يوسا في "حلم السلتي" : عن الشر وفظائع أخرى |
المقاله تحت باب منتخبات ماريو بيرغاس يوسا بترجمة : نجم والي «حلم السَلتي» هي الرواية الأولى لماريو بيرغاس يوسا بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب وننشر هنا الفصل الأول المعنون «عن الشر وفظائع أخرى» التي نشرت في «الشرق الأوسط» ترجمة من الإسبانية وقدم لها نجم والي.
على خلاف الحيوانات التي تقتل فقط لكي تتغذى أو لتدافع عن نفسها، يقتل الكائن البشري أيضا بسبب الجشع، الغيرة، الحسد، بسبب طمع في السلطة، التعصب، الأحكام المسبقة، العنصرية، الحماقة أو بسبب نزعة غير عاقلة لكينونته بالتخريب وإلحاق الأذى بالآخرين». ذلك هو الشر بوصف صاحب النوبل الكاتب البيروفي ماريو بيرغاس يوسا، والذي صحيح أن أصله يظل موضوعا مثيرا للجدل لكن تجلياته في الحياة الخاصة والعامة للمجتمعات والقوميات لم تملك حدودا معينة، فالشر هو كوني وقديم بقدم الكون. المؤمنون يعتقدون أنه ولد مع الإثم الأصلي منذ نشأة الخليقة، منذ أن نشأت بالأحرى فكرة الذنب والعقاب التي سنتها الحياة في الجنة الدنيوية. على الجانب الآخر يفهمه غير المؤمنين بصفته باعثا أو غريزة مغرية، فعلا جذابا بسبب الموت الذي يثير البطولة، حب الحياة عند البشر. في كل الأحوال، من غير المهم النبع الذي غرف ويغرف منه الشر، فإنه كان دائما هناك، من الصعب القضاء عليه نهائيا، مهما بلغت البشرية من تقدم مادي وعلمي، إنه وبكلمات صاحب «المدينة والكلاب»: «ينثر بذور الألم، الإحباط، الكراهية والموت ودون تعب على مر التاريخ، في الحضارة وفي البربرية». هذا الهاجس الذي قض مضاجع يوسا منذ كتابة أول رواية له، والذي هو في الحقيقة يقض مضاجع كل روائي يصبو لكتابة رواية جيدة، هو الباعث لكتابة رواية «حلم السلتي» لصاحب النوبل ماريو بيرغاس يوسا. السَلتي هو ليس غير روجر كاسيمينت (1864 - 1916) الذي لم يعرف الشر بطريقة مختلفة وعميقة في أفريقيا وفي مناطق الأمازون خلال مرحلة جمع المطاط بل وندد به بكل ما ملك من طاقة، كافحه بشجاعة طوال حياته، وكان على قناعة بأنه سيستطيع استئصال شأفته تماما أو كما وصفه يوسا أيضا، كان يأمل «بأن التاريخ الإنساني من الممكن أن يصبح تاريخا للعيش المشترك والسلام»، دون أن يعلم أن أفكاره الداعية للتحرر ودفاعه عن حقوق الإنسان ستقوده هو نفسه إلى حتفه وتجعله يقع ضحية للشر الذي شهر به في كل مكان. إنها المرة الثانية أيضا التي يذكر فيها صاحب «الحرب في نهاية العالم» بهذه الشخصية الرائدة بتأسيس مبادئ حقوق الإنسان، المرة الأولى عام 2001 في مقالة له عن رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام»، كأنه أراد في حينه الإشارة إلى أنه سيبدأ ذات يوم بالكتابة عن السَلتي الاستثنائي هذا الذي حمل لواء الحرية في سنوات الظلام. روايته الأخيرة «حلم السَلتي» التي تسير على خطى رواية معلمه الإنجليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد «قلب الظلام»، هي توثيق ليوميات الرعب والوحشية تلك التي