق مختلفة. ما يثيرني حقاً هو كيف أن الأمكنة تتداخل وتتعايش مع بعضها البعض فتسكن مدينة ما مدينة أخرى في ذاكرة الإنسان، خصوصا المهاجر، فتجد نفسك تمشي في شارعين في وقت واحد أو تعبر شارعاً مقفراً في مدينة لا تعيش فيها ولم تزرها منذ سنوات. أنا من بغداد وأمضيت نصف عمري فيها. لذلك فهي المكان الأول الذي يعاودني طيفه أحياناً وكوابيسه دائماً. وقد عانت ما عانته في عهد الدكتاتورية المتوحشة التي يتناساها البعض الآن، ثم أدخلها الاحتلال ووكلاؤه المحليّون منذ 2003 في خراب جديد وأطلقوا عنان الموت في شوارعها كل هذا الخراب والموت والتشويه يؤرقني ويحيرني أيضاً. أهرب إلي ذاكرتي أحياناً لأدوّن ما تختزنه عن بغدادي التي لم تكن تفصل حاراتها، المنقاة طائفيا الآن، جدران كونكريتيّة وكان المرء يمشي فيها دون أن يقتل بكل سهولة. وأقلّب الكتب بحثاً عن «بغدادات اندرست». أبحث في الانترنت عن صور شوارعها الآن. أركض خائفاً فيها وأنا جالس في قارة أخرى و.. و.. ولا يعني كل هذا أنني لا استمتع وأتلذّذ باكتشاف الأمكنة الجديدة والتعرف على المدن. بالعكس، لكن ليل بغداد يتسلل إلى ليلي. ولعله أكثر من ذلك في برلين لأنها مدينة عانت ما عانته من حروب وذبح. *تطرح في جوابك قضية كبيرة وهي قضية الذاكرة. هل نحن ذاكرتنا فقط؟ - لا، بالطبع، لسنا شيئاً واحداً فقط. لكن لا مفر من التاريخ، الفردي والجمعي. كما أن الذاكرة، خصوصاً في مجتمعات دمرتها الحروب والفاشيّة، تكتسب أهميّة إضافية لأنها المسرح الذي تستمر فيه الصراعات وتحاول قوى سياسيّة أن تبرئ نفسها من جرائمها وتعيد إنتاجها من جديد تحت عناوين جديدة والأمثلة كثيرة في لبنان والعراق. لقد كتب فالتر بنيامين عن أهميّة التذكّر الديناميكي الخلاق وأهميّة إنقاذ ذكرى الضحايا و «حصتهم في الغد. الماضي دائماً متورّط في الحاضر والمستقبل وفي محاولة تحديد سماتهما.. * بعيدا عن مكان الذاكرة، لا بد للمكان الجديد أن يطرح ذاكرته المستقلة، المتمثلة بدورها في العديد من الأشياء، أحسّ ذلك من كلامك عن برلين مثلا؟ وأميركا ألم تشكل ذاكرة أخرى؟ لكن حين تحاكمها على ضوء الماضي، فلا بدّ أيضا أن تفقد الأشياء كلها؟ - طبعاً، أرجو ألا تكون قد فهمت من جوابي بأنني ختمت الذاكرة بشمع أحمر وأقفلت أبوابها! كل مكان يشكّل إضافة جديدة وانفتاح على حيوات وتواريخ شتّى. متميّزة لأنها تختصر، برأيي، تناقضات العصر الحديث. ففيها الإنجازات الثقافية والحضاريّة الهائلة أدباً وموسيقى، جنبا إلى جنب برلين مع تاريخ الدمار والحروب ومحو الآخر أما أميركا فهي تشكل، بالطبع، ذاكرة أخرى إضافية بالنسبة لي فأنا أعيش فيها منذ ما يقارب عقدين. لكنني لا أحاكمها، وهذه المفردة التي استخدمتها أنت، على ضوء الماضي فقط! سؤالك يفترض بأنّي أقارب أميركا بكل ما قد تعنيه بطريقة أحاديّة. أميركا عالم غني ومتنوّع ثقافيّا ووجوديّاً وأنا ما أزال أكتشفه وأتعمّق فيه وخصوصاً في مكان مثل نيويورك، لكن أميركا أيضاً امبراطوريّة تحتل بلدين، واحد منهما هو العراق وتدعم هذه الدكتاتوريّات العفنة المنتشرة ولا يمكنني أن أتغاضى عن كل هذا معارضة وانتقاد سياسات الحكومة الأميركية الداخليّة تجاه مواطينها وحروبها الإمبراطورية وسياستها الخارجية لا يعني أنّي أجرد أميركا من ثقافتها أبداً أو أضعها بملايينها في سلّة واحدة. * تجمع في كتابك قصائد تمتد على فترة زمنية تصل إلى عشر سنوات. ألا تخشى أن يقارن القارئ بين «تجارب مختلفة» في المجموعة، على الأقل من حيث الفترة الزمنية؟ أطرح هذا السؤال لأصل إلى فكرة تؤرقني كثيرا: ما معنى المجموعة الشعرية، هل هي ضم لقصائد متفرقة، أم أنها كتاب كامل نعمل عليه منذ البداية وحتى النهاية؟ -جمعت كل ما أراه جديراً بالنشر من بين ما كنت كتبته في هذه السنين ليعكس تجربتي فيها. إذا هناك، ضمناً، زعم بأن القصائد التي كُتِبَت قبل عقد من السنين ما زالت فتيّة وقادرة على إغواء القارئ ولها مكانها. لا أرى إشكالية في أن يتسنّى للقارئ أن يطّلع على تنوّع واختلاف وتطّور في التجارب، فهذه علامة إيجابية تشير إلى نضج. ولهذا قسّمت الديوان إلى ثلاثة أقسام يعكس كل منها مرحلة زمنيّة مختلفة ومقاربات مختلفة نوعاً ما.. أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك، فيجوز الوجهان. معظم الدواوين وفي كلّ الثقافات ضم وجمع لقصائد متفرّقة وحتى تاريخ مفردة «ديوان»، التي كتب عنها أحد المستشرقين مقالة كاملة، وهي فارسيّة الأصل، يحيلنا إلى فكرة بنيان وإطار يحمي ما هو ثمين ويحرسه من عوادي الزمن! إرشيف. لكن هناك، بالطبع، مجموعات تهيكلها ثيمة أو هاجس أو سردية ما وبالتالي يكون لها معمار أكثر تعقيداً وتقوم كل قصيدة أو مجموعة من القصائد بدورها المحدد في تعميق الفكرة الهيكليّة وتطويرها. لعل بعض دواوين محمود درويش هي خير مثال على هذا. نحن في زمن بدأ فيه الكثيرون بنعي الثقافة الورقية والكتاب، كما نعرفه، والطوفان الالكتروني يجرف كل شيء، لذا فقد يصبح للكتاب الورقي، وخصوصاً ديوان الشعر، مكانة أيقونية. وقد يكون هذا جميلاً ما أود قوله هو أن العالم المادّي وقوانينه وضغوطه تغيّر نظرتنا لكل شيء. والتشتّت والتشظّي الذي هو سمة العصر أخذ يؤثر على فكر الإنسان واستيعابه لما حوله حتّى ضاقت القدرة على التركيز والانتباه بدون مقاطعات وتداخلات من كل صوب. حتى صار إكمال قراءة كتاب بأكمله عبءاً على الكثير. فأرى أن الزخم في الحيّز الثقافي هو، للقصيدة أو النص المفرد على حساب الدواوين. ولا ضير في ذلك. أجدني قد ابتعدت قليلاً عن محور سؤالك، لكن ما أردت أن أصل إليه هو أن الهاجس الأساسي، بالنسبة إليّ، هو القصيدة، كحيّز جمالي يكاد يكون سحريّاً، يتحقّق فيه معنى وجودي وغايته، ومحاولتي لأن أجد طريقي إليها لأكتبها. وهكذا يكون كل ديوان وقفة ونظرة إلى كل المحاولات المختلفة السابقة للوصول إلى ذلك المكان واللامكان السحري، ثم مواصلة الرحلة. القصيدة هي كتاب الحياة الذي نظل نعمل عليه دون أن يكتمل! وفي هذا العالم القاسي تظل هي الحيّز الذي ندافع فيه عن حقوقنا الجماليّة والوجوديّة ونتمتع بها! * يبدو شعرك وكأنه نابع من مكان آخر للكتابة، أقصد غير ما عرفناه – بشكل عام – في القصيدة العراقية. تميل أكثر إلى السرد – إذا جاز التعبير ـ أي وكأن ثمة محاولة للقطع مع كل أنواع الشعرية؟ أريد أن أسأل عن هذا الحيز الذي تأتي قصيدتك منه. - افترض أن هاجس الشاعر الحقيقيّ والتحدّي الأكبر هو في أن يأتي بجديد ما في خطابه الشعري. فيجب أن تكون هناك محاولة، وإن كان مصيرها الفشل، للقطع مع ما هو سائد ومكرر ومع ما أصبح سلطة شعرية ونمطاً. وبهذا أقرأ الجملة الأولى من سؤالك إيجابيّاً! عندي رهبة من الشعر وكتابته ولا أستسهل الشعر ولا الكتابة ولا أريد أن أضيف إلى ركام الكلام المتشابه الذي لا يترك أثراً في القارئ.. لكنني لا أتفق معك في أن الميل إلى السرد يعني، بالضرورة، القطع مع كل أنواع الشعرية. هناك ثلاثة نصوص في المجموعة يطغى عليها السرد شكلاً ومضموناً، أما البقية فهناك هاجس السرد في بعض منها ولكن أرى أنها تميل إلى أساليب أخرى. ثم أن السرد سمة أساسيّة في الشعر، خصوصاً الحديث وحتى العربي منه ولا حاجة للأمثلة... أما عن الحيّز التي تأتي منه قصيدتي فلا شك أن أحد منابعها هو اللاوعي الثقافي والوجودي الذي لا يمكنني تحديد معالمه بالضبط. إذا كان الشعر هو خلاصة المعرفة البشرية، كما يقول ووردزورث، فإن منابع القصيدة هي، بالإضافة إلى اللاوعي، كل ما يختزنه الشاعر معرفياً وجمالياً وحسيّاً بشكل عام من تجارب وتأمّلات وقراءات في الشعر والحقول الأخرى. وكل شاعر يتموضع، سواء شاء أم أبى، في سلالة شعرية وثقافية معينة. بالطبع من المستحسن أن تكون خلاسيّة فأساتذتي لا يتكلمون ذات اللغة ولا ينتمون إلى ثقافة واحدة. التراث الشعري العربي غني ورائع ويخسر الكثير من الشعراء الشباب بإهماله. فأنا دائم العودة إلى دواوين القدماء لأنهل منها. كما أنّني أتعلم من المعاصرين باستمرار. استفدت كثيراً من ترجمة الشعر التي أمارسها منذ سنوات. فهي أهم تمرين، برأيي، بعد الكتابة نفسها لأنّك تواجه تحديّات العثور على المفردة الملائمة ونقل صور وتعابير من حيّز إلى آخر. أليس هذا هو الشعر أساساً؟ ترجمة ما لا يقال إلى لغة يقال فيها! وأنت تعرف هذا من ترجماتك. كنت قد قرأت جملة لسركون بولص في حوار قبل سنوات طويلة ينصح فيها الشعراء بالترجمة، إن أمكنهم، وهذا ما أفعله، حتى بدون أن أنشر ما أترجمه على الحواشي. لكن لعل الأكثر تأثيراً فيّ مؤخراً هو قراءة أعمال الشاعر الأميركي جارلز سيميك و ترجمة الكثير من قصائده وقد أدمنت قراءته وترجمته. إنه حقاً شاعر رائع يختلف شعره عن كل ما يكتب من شعر في أميركا وهو من أهم شعراء العالم الأحياء. وما زاد من إعجابي به هو أنه، على عكس غالبيّة الشعراء الأميركيين المعاصرين، لا يتهيّب من الكتابة عن موضوعات يتجنبّها الآخرون عموماً. موضوعات سياسيّة لها علاقة بالتعذيب والحرب ومذابح التاريخ، والأخير هاجس أساسي في أعماله. لكنه يقارب كل هذا بطريقة مختلفة تماماً وبدون أن تشكّل عبءاً على شعرية النص أو تخسره شيئاً من روعته، فتجد تأثير السورياليّة والفلسفة في شعره، كما تجد مناخات سوداوية وسخرية عالية مع أن الموضوع هو المذابح والحروب. من ناحية أخرى تجد قصائد رائعة عن الطعام والطبخ، فيستخلص جماليّات اليومي والعابر ويصبح كل ما تقع عين القصيدة عليه سحراً. وعصا السحر، بالطبع، هي الصور والاستعارات الرهيبة. شعر يضربك في الصميم ويذكرك بإمكانيات الشعر الخرافيّة. فتعيد قراءة القصيدة مرات ومرات. فأنا ما زلت أتعلّم وأستفيد منه. كل هذا ربما لأقول لا أعرف بالضبط من أين تأتي القصيدة، لو عرفت لذهبت هناك. عن الناس
|