رحلة كلود ليفي - ستروس «المدار الحزين»... معلَم في تاريخ الوعي الغربي

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
27/11/2010 06:00 AM
GMT



بيار نورا *
بعد الفراغ من القراءة، لا يشك قارئ كتاب كلود ليفي – ستروس، «المدار الحزين»، في شهادته على حادثة حاسمة لا تقتصر على التاريخ العلمي، بل تتعداه الى تاريخ الوعي الغربي. ومصدر اليقين هو تبديل طفيف في عالمنا الأليف تترتب عليه نتائج كبيرة. فهؤلاء الهنود (الحمر) المحببون الى القلب، والمقيمون في أطراف المعمورة، لم يكونوا غرباء تماماً. فمن لم يتقنع وهو طفل أو ولد، بأقنعة هندية يعلوها ريش نسر؟ ومن لم يرقص رقصة السيوكس حول أسير الحرب؟ هذا الى صور الرحلات و «متحف الانسان» وأفلام مورنو وفنون البدائيين التي بعث فيها السورياليون الحياة و «الذهنية البدائية» بقلم ليفي – برويل. ولكن النظر إليهم بعين العطف والاعجاب لم يحل دون إبقائهم على بدائيتهم، وإقامتهم على مرحلة سـابقة الـمـنطق ومـطوية من التطور الذهني والعقلي.

وإذا بكتاب جَهوري، تحضنه ظلال مونتاني، صاحب «آكلة لحوم البشر»، وشاتوبريان، صاحب «مذكرات من وراء القبر»، يمزج في 500 صفحة على نحو دقيق رواية المغامرات، والمقالة في الاخلاق، وفلسفة الثقافات، والتقرير الجامع، وتصوير المناظر، في رعاية روسو «معلمنا وشقيقنا». وينزل الكتاب مستضعفي التاريخ هؤلاء في قلب هويتنا، في وقت تهز حوادث ما بعد الحرب العالمية الثانية هذه الهوية هزاً عنيفاً. وهو يذهب الى ان الرسوم الملونة والغربية على وجوه نساء القوم ليست أقل صنعة وحسناً من صورة ناتئة رسمها دورير. وفن الخط الذي يزاوله قوم كادوفيو، بين بارانيا وباراغواي، هو تعبير عجائبي عن متناقضات اجتماعية عصية على الحل ومكبوتة. وتوزيع المنازل والبيوت على شكل هندسي تقريبي في وسط سهوب ماتوغروسو، يترجم، في قرية دائرية ينزلها قوم البوروزو، هيئة فلكية عظيمة هي مرآة مراتب اجتماعية بالغة التعقيد، وصورة علاقات الأحياء بالموتى.

وإذا بركام الأواني البدائية الصنع لا يخلو من معنى، شأن الشعائر والحلي والزينة. وتجتمع هذه وتلك في اطار نظام منضَّد ومرتب. وما بدا ركاماً للوهلة الاولى تكشّف مختبر فكرة منمقة فحواها ان المضامين الثقافية المتنوعة الى ما لا نهاية قد تكون نتاج عدد قليل من العوامل الثابتة التي في الوسع احصاؤها. وعلى هذا، فهؤلاء الناجون من الغرق هم كنز انساني، وشهود بددتهم الضربات التي أنزلناها بهم قصداً أو من غير قصد. وعلينا انتزاع سر الكنز هذا قبل تواريه غرقاً في لجة العدم.

والحق أن كلود ليفي- ستروس لم يقتصر على هذا. فهو ذهب الى أن عالم الفقر والعراء يضمر نظاماً اجتماعياً، ومنطقاً عقلياً، ونتاجاً فنياً وأسطورياً ودينياً، تضاهي نظائرها في عالمنا الغربي دقة وعمقاً. وهذه النظائر، هي انجازاتنا (الغربية) نحن، التقنية والفنية والفلسفية، لا ريب في أنها تعبير حضارة تبعث على الاعجاب، غير أنها أفضت، في ختام مطافها القريب (في 1955، عام صدور «المدار الحزين») الى معسكر الإبادة في أوشفيتز وقنبلة هيروشيما الذرية. وفي ضوء هذه الحال، لم تبعد اعادة الاعتبار الى البدائيين، عن يد كلود ليفي – ستروس، من أن تكون انقلاباً. فهي لم تُلحق بالانسانية العامة هذا الجزء الطرفي منها فحسب، بل جددت فكرة الانسانية رأساً على عقب، وذلك في حلة انكار حاد تصور الانسانوية كلها وزعمها نصب الانسان في مركز الكون والخلق.

ومعظم هذه الافكار سبقت اليها الدراسات الاناسية (الانتروبولوجية)، وبعض كتابات ليفي – ستروس العلمية في 1950 و1952، ثلاثة اعوام قبل «المدار الحزين». ولكن المقالات العلمية لا تبعث على الاقناع. فهي تفتقر الى وساطة المحسوس واختبار المعيوش. والوساطة والاختبار هذان ضمّنهما كلود ليفي – ستروس روايته الابحار من مرسيليا صباح يوم من أيام شباط (فبراير) 1935، وامتطاء الحصان ثم ركب المركب النهري الى قلب الغابات الامازونية. ومراحل الرحلة بثت الحياة والقوة في الصور الفوتوغرافية التي التقطها الكاتب للسكان المحليين، ووسَّطها كتابه، فوسمته بالاصالة والحقيقة معاً. وأضفت في السيرة الذاتية مسحة الضرورة التي لبست «المدار الحزين» ولازمته.