ارتكبت باسم الحضارة والدين في حق السكان الأصليين في أفريقيا والأمازون، مثلما هي في الوقت نفسه نشيد لبعث الحياة ليس في تلك الشخصية المثيرة للجدل والذي انتهى مشنوقا في لندن بسبب دعواته لحرية أيرلندا، بل لإدانة كل ما يلحق من حيف بالإنسان في أيامنا هذه. »الشر قديم قِدم الإنسان، يعيش بيننا ويتغذى من أحقادنا»، يقول يوسا، «الإشارة إليه بالأصابع بغض النظر عن المصدر الذي يأتي منه يمنح على الأقل عزاء لنا ولكل الأموات من ضحاياه». من يعترض على تلك الكلمات، وهو يجد في أيامنا هذه مشاهد رعب وحشية مماثلة، في كل مكان؟ هنا ترجمة عن الإسبانية لمقاطع سبق وأن اختارها صاحب النوبل نفسه من روايته التي صدرت في مدريد قبل أسبوعين فقط. ليوبولد الثاني: راهب مراءٍ بعد سنوات، بين اليقظة والنوم وتحت تأثير الحمى، شعر كيسمينت بالخجل وهو يفكر بالأعمى الذي كانه ذات يوم. لماذا لم يعِ منذ الوهلة الأولى، سبب الحملة تلك التي قادها ستانلي والتي مولها ملك بلجيكا، الملك الذي يُعتبر طبعا - في أوروبا وفي الغرب وفي بقية العالم - الإمبراطور الإنساني الأكبر، الذي أخذ على عاتقه الانتهاء من هذه العيوب: العبودية وتحرير القبائل الوثنية وأكل اللحم البشري، كل تلك العيوب التي امتلكوها في حال قاسية. حتى ذلك الحين كان يعوز عام واحد لكي تهدي القوى الكبرى الغربية ليوبولد الثاني، في مؤتمر في برلين عام 1885، البلاد المستقلة الكونغو بمساحتها البالغة مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع - مساحة تفوق مساحة بلجيكا بخمس وثمانين مرة -، لكن ملك البلجيكيين كان قد وضع سلفا تحت سيطرته الأراضي التي أرادوا أن يضموها إليه لكي يطبق مبادئه الأولى على العشرين مليون كونغولي الذين يعتقد أنهم عاشوا هناك. مسبحات خرز ومضارب في كل القرى التي وصلت لها حملة 1884، وبعد توزيع مسبحات الخرز والخردوات (كل ما هو بخس ثمنه) وبعد كل الإيضاحات المتقدمة بواسطة المترجمين (العديد منهم لم ينجح في التفاهم مع السكان الأصليين)، حمل ستانلي شيوخ القبائل والسحرة على توقيع معاهدات مكتوبة باللغة الفرنسية تلزمهم بتقديم أيد عاملة، سكن، أدلة وأغذية لجميع الموظفين من وكلاء ومستخدمي شركة آ إ سي في الأعمال التي سيبدأون بها لتحقيق الأهداف التي انتظروها. شيوخ القبائل وقعوا بأعواد أخشاب، بعصي، بلطخات ورسوم، حتى دون أن ينبس أحدهم بكلمة أو يعرف ما وقع عليه، بل دون معرفة ماذا تعني كلمة توقيع، لكنهم كانوا فرحين بالقلائد والمعاضد والزخارف الزجاجية الملونة التي تسلموها من ستانلي إلى جانب قطرات العرق الذي دعاهم لشرب نخبه معه بمناسبة توقيع الاتفاق. الطاعون البشري مثل طفيليات في جسم حي، وطنت الفرقة العسكرية البلجيكية نفسها في أحراش قرى متبعثرة في منطقة يمكن مقارنة مساحتها بمساحة أوروبا تبدأ من إسبانيا وتنتهي عند حدود روسيا لكي يُحافظ عليها ويحرسها أفارقة لم يفهموا ماذا كان يحدث، باستثناء أن الغزو الذي هجم على رؤوسهم مثل وباء كان أكثر افتراسا من صيادي