المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
18/02/2011 06:00 AM GMT
أزهار حسين مردان تورق داخل الصاعقة. في الكتاب الصادر حديثا عن "دار الجمل"، نقرأ كاتبا عراقيا، وشاعرا مجددا، ترك المدرسة في عمر الطفولة، إلا أنه لاحق المدارس الفكرية حتى بيتها الأخير. مردان الذي لاحقته المحاكم العراقية، ومُنع ديوانه الأول "قصائد عارية" وصودر، نجده في الكتاب الجديد، محاورا لحياته، ومقتنصا لحظات الحرب والسلام والأدب والمفارقات العاشقة والحب والموت والبطولة والكبرياء واللقيا مع أدباء عراقيين كمحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا وسواهم. نصوص نثرية، كانت صدرت في عام 1972 تحت عنوان "الأزهار تورق داخل الصاعقة"، اعيد نشرها في بيروت. يكتشف القارئ منذ لحظات القراءة الاولى، حساسية ونبضا مختلفين، وحسا بالتشويق، حتى النقطة الأخيرة التي تشير إلى انتهاء الجملة. كان هذا إصدار مردان الأخير، فالشاعر الذي قال مرة إنه قرأ عنترة بن شداد وهو في السابعة من العمر، نهل كذلك من الحياة وقسوتها، مثلما نهل من صلابة اللغة. لكن هذا كله لم ينسحب على أسلوبه، الذي استطاع أن يتفرد به، على الأقل في نصوص الكاتب الذي بين أيدينا اليوم. تمارس كتابته وسياقها، وتركيبتها وتتالياتها، شيئاً من السحر على القارئ، الذي يدخل في عوالم من التشابيه والإستعارات والصور، لا تنأى بنفسها عن مردان نفسه. الكاتب، بلا شك، يمارس نوعاً من جلد الذات، وسلخ قشرتها الخارجية للدخول إليها وتفحصها وتشريحها مدفوعاً برغبة في تسجيل وجوده. وقد لا يعني لنا شيئا ًأن يكتب شخص ما عن نفسه أثناء إطلاعه على دوستويفسكي، أو أجزاء من "ألف ليلة وليلة"، أو مقاهي بغداد الأدبية بعد هجره المدرسة. لكن رغبته المتقدة دائما في الجدال والمحاورة، وإرساء الأمور من باب العقلانية لا العاطفة أو الشعر، تدفع بمردان إلى تلمس العالم بأظفاره لا بأصابعه، ونتصور أنه كان ذا شخصية لا تناور او تجامل، بل قد تتحول طفيلية إذا ما تعلق الأمر بالتهام الأدب ومنابع الثقافة، وهذا ما دفعه للإلتقاء بسارتر، كمعجب به، في باريس. يصف مردان نفسه، في العشرين من العمر، بأنه كان "كتلة نار وسيوف". وهي الحدة التي تدفعه إلى تحسس أسباب الكتابة نفسها، قبل الشروع فيها، فلا يقبل العبثية ولا الاستكانة أو الانكسار، ويتخذ التشكيك في نصوصه ويومياته المدونة في الإصدار هذا، حيزاً يضيئه الكاتب، ليجعل منه محفزاً إضافياً، يشد من أزر جملته، ويعزز جماليتها عبر إذكاء الصورة الشعرية، التي تتدثر برداء النثر الرشيق والمتلاحق. قد يكون في هذه النصوص الكثير من الإحتفاء بالذات (كي لا نستخدم مفردات أخرى)، والتشديد على تفاضلها وثقافتها واضطلاعها بدور المنظِّر بين الأصدقاء وأمام القراء، غير أنها نصوص ترسم وجه بغداد المكان، في بورتريه منفتح واجتماعي وديناميكي في تلك الفترة، وتضعنا بشكل أوتوماتيكي في مقاربة بين صورة بغداد تلك، وصورتها اليوم. ربما لم يرد مردان أن يقول بمصير العراق المحكوم بالأسى والفقر والحروب والازمات، غير أن التزامه تصوير الواقع، عبر تصوير العالم "القوي"، وممارساته على العالم "الأضعف"، يجيء على طبق من التشكيلات اللغوية، ما يحرر النص من فرقعة الواقع، ويرسم لمردان مرجعيته أثناء الكتاب، كشاعر قبل أن يكون ناثرا. لهذا، عندما نقرأ نصوصه، أو نكتشفها، نجد أن كثيرا مما يأتي على وصفه، ملائم تماما للعراق اليوم، والعالم، الأكثر بطئا بالتأكيد من مخيلة الكاتب. تترافق معالجة حسين مردان لواقعه، فنيا وسياسيا وسوسيولوجيا وأدبيا، مع أسلوب لا يتنازل قيد أنملة عن موقعه، ونشعر أنه مرة أخرى، وكما فعل في إحدى مجموعاته الشعرية، يهدي هذا الكتاب إلى نفسه، كائنا متمردا وعنيدا، ومتوثبا للانقضاض على أفكار مغايرة وتشتيت وجهتها.
|