(الإرهابي) لديفيد معلوف بترجمة سعدي يوسف

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
18/09/2011 06:00 AM
GMT



يقودنا الأديب اللبناني ديفيد معلوف في روايته "الإرهابي"، ترجمة سعدي يوسف، "دار التكوين"، عبر مغامرة مفتوحة إلى تخوم الرواية السؤال، ليخوض عبر سلسلة من الأوهام والحماقات جدلا رفيعا بين الوعي والإحساس، مناقشا فرضية القتل كمقدمة لاغتيال الخلاّق!
يرصد معلوف بحرفية عالية وذهنية متوقدة قاتلاً مركّباً من العقل فقط، يلبسه ثوب شاب في التاسعة والعشرين من عمره، ويحمله إعلاميا اسم الإرهابي، ويدفعه نحو اختراق ذهن الكاتب الروسي دوستويفسكي ليتعشق بطل "الجريمة والعقاب" راسكولينكوف، ويخرجه من سلبية التخبط في مأزقه إلى رحابة أوسع توسوس له بمحاكمة مبدعه، على غرار بوذية زن: "إذا رأيت البوذا، اقتل البوذا"!
يلتحق الشاب الذي يبقى مجهول الاسم طوال الرواية، بمنظمة سرية توظفه وتؤهله لاغتيال مؤلف مشهور. يعيش خلال ستة أسابيع في شقة صغيرة لضمان الخصوصية والانضباط. منذ البداية ينفي معلوف عن طبعه صفة الكآبة والانكفاء، كي يسوقنا إلى مفهوم خطير هو معاينة الحقائق المجردة كتمرين على الانبعاث النهائي للقاتل، مما يقود إلى مساحة زمنية مجردة ينعطف فيها التاريخ الشخصي للبطل، حيث تتأجل مطامحه العليا وآماله في المستقبل، وبراءته الشرعية، ليخترق بمجهولية باردة المجال الحيوي لإنسان آخر. أما كون الحدث قتلاً فالأمر لا يهم، لأن الشيء المهم هو عدم رؤية الحدث المنفرد معزولا. فعلاقة الشاب مع المنظمة تشمل حدثا منفردا، والجريمة التي يرتكبها ليس لها استمرار فيه، وليس في جغرافيتها، وسياستها، وسيكولوجيتها، ما يؤدي إلى ما هو عليه. أقرب تبسيط يلتمسه معلوف عن عزلة القتلة وكثافة تدريبهم، صورة الرياضي وهو يعيش يوما بعد يوم، في كل عصب من جسده، وفي كل عرق من إرادته، مع حدث. وإذ يستبعد معلوف صورة الراهب الدينية التي تعني إخضاع الفردي لفكرة أوسع، فإنما يبلور مفهوم "القدرة الخاصة على احتمال الوحدة"، كي يثبت أن عمالقة عصرنا هم أولئك الأشخاص الوحيدون، الذين يرون في أنفسهم خصمهم الحقيقي.
تبدو رواية "الإرهابي" كروايتين على التوازي، أو رواية داخل رواية، الأولى خاصة بالقاتل الشاب المكافئ المعادل لبطل "الجريمة والعقاب"، والثانية تختص بكاتب يحاكم آخر كي يصل إلى الإشراق الأدبي.
تظهر الرواية الموازية أن الضحية كاتب لديه إحساس خاص بمحنة المهزومين، لكنه بالرغم من إصراره على الحمق والضياع الإنسانيين، وبالرغم من سوداوية نظرته، لا يغفل البتة عن حقيقة أن حياة الأشياء، يوما بعد يوم، بل في أعوام الرعب الأعمق، تستمر على الأنماط القديمة وطبقا لأقدم النظم وأكثرها عادية. اكتمال وتوازن، تلك هي الحقيقة العظمى. ولا يوجد كاتب آخر يذكّرنا، بمثل هذا الاقتناع، لما في حياتنا مما ينبغي اكتشافه، والتمتع به، والانتفاع منه، في المنطقة الضيقة بين الانتشاء واليأس. في هذه الناحية يغدو معلوف امتدادا لدوستويفسكي، كأنه يهمس لنا: "هذه خدعتي الخاصة وأنا ألعبها جيدا"، وقد استغرقت مني ستين عاما كي أحقق هذه الخلطة من التهور واليسر. هذا التوازن الدقيق بين الصرامة الأخلاقية والانفتاح المستسلم لدمار الأشياء، يجعل المؤلف يتساءل أأنا، حقا، الرجل العظيم ذاته، أم مجرد طفل يلبس لبوس الرجل العظيم؟ في اختلاط أدبي ماكر يؤكد معلوف بصوته المتداخل في السرد أنه ينساق مع أهواء مدمرة، مع الجنون، والفساد، والهرب إلى المرض، لاختبار قدرته على المقاومة، واستدعاء التبادل، ومعانقة قوى تزيد من توتر عمله. لكن الأبخرة السامة المنطلقة لا تتلاشى فورا، بل تظل معلقة حوله، وتنتقل من مخيلته إلى مخيلة الآخرين، وتتخذ أشكالا حقيقية لأنهم لا يملكون القدرة على المقاومة. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية للأفكار التي ترسو في غير مكانها الصحيح، والتي تتجاوز فاعلية القتل ببعده المادي إلى الروحي.