العبيد، من الجراد، من النمل الأحمر ومن التعاويذ التي تحمل نومة الموت. الجنود والمرتزقة التابعون للقوات الرسمية كانوا وحشيين، مليئين بالنهم، لا يشبعون من الأكل والشرب، من النساء والحيوانات، من الجلود وأسنان الفيل، باختصار، نهمين لكل ما يمكن أن يُسرق، يؤكل، يُشرب، يُباع ويُصنع. السوط من اخترع الأداة الرقيقة، الطيعة والمؤثرة هذه لكي تُحرض، تخيف وتُعاقب التراخي، التثاقل أو بلادة هؤلاء، ذوي الأقدام بلون الأبنوس، هؤلاء الذين لم ينتهوا قط من عمل الأشياء كما أراد المُستعمِرون منهم: سواء كان يعني ذلك العمل في المعسكر، حمل العلف، لحم الظبي أو الخنزير البري والمواد الغذائية الأخرى المخصصة لكل قرية أو لكل عائلة، أو سواء كان يعني الضرائب، دفع تكاليف الخدمات العامة التي تقوم بها الحكومة؟ قيل إن مخترع الأداة تلك هو كابتن الفرقة العسكرية البلجيكية والذي اسمه جيكوت، بلجيكي من الموجة الأولى، رجل كما هو واضح عملي وصاحب خيال، صاحب عقل فطن، ذلك ما جعله ينتبه قبل أي شخص آخر للجلد الصلب الذي يملكه فرس البحر والذي من الممكن تصنيع سوط منه، أكثر صلادة وأكثر أذى من بقية السياط المصنوعة من أمعاء الأخينوس والسينّوري (حيوانات محلية)، وتر يُشبه جفنات الكروم له القدرة على إنتاج حرارة أكثر، دم أكثر، أذى وألم أكثر من أي سوط آخر، خفيف وعملي، مزود في نفس الوقت بمقبض صغير من الخشب، يستطيع الجنود من أصحاب الخوذ أو الجنود المكلفون بحراسة العنبر، الحراس والسجانون أو رؤساء المجاميع، حمله ملفوفا على الحزام أو تعليقه على الكتف دون أن يشعروا به بسبب وزنه الخفيف. الاستثناء كان هذا الشاب، الذي هو بعمر الطفل تقريبا، المطروح على الأرض والذي ربطت يداه وقدماه على عمودين، وعلى ظهره راح الضابط فرانكوزي يفرغ إحباطه على شكل جلدات. بشكل عام، الجلدات لا يعطيها الضباط، إنما الجنود فقط. لكن الضابط بلا شك شعر بالإهانة بسبب هروب كل سكان القرية وأراد أن يأخذ ثأره. أحمر الوجنتين من الغضب وغارقا في عرقه، كان يخرج نفحة غيظ بالتوازي مع كل جلدة. لم يتغير عند ظهور روجر ومجموعته. اكتفى بالرد على تحيتهم بحركة رأسه دون التوقف عن إنزال العقاب. كان لا بد أن يكون الشاب فقد وعيه قبل لحظات. كان ظهره وقدماه غارقة ببركة من الدماء وما يزال روجر يتذكر طابور النمل الذي إلى جانب الجسد العاري. كونراد في الكونغو - ها أنا أرى كيف أن الغابة لم تكن رحيمة مع حضرتك، كونراد. لا تخف. الملاريا هي بهذا الشكل، تتأخر في الذهاب رغم أن الحمى اختفت. كانا يتحدثان عند المائدة، في شرفة البيت الصغير الذي كان مسكنا ومكتبا لروجر. لم يكن هناك لا القمر ولا النجوم في ليلة ماتادي (اسم القرية) تلك، لكنها أيضا لم تمطر، طوقهما طنين الحشرات وهما يدخنان ويرتشفان من كأسيهما. - الأكثر بؤسا لم تكن الغابة ولا الطقس السيئ جدا، ولا الحمى التي أسقطتني في شبه غيبوبة قرابة أسبوعين (كما شكا البولندي). بل ولا حتى الزحار المرعب الذي حول برازي إلى دم لمدة خمسة أيام متتالية. الأكثر