مع صدور الطبعة الفرنسية لمختاراته الشعرية الأولى .. صلاح فائق يتحدث |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات صلاح فائق واحد من أهم الأصوات الشعرية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين. من مواليد مدينة كركوك التي شكّلت جماعتها الشعرية الجديدة، منذ ستينيات القرن الماضي، إحدى ألمع الجماعات الشعرية في العالم العربي.. وقد تشكّلت هذه المجموعة من صلاح فائق، سركون بولص، جان دمو، مؤيد الراوي، أنور الغسّاني، فاضل العزّاوي، وآخرين... وفي هذا الحوار الذي جرى في باريس مع الشاعر صلاح فائق، يتحدّث عن تجربته الشعرية في سياق جغرافي تاريخي... ومن خلال الرحلة التي قام بها عبر الجغرافيات المختلفة، وفي تاريخ شخص مضطرب، في ظلّ تحوّلات أليمة شهدها وطنه العراق وشهدتها المنطقة العربية. في باريس، وخلال المهرجان الدولي للشعر في «سيت» المدينة الفرنسية الجنوبية، حيث ألقى قصائد جديدة له وجرى تكريمه من قبل المهرجان، التقت «المشاهد السياسي» الشاعر في حديث كسر به صمت عقدين من السنوات بعيداً عن الصحافة. > حدّثني عن مولدك في مدينة وصفتها لي بأنها رئة أو قلب كوردستان؟ - في الحقيقة هي قلب العراق أيضاً.. لأنها أغنى مدينة.. هي المصدر الأساسي للثروة العراقية، البترول. وكانت سابقاً في الخمسينيات والستينيات رمزاً لوحدة الشعب العراقي. مدينة حدائق، المدينة التي بناها السومريون والبابليون ورمزهم الكبير قلعة كركوك، القلعة السومرية. كانت مدينة حلم وإبداعات، منذ صغري كنت أعرف أن هذه المدينة مدينة رسّامين وشعراء وكتّاب، مدينة مغنّين تركمان وكرد لهم أصوات رائعة. وكركوك كانت أيضاً في المقدّمة كمدينة شهدت ولادة مجموعة أدبية وفنّيّة قويّة، ومجموعة كبيرة من الشعراء وكتّاب القصّة والرسّامين والمغنّين. ومجموعة كركوك كانت على موجتين: الأولى في الخمسينيات والثانية في الستينيات؛ أنا أنتمي الى الموجة الثانية التي فيها أصدقاء طفولة مثل سركون بولس، جليل القيسي، جان دمو، أنور الغساني، مؤيد الراوي، الأب يوسف سعيد، والكاتب المسرحي الراحل محيي الدين زنكنة، وكاتب القصّة القصيرة يوسف الحيدري وآخرين. > وفاضل العزّاوي هل كان معكم؟ - لا، فاضل كان من المجموعة الأولى، ولفترة مع المجموعة الثانية، وكتاباته الابداعية ظهرت مع المجموعة الثانية في فترة الستينيات، وله كتاب في تجربة مجموعة كركوك. كما أن لأنور الغسّاني كتاباً شاملاً في هذا الشأن أيضاً. إبن اللغات * أنت إبن لأب تركماني وأم كردية، لكنك تكتب بالعربية. هل كانت العربية لغة البيت؟ - لم تكن العربية لغة البيت. كانت التركمانية في الأساس وأحياناً كانت الكردية لغة طفولتي. العربية هي لغة التعليم الحكومي آنذاك. لم يكن هناك تعليم بلغات أخرى محلّيّة كالتركية أو الكردية أو غيرهما. كان هناك تعليم الإنكليزية قد بدأ من المرحة الابتدائية في الصف الخامس.. وكان تعليماً بدائياً، ولا يعتمد عليه، فقد كان يعتمد على كتب تراثية إنكليزية قديمة، وأساليب تعليم قديمة لم نستفد منها الكثير؛ حتى أنني عندما ذهبت إلى لندن في العام 1974، وكنت لا أزال أحتفظ ببعض تلك المفردات والتعابير، مما كان يبعث على شيء من السخرية لدى الجيران والناس الذين التقيهم، فلم تكن تلك المفردات تستخدم في الشارع. وقد بلغ بي الهوس بالإنكليزية الجديدة إلى حد