يقوي معلوف فكرته عن تداخل الطاقة الخلاقة بتشبيه عن "حجر يصقله الكلام"، كي يبرر أن كل مقطع سواء أكان حقيقيا أم زائفا، يعمل تغييره الصغير في شكل الشيء. فهذا الحجر القديم وقوة التشويه التي يخلقها حضوره، والضوء الغريب الذي سوف يلقيه على قصته، يتمثل كوهج شنيع، يتلمسه وهو يكتب. لكن ما يقلقه على وجه الخصوص هو العبث بالزمن، لأن التباسات الشكل والاتجاه موروثة في فكرتنا عن الزمن.
في تداخل الأصوات نعود إلى المؤلف الذي يزعم أن الطاقة الخلاقة والطاقة الأخلاقية أيضا، تعود إلى طبيعتنا الحيوانية، وبراءتها الجوهرية تقود حاجتنا إلى إعادة الصلة، كي نجد طريق عودتنا إلى البستان، فنتمدد في كل معرفتنا الخطرة وقوتنا، مع الوحوش. هذه الفكرة تستدعي لديه صورة مجموعة أطفال يرتدون ملابس آبائهم، نفاسة العلّية لعصر منتهٍ، يسميها مَلْعبة طفل. بذلك يكون المؤلف قد اكتشف في أقنعة البطل وتحولاته، ورفضه القاطع البقاء داخل حدود "الشخصية"، كائنا لا ينتسب إلى الشيخوخة، وإنما إلى الطفولة، ليس إلى نهاية الحياة، وإنما إلى البدايات الطرية القاسية البريئة المدمرة.
يسوقنا معلوف إلى توصيف ذكي لماهية اللعب الحقيقية، فقاتلنا الشاب يجد نفسه خبيئا في منعرجات رواية تتسم بالكثافة الوحشية الجميلة، والصدق غير الشخصي، لطفل يلعب. إنها رواية مع كل نعومة ملمسها، تشكل فعليا محادثة ممتدة مع الموت. والموقع الحقيقي لحدوثها الواقعي هو ذهن ملايين القراء، والشكل الحقيقي هو الكلمات: اغتيال، قتل وحشي، جريمة نكراء، عنف أهوج، فوضى. من دون أن ننسى الحاجة إلى ضحية مشهور. يحمّل معلوف كلماته عبء الانعكاس في عالم المرايا الواسع لكتاباته، معترفا بمتعة تعريضنا كقراء لأهواء مخيلته ذاتها، الوحشية حينا، المضحكة حينا، ليثبت أن أبحاثه كانت بلا طائل. إذ كان عليه طوال الوقت، البحث عن نفسه. لكنه استطاع، عقدا بعد عقد، أن يجد في نفسه، النبع المتصل بالمجرى، بالتغيير، بالحياة المتجددة للأشياء، مما يؤكد أن بيننا كائنات مدوزنة بدقة إلى وحدة الوجود.
يذهب ديفيد معلوف إلى معاينة القتل الصوفي المتمثل في اغتيال الخلاّق، كمقدمة لتجديد الطاقة وتحرير الإنسان من مصيدة الأشكال الوهمية وإشراك الزمن، مما يسهل الانفتاح على الحياة المشتركة للأشياء، لإقامة العلاقة الصحيحة مع الحقيقة. 
جينا سلطان