كتاب آكلو البطاطا للكاتب الكردي فرهاد بيربال

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
14/07/2010 06:00 AM
GMT



قد تكون أبرز إشكاليات الادب الكردي الحديث، انعتاقه في مسألة الحرب. لنقل إنها حرب لم ننتبه اليها بشكل واف. الأسباب ربما قد تتعلق بما نعتبره "أولويات" قومية ودينية واجتماعية وسياسية وفكرية. فنحن، شعوب "القضية الفلسطينية" وتداعياتها، ارتدينا النظارات "الإنسانية" التي لم تر في جيرانها بعضاً من أهوالهم. بقي الشعب الكردي بالنسبة الينا، شعبا ثانويا، دخيلا ربما، بل غير مفهوم تماما. لم نلتفت جيداً الى مسألة بالغة التعقيد، وهي المأساة الكردية، التي تنام لتستيقظ فجأة، او تستيقظ لتنام مرة أخرى، مثل القضية الفلسطينية. المؤكد أننا لا نستطيع القيام بمقارنة "عاجلة" بين المسألتين، إلا أن المنظور الانساني يطوي بين مغلفيه، الشعبين الفلسطيني والكردي. لنقل إن العنوان العريض للمسألة أن هناك بشرا يقاضون بشرا "آخرين" باسم "الأحقية". سنتجنب في هذه القراءة الدخول في مقاربة سيرورة كل من الشعبين، كي لا ندخل في أنابيب مقاربة "العدو" بـ"العدو". فعلى ما يبدو، أن هناك صراعا مريرا لن تخمد ناره، حول أرض كردستان الكبرى التي، بحسب القوميين الكرد، تمتد لتطاول أطرافا من تركيا، والعراق، وإيران وسوريا، كما أرمينيا.
كردستان الكبرى هذه، بالطبع، سيكون تحقيقها بالغ الصعوبة، وهو يستلزم الاعداد لحل سياسي على سبيل المثال بدلا من الخيار "النضالي" او العسكري. كردستان الكبرى تعني للدول الخمس "تنازلا غير مقبول" عن قسم من أراضيها. وهذا مساو لإمداد المأساة بالمصل، وضخ الدم الاسود في الذاكرة. الامر يفضي إلى ظرفية الفن وعناصر الكتابة وأشكال التعبير. من هنا، قد يفهم أن الأدب الكردي بشكل خاص، مؤطر بالمأساة المحددة الأبعاد، مأساة الأرض - الإستقلالية، ما يعني روتينيته، وانغلاقه على خصوصية حضارة ظلت مستبعدة عنا. كأن السوداوية هي المصير الوحيد لهذا الشعب، ما يشير إلى دلالات ترسم النفق الذي لم يستطع الادب الكردي الخروج عن مساره.
لكن هذه القاعدة، لا تبدو ملزمة للكاتب الكردي فرهاد بيربال. فهذا الأديب، المجرب في اللغة، بصورة بالغة السخرية إلى حد العبث أحيانا، لا يقيم معيارا ثابتا لشكل الألم أو لتبيان صورته. اختارت "دار الجمل" نشر كتابه "آكلو البطاطا" الذي يتضمن قصصا مختارة وقصائد، نقلها عن الكردية مجموعة من المترجمين. قد لا تفاجئك السير الذاتية الشخصية جدا لأناس القصص، وقد لا تستفزك يومياتهم المصنوعة بالهواء الرمادي اللون، لأنك في طبيعة الحال متخم، شبعان، رأسك وبطنك مليئان بظواهر لاانسانية، وحروب ومشاحنات واغتيالات وانتهاكات للإنسان وحريته، وكل ما يعزز القلق ويعرّي الفرد، ويفرد مساحات لكل ممارسة عسكرية او بوليسية من أي نوع كانت. ترى في واقع الأمر ان مأساة الإنسان الكردي متشابهة إلى حد كبير ومأساتك وخيبة أملك من كل نظام بوليسي. الحرب تفرم اللحظة في الذاكرة وتعيد تخزينها وتشكيلها، بل تعيد حمايتها وتحيطها باحتمالات هائلة لإعادة تشكيلها وإظهارها بثوب آخر. المؤكد أننا لا نستطيع الفرار. فرض الواقع علينا، او فرضنا على الواقع، الامر سيان طالما أن تفاعلنا مع هذا الواقع يصب في مربّع الخنوع، والطأطأة. من هنا، قد يستحيل الأدب عاريا من جدواه، واجترارا لصورة تكررت على مدى عقود. أقول أدبنا. لا نزال نعتمد على حقيقة ما لنصنع أدبا. بدون هذه الحقيقة، نبدو فارغين.
لكن هذه الحقيقة، تثير الجدال، وتستنفر العقل، والوعي والفلسفة، وقد تتملص بعيدا، حتى تكاد تكون غير قابلة لإقامة الحوار معها. هكذا، يكون تجريب فرهاد بيربال، خليطا عجيبا من العبث، وتناتش الالم بأسنان تضحك، حتى لتكاد تنأى عما هو موجع إلا بعد أن يكون الضحك قد استنفد بالكامل.
"آكلو البطاطا" لا يثير الضحك في الواقع، لكنه يضعنا أمام سخرية حارّة حينا، وواقع بارد وباهت يخترقنا كدبابيس حينا آخر. أما إعادة تشكيله، فهي لا تكون مطلقا بالإنحراف عن الصورة الحقيقية لأشخاص القصة، ولا تحتمل زخرفة، إضافة، او حذفاً. مهما يكن من أمر، فإن الكاتب، صاحب الشخصيات - سواء متخيلة أم حقيقية – يبقي ملعبه، ذهنيا صرفا، يصب في محاورة الطريقة، أو أسلوب التفكر في الإنتاج الادبي والحالة السياسية المسؤولة عنه في طبيعة الحال. في "آكلو البطاطا"، نجد بعض الأحاجي، وبعض الممرات التي لا نهاية لها. بيربال، يفتح المجال امامنا لإعادة التفكير في الأسلوب، والمسارب التي قد يسلكها شكل كتابي معيّن، وأسسه. في بيروت، هناك محاولات حثيثة لتجديد الأدب والشعر والقصة القصيرة. يتلاقى بيربال الأستاذ الماكر، معها جميعا من دون ان تتقاطع تجربته في هذا المجال مع أي من هذه المحاولات.
ربما تقدمه لنا "دار الجمل" بعد معرفتها العميقة به، لكنه جديد كليا بالنسبة الينا. قد تستوقفنا أولويات الكاتب المتمثلة في إعادة تشكيل الذاكرة، ودمج معالجة "الواقع" بمسحة رومنطيقية تكشف خبايا العلاقة مع كل ما هو ممتلك: منزل، أرض، مقتنيات، حيوانات، مجتمع المحيط، التداعيات السياسية والنفسية والاجتماعية. نلتفت في هذا الكتاب إلى تجربة إنسانية عميقة، معالجة بهدوء وذكاء وخفة. لكن يستوقفنا حتما اتقان أسرار الأسلوب الكتابي في بعض النصوص .