أنني تعلّمت اللغة الإنكليزية بلهجة سكان لندن القدماء، الكوكني. مما كان يدفع بالعاملين معنا إلى الطلب منّي أن أتكلّم الإنكليزية وليس الكوكني. أعود إلى الموضوع، الأسماء التي ذكرتها في مجموعة كركوك، تلاحظ أنهم بمجموعهم لم يكونوا عرباً أو تركماناً أو أكراداً فقط أو غير ذلك، لقد كنا خليطاً من كل مكوّنات الشعب العراقي: التركماني، الآشوري، الكردي، العربي، وكنا شيوعيين وليبيراليين. من هذه الناحية، قلت لك إن مجموعة كركوك هي رمز الوحدة العراقية، وكتاباتنا كانت تعبّر عن هذه الوحدة أحسن تعبير. لغة الكتابة كانت العربية، ولأنها لم تكن اللغة الأصلية، لذلك ولدت من هذا التنوّع الثري أساليب كتابية جديدة، وغالباً ما كنا نتّهم بأن كتاباتنا مترجمة. وكنا نتّهم اتّهامات سياسية بأننا ضد اللغة العربية. أحدهم اتّهمني مرّة أنني أخدم الصهيونية، ولما أمسكت به، قلت له أنت كلامك منشور في جريدة الثورة، وتهمتك كان يمكن أن تقتل عائلتي كلّها.. ولهذا السبب هربت عائلتي إلى الجبال واختفت بعيداً عن أعين الرقباء والبوليس السياسي. قلت له: كيف تكتب هذا!؟ فقال لي معتذراً: لم أكن أعرف أنك شخص طيّب. حركة ترجمة > هذه الخلفية التي تعرضها لمجموعة كركوك بين المجموعة، تكشف عن دور التنوّع اللغوي في تكوين منحى أدبي وشعري، سرعان ما سيفرض نفسه ليس على الشعرية العراقية وحسب، وإنما على الشعرية العربية الحديثة... وإن يكن بالتدريج.. كيف كنت تنظر إلى التحوّلات نحو لغة شعرية جديدة كالتي كانت تجري بين بيروت ودمشق.. وما أثرها في تجربتك؟ - نحن كمجموعة كنا محظوظين في الستينيات بوجود حركة ترجمة كبيرة ما بين دمشق وبيروت والقاهرة. كانت تصلنا مجلاّت فكرية وأدبية، وحتى شعرية، كالكاتب والمسرح من مصر، ومطبوعات دار اليقظة العربية في الشام، ومجلّة شعر والآداب والأديب وحوار من بيروت. نحن لم نكن معنيين كثيراً بخلفيّات تأسيس هذه المجلاّت والاتجاهات الفكرية لمؤسّسيها.. كنا معنيين أساساً بالنصوص الجديدة.. الشعرية منها وغير الشعرية. كنت في تلك الآونة مهتمّاً بالشعر المترجم، وكان الشعر المترجم من لغة ثانية يغريني، فأنا نفسي أدين إلى هذا التنوّع في تكويني، والشيء نفسه كان يحدث مع سركون وجان وآخرين من أعضاء المجموعة. أذكر عن مجموعة كركوك اجتماعنا الأسبوعي، وكانت هذه اللقاءات بمثابة ورشة عمل نستعرض خلالها كتاباتنا وقراءاتنا، ونتبادل الآراء والأفكار والمعلومات. هذه اللقاءات استمرّت ثلاث أو أربع سنوات. ولم تنقطع إلا مع مغادرة سركون وأنور ومؤيّد كركوك والعراق كلّه. هذه التجربة صهرت علاقات الصداقة بيننا ونمّت عندنا فكرة الاختلاف، فنحن صحيح أننا من بلد واحد ومجموعة واحدة، لكن برز لكل منا صوت مختلف.. وهو ما أكّدته السنوات اللاحقة. هذه القراءات والاجتماعات والنقاشات وفّرت علينا كثيراً من الجهد وجنّبتنا كثيراً من المزالق التي ورّط بها النقد يومها الأدب. سياسياً ونظرياً كنا جميعنا راديكاليين، وهذه الراديكالية انعكست على سلوكنا الشعري، ونتاجاتنا التي أفصحت عن نوع متقدّم من القطيعة الجمالية والفكرية مع ما كان يكتب وينشر في العراق والعالم العربي. هناك ما لم يكن ممكناً التعبير عنه بالصراحة الكافية، وهو أن غالبيتنا لم تكن من العرب، مع أننا كلّنا كنا نكتب بالعربية ولدينا الهوى كلّه مع هذه اللغة الكبيرة. لم نكن أبداً شوفينيّين، لكننا عانينا مرّات كثيرة شوفينية بعضهم من رسميّي الأدب أو المتورّطين بأفكار باهظة. مغادرة العراق > كيف كان خروجك من العراق ومتى كان ذلك؟ - خرجت من العراق مع نهاية العام 1947 بعد سنوات من الخوف والقلق. فهمت من بعض المقرّبين من النظام أنهم غير مرتاحين لسلوكي. وأنا لديّ تاريخ طويل من المعارضة للنظام السياسي السابق. لقد كنت في الحزب الشيوعي. ربما كان تهوّري في نشر قصيدة عنوانها «رهائن» في العام 1972 في مجلّة الكلمة العراقية جلب لي هذه المخاوف والشائعات عن عدم رضا المسؤولين، وهو أمر كان يخيف الشعراء والكتّاب. وأريد أن أذكر للتاريخ أن الشاعر الراحل عبد الوهاب البيّاتي لعب دوراً في استخراج جواز سفر لي رغم ما كان من قضايا قانونية معلّقة بحقّي. وهو أيضاً له الدور الكبير في نشر أعمال لي في مجلاّت عربية منها «الموقف الأدبي»، مجلّة اتّـحاد الكتّاب العرب في دمشق. وكان له دور كبير أيضاً في نشر مجموعتي الشعرية الأولى «رهائن» التي صدرت في دمشق سنة 1975. قبل صدور هذا الكتاب كنت قد فررت من العراق ووصلت في النهاية إلى دمشق. بقيت شهرين في دمّر ثم جئت إلى بيروت.. ما أن حللت هناك حتى نشبت الحرب الأهليّة. وفي فندق جيروسالم في رأس بيروت التقيت العفيف الأخضر... ثم شعراء وكتّاباً آخرين... وكنت قد حملت معي لأدونيس شعراً لشباب عراقيين، وكان قد نشر لي قصيدتي «تلك البلاد». كتبتها تحت تأثير عاطفة قوية، وهي في الواقع، وكما لاحظت لاحقاً، كانت محاولة لتصفية حساب مع ماضيّ الشخصي ومع وطني حتى. وفيما بعد، وبسبب نشوب الحرب الأهلية في لبنان، عدت إلى دمشق، وبقيت حتى نهاية العام ثم سافرت إلى لندن. في السفارة، الملحق البريطاني الذي أعطاني الفيزا تأثّر بكلماتي عن حاجتي إلى قراءة ت. إس إليوت في حديقة لندنية. > في لندن، لك سيرة تبدو فارقة بالمعنيين الفنّي والواقعي للكلمة، أعني علاقتك بفن الشعر... ووقائع الحياة التي عشت في مدينة لندن... إنها تبدو لي مائزة كثيراً إلى درجة تجعل من شاعرها العربي شخصاً جديداً.. ما هو الأميز في تلك التجربة؟ - بالنسبة لي هي بيئة جديدة من حيث المعمار واللغة والعادات الاجتماعية اليومية، وطبعاً الثقافية، مقارنة بمثيلاتها في العراق وسورية ولبنان. شاعر يعيش تجربة مختلفة في بيئة جديدة. بالطبع تنعكس مفردات هذه البيئة الجدّيّة في كتاباته.. وإن لم تنعكس هذه التجربة فسوف يتّهم الشاعر بعدم النزاهة. > لكننا عرفنا شعراء عرباً عاشوا في مدن أوروبية لم تترك ثقافتها فيهم آثاراً بليغة؟ - هؤلاء عاشوا في غيتوات نفسية واجتماعية، عاشوا في تجمّعات صغيرة في الضواحي، فهم يأكلون الطعام نفسه ويتصرّفون كما لو كانوا في بلادهم. يخافون الانفتاح ولا يتواصلون بحق مع البيئة الأوروبية. بالنسبة لي في لندن... فجأة وفي فترة قصيرة، أعطتني المدينة كمّيّات كبيرة من الكتب والمشاهد والمتاحف وتنظيم الشوارع والأبنية، كل هذا شيء جديد. ووجدت نفسي مطالباً بالخروج من نفسي والالتحام بحياتي الجديدة.. وإلا لكانت التجربة مزيّفة. ومن هنا دخلت مفردات وصور جديدة انطلاقاً من وجودي الجديد في هذه البيئة. أهم شيء أن الضغط السياسي والاعلامي الذي عانيناه في بلادنا لم يعد موجوداً. في دمشق كنت مرةّ في حديقة.. كنت أقرأ كتاباً.. ومقابلي كان هناك رجال أمن يراقبونني.. جاء شخص عراقي... وقال لي ماذا تفعل هنا؟ قم معي.. ودخلنا مبنى الاتحاد... فلحق بنا رجل الأمن.. ثم صدّه موظّف اتّـحاد الكتّاب بقوله: ما بك وهذا الرجل؟ إنه شخص طيّب.. ونحن نعرفه. في العراق كنت عاملاً في سكك الحديد العراقية. وقد طردت من العمل لأنني لم أخرج في تظاهرة تأييد لألمانيا الديمقراطية! في لندن إذن شعرت ببيئة جديدة وثقافة عظيمة مبذولة ومتوفّرة.. فرصة ثقافية لمن يريد أن يستفيد وهناك نشاطات مجانية... قراءات شعرية.. مسرح قراءات أدبية. التلفزيون البريطاني يقدّم لك معرفة متكاملة بالمعنيين البصري والفكري.. كنا جائعين إلى المعرفة. > أنت ارتبطت بعلاقات مع بعض الشعراء السورياليين، أعرف أن شعرك لا يمكن بأي حال تصنيفه شعراً سوريالياً ونقطة على أول السطر.. لكنه شعر فيه ملامح سوريالية بمفهوم خاصّ جدّاً.. تشكّل رافداً من روافد شعرك. حدّثني عن هذا البعد في شعرك وفي علاقاتك الشعرية البريطانية؟ - من حسن حظّي أنني التقيت في الأشهر الأولى لوجودي في بريطانيا شاعراً بريطانياً سوريالياً هو جون دغبي، والذي بدوره عرّفني إلى شعراء آخرين وأمدّني بمعلومات ممتازة عن مجموعات أدبية وشعرية وفنّيّة... من حسن حظّي أن هناك شعراء عراقيين وعرباً ترجموا شعري إلى الإنكليزية، خصوصاً زوجتي السابقة هيفاء زنكنة. وقضى جون دغبي زمناً طويلاً معي ومع هذه التراجم لإعادة صياغتها بشعرية إنكليزية. الشيء الأساسي الذي أخبرني به هو أن صور شعري أدهشته بوصفها صوراً من بيئة أخرى، فضلاً عن أنه استغرب وجود صور من بيئة لندنية وكيف أنني بدأت أتغيّر بسرعة.. ثم التقيت بول هامون والشاعر الإنكليزي الكبير ديفيد غازغوين الذي كتب مقدّمة المعرض السوريالي في بريطانيا في العام 1934. وهكذا وفي ظلّ هذا المناخ، التقيت كتّاباً وشعراء وفنّانين ينتمون الى الاتجاهات الجديدة في الشعر البريطاني، وكانت هناك فكرة لتشكيل مجموع لقاء شعري دوري... وكانت اللقاءات تجري في بيتي في كاليدونيان رود في شمالي لندن. وقرّرنا تشكيل مجموعة سوريالية وطبع مجلّة تمثّل السورياليين الجدد في بريطانيا. وضمن هذه المجموعة قرّروا أن شعري يستحقّ الطبع في كتاب باسم هذه المجموعة. وأول كتاب لي كان كتاب «حريق يليق بمدينة» وكتب مقدّمة الكتاب بول هامون. واستمرّت اللقاءات لسنوات، ودخلنا في تقديم معارض فنّيّة عدّة، من بينها أعمال الرسّام الإنكليزي كونروي مادوكس. وأقمنا معرضاً في كامدين تاون كان بمثابة معرض دولي مصغّر للسورياليين. الشعر والكولاّج > أنا أذكر لك أعمالاً كثيرة في فن الكولاّج، فهل كانت مجرّد نزوات فنّيّة مسايرة للسورياليين من أصحابك، أم أنها كانت أمتداداً بصرياً لشعرك؟ - كما قلت لك في البداية، لندن أعطتني فرصة أن أقرأ وأشاهد كثيراً، من بين مشاهداتي معارض ومتاحف تحتوي على أعمال من الكولاّج، وكتاب ماكست آرنست التي هي رواية كولاّج... إضافة إلى أن صديقي بول دغبي كان شاعراً ورسّام كولاّج، لذلك أصبح لديّ ميل إلى هذا الفن فهو فن ديمقراطي. فأنت تحتاج إلى مقصّ وورق وكثير من الصور القديمة والحديثة. ليس المهم الصور والمقصّ وحسب، وإنما مخيّلتك كيف تستدعي هذه العناصر وتعيد خلق مشاهد جديدة مختلفة من هذه المادة الخام، بحيث يولد سياق جديد ولغة جديدة ومعان جديدة. واليوم أنا أعيش في الفيليبين وهذا الأمر له قصّة طويلة. إنها قصّة أخرى .
عن (المشاهد)
|