وساهم عمل ليفي – ستروس الادبي، وهو زعم أنه لا يعدو عطلة عابرة، في رفع الرحلة الاناسية، غداة 10 سنوات على الحرب، الى مرتبة الهوى والاختبار الالزامي. ورحلته هي في مثابة تحقيق ذاتي وفردي للثورة الذهنية التي تولاها العالِم الأنّاس وأنجزها، وتقدم ملخصها. فعلى خلاف فرويد الذي لم يسند حقيقة كشفه عن الأوديب الى إقراره باشتهائه المرأة التي ولدته، أسند كلود ليفي – ستروس كشفه عن البنى الرمزية والإنسية الجامعة الى مسيره من باريس الى قدس أقداس أقاصي الارض المعمورة. ورضخ الرجل المترهب الى الرواية ورحلته رواية مفصلة ودقيقة، وهو استهل «المدار» بالجملة التي ذاعت: «أكره الرحلة والرحالة». وتنسب الجملة كتاب صاحبها إلى «البحث عن الزمن الضائع» (مارسيل بروست) وإلى «مذكرات الحرب» (شارل ديغول)، وهو يضاهيهما في بابه.

ومبنى الكتابة على شاكلة تسليك أو تأهيل صوفي. وهو يروي سلسلة مراحل تأهيل متصلة، وبعضها داخل في بعض. والجزء الاول تمهيد طويل، أو كتاب يسبق الكتاب، يصف الإعداد للرحلات نفسها، ويبلغ نحو ثلث الكتاب. ويتسع أفق العمل فجأة حين المقارنة بين بلاد المدار الخالية من السكان في البرازيل والبلاد المكتظة بهم في الهند. فيصف الرحالة الجموع والاسواق، واستحالة علاقة البشر بعضهم ببعض في مجتمعات الجوار اللصيق. وإذ ذاك يروي الكاتب رحلاته الثلاث الى قلب البرازيل ووسطها. وتقودنا الرحلة الام الى قوم النامبيكوارا، والى معالمهم الغرامية. ومن قلب الغابة، والاقامة بين قوم التوبي، كواهيب، في قعر العصر الحجري، يتناول الكاتب مسألة دور الأنّاس، وجه حضارته المكفَّر عنها وعن خطابها، ومحله. وينتهي المسير بمقالة بوذية على نحو غربي: «ابتداء العالم من غير الانسان وهو صائر الى نهايته من غيره». ويستعيد «الانسان العاري»، بعد أعوام، النبرة العدمية الكونية هذه. وتوسل كاتب «المدار» الرواية الى رواية «رحلته» بكتابة كلاسيكية انتزعت الكتاب، والتجربة الفردية المروية، من التعسف والاعتباط، ورفعتهما الى مرتبة المعيار الفصل. فـكأن الـغرب، بلـسـان تـراثه الـعالمي، هو المتكلم.

وطبع الكتاب في ظرف تاريخي وأيديولوجي وفكري ساهم من دون شك في انفجار صداه وتردده وتراميه. وهو نشر في 1955، وقُرئ في 1956، سنة سحق المدرعات السوفياتية الثورة المجرية وحملة السويس البائسة التي تنكرت في زي الأحلاف الاستعمارية في القرن التاسع عشر. وفي العام هذا، ندد خروتشوف بجرائم ستالين في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي العشرين، وكانت بدايات حرب الجزائر الفعلية مع الاقتراع على السلطات الاستثنائية، ودعوة الاحتياط الى الخدمة الالزامية وإعمال التعذيب. ولولا اختلاف معايير اليسار المثقف تحت وطأة قمع الثورة المجرية والكشف عن جرائم ستالين، لما حظي درس كلود ليفي – ستروس الاخلاقي والفكري بالأثر والوقع اللذين حظي بهما. فالدرس خلّف وراءه الخيبة من الشيوعية وثورتها، واستقبل، طلوع حركات التحرر الوطني من حضن «العالم الثالث»، واسمه المحدث هذا العام، ومؤتمر باندونغ.

فلولا هجرة الرجاء من ضواحي مدن الغرب الصناعي الى الجهة الاخرى من الارض، لما حظي وصفُ النقوش على آنية صنعها قوم منسيون، أو سردُ أسطورة بدء مبهمة تراوتها أجيال قوم آخرين، بالإقبال الذي حظيا به.

فآذن هذا بقيام البدائي محل البروليتاريا، وبالانسلاخ من انـسـانوية ما بعد الحرب في صيغها المتفرقة، الماركـسية والوجودية، والمسيحية. وفي الوقت نفسه، انتبهت فرنسا (وأوروبا)، آن اقلاع النمو الاقتصادي، الى تلازم مجتمع الوفرة مع النفايات التي يخلفها و«الاستلاب» المترتب عليه.

وحملت الاناسة الغرب على الإقرار بالآخر: فهو جزء من هوية الغربي، والغربي جزء من هوية «البدائي». وجرح الهوية شرط معرفتها وثرائها والبعد منها، معاً.

* مؤرخ ومدير مـدرسـة الدراسـات الـعـليا سـابقاً وعضو الاكاديمية الفرنسية ورئيـس تحـرير الـمـجلة، عن «لـو ديبا» الفرنسية، 1-2/2010، اعداد منال نحاس