بؤسا، نعم الأكثر بؤسا، كاسيمينت هو أن تكون شاهدا على أشياء مرعبة تحدث يوميا في هذه البلاد الملعونة. ماذا يفعل الشياطين السود والشياطين البيض أينما غرب المرء وجهه. - كونراد قال كيف أن الفساد الأخلاقي للكائن البشري يظهر في الكونغو للسطح. فيما يخص البيض والسود. بالنسبة لي، قلب الظلام يؤرقني كثيرا. أنا أعتقد بأنه لم يصف الكونغو ولا الواقع، بل ولا التاريخ إنما ببساطة وصف الجحيم. الكونغو هو ذريعة للتعبير عن التصور الفظيع هذا الذي يملكه كاثوليكيون معينون عن الشر المطلق. سيقان.. أرداف وظهور المكان كان مكتظا. وبينما كانوا يمرون بشبكات النوم، الفرش الحقيرة والحصر حيث جثا المرضى، سأله روجر بنباهة، لماذا هناك عدد كبير من الضحايا هم جرحى في الساقين، في الأرداف وفي الظهور. الآنسة هايلس نظرت إليه بتسامح. - إنهم ضحايا وباء اسمه السوط، سيد القنصل. وحشية أكثر دموية من الأسد وأفعى الكوبرا. ليست هناك سياط في بوما وفي ماتادي؟ - كلا، إنها لا تطبق بهذا الشكل الليبرالي كما هي الحال هنا. بتر - نعم، إذا أردت حضرتك أن تعرف لماذا هناك عدد كبير من الكونغوليين يحملون ضمادات في أيديهم أو في أعضائهم الجنسية، أيضا يُمكنني توضيحه لحضرتك. أضافت ليلي دي هيلز باستياء. - لأن جنود الفرقة العسكرية الحكومية يقطعون أيديهم ومذاكيرهم أو يسحقونها هرسا. لا أنسى أن أضيف لحضرتك علما. هذه الأمور من غير الممكن الحديث عنها في أوروبا عند الحديث عن الكونغو. - هل تسمح القوانين والأعراف بتشويه السكان الأصليين؟ سأل روجر كاسيمينت. أطلق الكابتن ماسارد قهقهة، ودوّر وجهه المربع بالابتسامة، فظهرت عليه بعض الغمزات المضحكة. - تمنع ذلك بشكل قاطع (أكد، وهو يهش شيئا في الهواء). - أجعل الحيوانات ذات القدمين هذه تفهم ما هي القوانين والأعراف. لا تعرفهم؟ إذا كانت لك سنوات طويلة في الكونغو فعليك أن تعرف ذلك. من الأسهل تدجين دجاجة أو قُراد على التعامل مع الكونغوليين. النظام كل شيء كان بسيطا وواضحا: على كل قرية وقعت واجبات مفصلة، وهي تسليم حصص أسبوعية أو تسليم مواد غذائية مرتين في الشهر، توفير محاصيل زراعية، زريبة، لحم ظبي، خنازير برية، عنزات أو بط من أجل تغذية حامية الجيش والمشاة الذين يشقون الطرق ويثبتون أعمدة التلغراف أو أولئك الذين يبنون أرصفة ومخازن. فضلا عن ذلك، فإن على القرية تسليم كمية محددة من المطاط المجمع في سلال محبوكة بنباتات متسلقة. عدم تلبية الواجبات هذه يسبب عقوبات مختلفة. فمثلا، تسليم كمية أقل من الكمية المطلوبة منهم تقديمها، من مواد غذائية، محاصيل زراعية ومطاط، يستدعي معاقبتهم بالجلد، ويجب ألا تقل العقوبة عن عشرين جلدة إن لم تصل غالبا إلى خمسين أو مائة. أغلب الذين تمت معاقبتهم نزفوا دما بعد ذلك أو ماتوا. السكان الأصليون الذين حاولوا الهروب - عدد قليل جدا - ضحوا بعائلاتهم لأن نساءهم وأطفالهم بقوا في هذه الحالة رهائن في حظيرة صغيرة تملكها الفرقة العسكرية البلجيكية في كل حامية. هناك، تعرضت نساء الهاربين للجلد وخضعن لعقوبة بدنية، حُكم عليهن بالجوع والعطش إذا لم يخضعن لعقوبات ملتوية جدا مثل جعلهن يلتهمن فضلاتهن ذاتها أو فضلات جنود الحامية. أطفال للبيع بعد هذا الحدث بأيام قليلة، عندما وصل القس هوتوت إلى بالا وجد نفسه أمام مشهد فظيع. فلكي تستطيع بعض عائلات القرية تنفيذ ما هو مطلوب منها من حصص، باعت أولادها وبناتها، اثنان من الرجال باعا زوجتيهما لباعة جوالين يمارسون تجارة العبيد خفية عن السلطات. وحسب اعتقاد الراهب كان لا بد أن يكون عدد الأطفال والنساء ثمانية على الأقل، لكن من المستحيل أن يكونوا أقل. السكان الأصليون كانوا مرعوبين. كانوا أُرسلوا لشراء مطاط ومواد غذائية لكي يسددوا ديونهم، لكن لم يكونوا متأكدين أن ما سيقبضونه من ثمن سيكون كافيا. عليه: عشرات الأفارقة المرهونين في الحامية بدأت الفرقة العسكرية الحكومية في القرية بجلدهم وقطع أصابعهم وأقدامهم. كان هناك هيجان وغضب. قتلت القرية بتمردها أحد الحراس، بهذا الشكل نجح الباقون في الهرب. ولم تمر أيام قليلة حتى وقعت قرية بونغيندا في قبضة طابور من الفرقة العسكرية البلجيكية من جديد. أشعل الطابور النار في كل البيوت وقتلوا عددا كبيرا من السكان، رجالا ونساء، بعضهم حرقوهم في داخل أكواخهم، فيما حملوا الباقين إلى سجن كوكيهاتفيللة وإلى حظيرة الحامية. ذات يوم قال له فيكتور ماسيدو، وهو يؤشر بالسكين: أرى أنه أثار الشفقة عندك، سيد كاسيمينت. لماذا لا تحمله حضرتك معك؟ إنه يتيم. أهديه إليك. المتحضرون أغلق عينيه ورأى المنطقة الشاسعة مقسمة في محطات، الأولى منها التي أطلقوا عليها لا جوريرا والكانتو، كل واحدة منها مع رئيسها. «أو، من الأفضل القول، مع شيطانها». بهذا الشكل وفقط بهذا الشكل يمكن أن يكونوا رجالا مثل فيكتور ماسيدو أو ميغيل لوايسا، مثلا. الاثنان كانا بطلي مأثرة لا يمكن نسيانها حدثت في أواسط عام 1903، عندما وصل قرابة ثمانمائة من منطقة أوكايم إلى لا جوريرا لتسليم السلال المليئة بالمطاط الذي جمعوه في الغابات. بعد وزن المحصول أشار وكيل المسؤول عن إدارة لا جوريرا، فيديل بيلارده إلى مديره، فيكتور ماسيدو الذي كان لحظتها بصحبة ميغيل لوايسا من قرية الكانتو، باتجاه خمسة وعشرين من سكان أوكايم وقفوا منعزلين عن بقية المجموعة، لأنهم لم يجلبوا الحصة المطلوبة منهم - لَثّى (لبن النبات) أو مطاط -. ماسيدو ولوايسا أرادا أن يلقنا المتوحشين درسا جيدا، هذا ما جعلهما يشيران إلى أصحاب الخوذ - زنوج باربادوس - بأن يصوبوا فوهات بنادقهم بوجه بقية أفراد قبيلة أوكايم، ثم أمروا «الشباب» أن يغلفوا الخمسة والعشرين الباقين بأكياس منقعة بالبترول. أولئك الذين تهالكوا بأنفسهم باتجاه النهر مثل نيازك مستغيثة غرقوا، فيما أجهض ماسيدو ولوياسا وبيلاردة على الجرحى المتخلفين بمسدساتهم. كلما استعاد روجر ذلك المشهد شعر بالدوار. آرماندو نورماند سالدانيا سمت أشكال العقوبات التي يتعرض لها السكان الأصليون بسبب الأخطاء التي يرتكبونها: جلدات، حبس في مصيدة أو في بوترو التعذيب (آلة تعذيب قديمة)، قطع الأذنين، الأنف، الأصابع والأقدام، إن لم يكن القتل: شنقا، سحقا، حرقا أو غرقا في النهر. أما في منطقة ماتانزاس فقد فاق، كما أكدت، عدد القتلى من السكان الأصليين عددهم في أي محطة أخرى. لم يكن من الممكن التكهن بالعدد لكن العظام كان يجب أن تعود للمئات، آلاف من الضحايا. المسؤول عن المذابح هو آرماندو نورماند، شاب بوليفي إنجليزي، لا يزيد عمره عن اثنين والعشرين أو ثلاثة والعشرين عاما، كان يؤكد بأنه كان طالبا في لندن. وحشيته حولته إلى «كائن جهنمي» في صفوف الهاربين الذين أهلك منهم عددا ضخما. في أبسينيا عاقبت الشركة المسؤول آبيلاردو أغيرو، ومساعده أوغستو خيمينيز لأنهما اكتفيا بإطلاق النار بالهواء على الهنود الحمر، ليضحيا بهذا الشكل وبصورة غير مسؤولة بأيد عاملة مفيدة للشركة. رغم أنه كان قصير القامة، رشيقا وقبيحا، فإن الزنجي القادم من باربابوس يوشوا ديال، «قوة خبيثة» تخرج من شخصيته القزمة المرتعدة، تجعل كل من يقترب منه يرتجف، أما نظراته فهي ثاقبة وباردة، تشبه نظرة الأفعى ذات الجرس. ديال يؤكد أنه ليس الهنود الحمر فقط، إنما أيضا «الشباب» وحتى أصحاب الخوذ أنفسهم يشعرون بعدم الأمان إلى قربه. في أي لحظة من الممكن أن يمارس آرماندو نورماند شراسته المثيرة للقشعريرة غير مبال بموقع أو مقام كل من أحاط به. ديال اعترف أمام روجر والهيئة بأن في محطة ماتانزاس أمر نورماند في يوم واحد بقتل خمسة من سكان الآندوكيس، بسبب عدم تسليمهم نسبة معقولة من حصة المطاط المطلوبة منهم. ديال قتل الاثنين الأولين بإطلاق النار عليهما، لكن الرئيس أمر بأن تُسحق خصية الثلاثة اللاحقين برحى الطحن وأن يُقتلوا بعدها بالضرب بالهراوات. الأخير عمل على خنقه بيديه. وكان خلال كل تلك العملية جالسا على جذع شجرة يدخن سيجارة ويراقب ما يحدث، دون أن يتغير التعبير الواضح على خديه المتوردين حمرة. لابس خوذة آخر كان خدم عند نورماند أكد أمام الهيئة بأن الغضب الذي يمكن أن يسببه هذا للهنود الحمر لا يمكن مقارنته بما يبعثه فيهم كلبه، كلب حراسة دربه لكي يركز بلعومه ويمزق لحم الهندي الأحمر الذي يمر به. - السيد نورماند عنده خصوصياته. تمتم، وهو يشيح البصر. - عندما يتصرف أحدهم بشكل سيئ. من الأفضل القول، عندما يتصرف أحدهم بالشكل غير المطلوب منه يغرق أطفاله في النهر مثلا. بنفسه. بيديه، أريد القول. الغارات - اشرحوا لي ماذا تعني «الغارات». قال كريسيمنت، الخروج لصيد الهنود الحمر في قراهم لكي يأتوا ويجمعوا المطاط في أراضي الشركة. من غير المهم من أي قبيلة أو منطقة. أي شخص يمكن العثور عليه في المنطقة. لأنهم كلهم، دون استثناء كانوا موجودين من أجل جمع المطاط. يجب إجبارهم. «الغارات» تتطلب مسيرات طويلة وبعض الأحيان من أجل لا شيء. عندما يصلون تكون القرى قاحلة. كان سكانها قد هربوا جميعا. بعض الأحيان كلا، تنتهي نهاية سعيدة. يطلقون عليهم النار لإخافتهم ولكي لا يدافعوا عن أنفسهم، لكنهم يفعلون ذلك، ببنادقهم القديمة وعصيهم. أو بحرابهم. بعد ذلك يُجمعون ويُربطون بالحبال ويُقادون، فقط أولئك الذين كانوا في وضع يؤهلهم للسير من نساء ورجال. الشيوخ والأطفال الرضع يُتركون لوحدهم لكي لا يؤخروا المسيرة. الشاهد هذا لم يرتكب قط أعمالا مرعبة من طراز آرماندو نورماند، رغم أنه عمل تحت سلطته سنتين في ماتانزاس، حيث كان السيد نورماند الحاكم الإداري لها. قتل الهنود - هل كان على حضرتك أن تقتل هنود حمر خلال ممارسة وظيفتك؟ رأى روجر عيني التيس ينظران إليه، تهربان منه ثم تعودان لتنظرا إليه. - إنه جزء من عمل أصحاب الخوذ و«الشباب»، الذين يُطلق عليهم أيضا «العقلاء». قال له وهو يضم كتفيه. - في بوتومايو جرى دم كثير. الناس اعتادت على ذلك مع الوقت. هناك الحياة هي قتل وموت. - هلا أخبرتني حضرتك بعدد الذين كان عليك قتلهم، سيد توماس؟ - لم أحصهم قط. قال هذا بسرعة. - أديت العمل الذي كان علي إنجازه وأحاول طي صفحته. أنا نفذت الواجبات، وهذا ما يجعلني أؤكد أن الشركة تصرفت معي بشكل مجحف. اشتر خادمة هذه الهجمات على قرى السكان الأصليين من أجل الحصول على جامعي المطاط. المهاجمون لم يسرقوا الرجال فقط. سرقوا أيضا الأولاد والبنات لكي يبيعوهم لاحقا. غالبا يحملونهم حتى مانواس، حيث كما يبدو يجلبون أسعارا عالية هناك. في إكيتوس كانت عائلة ما تشتري خادمة بعشرين أو ثلاثين سول أو أكثر. كل العائلات تملك خادمة، خادمتين أو خمس خادمات. جواري في الحقيقة. يعملن ليل نهار، ينمن مع الحيوانات، يتعرضن للضرب لأي سبب، فضلا عن ذلك طبعا، يخدمن النزعات الجنسية لأولاد العائلة. ليسمح لي بعدم اللياقة. الخادمات الأربع اللاتي تملكهن حضرتك، هل تعاقدت معهن أم اشتريتهن؟ - لقد ورثتهن. قال بجفاف القنصل البريطاني. - كنَّ جزءا من البيت عندما كان على الساكن هنا قبلي، القنصل كازيسقبل أن يعود إلى بريطانيا. ليس من الممكن القول إنني تعاقدت معهن لأن هنا في أكيتوس ليس بالأمر المعتاد. الأربعة هن أميات، لا يعرفن القراءة أو توقيع عقد. ينمن في بيتي، يأكلن، أكسيهن، فضلا عن البقشيش الذي أعطيه لهن، سلوك غير معتاد في هذه المناطق. الأربع هن حرات في الوقت الذي يعجبهن. تحدث معهن، سلهن، إذا يعجبهن البحث، عن عمل في مكان آخر. لتر رد فعلهن، سيد كاسيمينت. إبادة الأكت صناعة المطاط ولتبدأ «بالغارات» هناك، وكم عدد الهنود الحمر الذين بقوا منهم في هذا العام (1910). ليست هناك إحصائيات جادة، وما كان مكتوبا عن الموضوع لا يفي بالغرض، شحيحا، الأرقام تختلف كثيرا عن بعضها البعض. الوحيد الذي كما يبدو يمكن الوثوق بتكهناته هو المستكشف والأثنولوجي الفرنسي السيئ الطالع أيوجين روبوجون (اختفى بطريقة غامضة في مناطق بوتامايو عام 1905 عندما كان يرسم خرائط كل أملاك خوليو سي آرانا). وحسب الإحصائيات التي تركها كان لا بد أن تكون القبائل السبع للمنطقة - هويتويون، أوخايميون، موينيون، نونوياويون، آندوكيون، ريزيغاروون وبوراون - قد شكلت سوية قرابة مائة ألف نسمة قبل أن يجذب المطاط «المتحضرين» لبوتامايو. |