المقاله تحت باب قضايا في
18/06/2010 06:00 AM GMT
السيبة (البصرة): ستيفين لي مايرز* تحول شط العرب، النهر الذي يتدفق من الموقع الذي يذكر الإنجيل أنه يضم جنات عدن حتى الخليج، إلى كارثة بيئية واقتصادية تبدو الحكومة الديمقراطية الجديدة بالعراق عاجزة عن مواجهتها. ذُوي النهر على امتداد عقود من سوء الإدارة الاستبدادية ثم الإهمال، وبسبب القحط وتعطش الدول المجاورة للعراق، لم يعد النهر الذي يشكل التقاء نهري دجلة والفرات يملك قوة الإبقاء على مياه البحر بعيدا. الآن، تدفع مياه الخليج المالحة طريقها باتجاه شبه جزيرة الفاو. العام الماضي، وللمرة الأولى في الذاكرة الحية، امتدت مياه الخليج إلى ما وراء البصرة، أكبر مدينة ميناء في العراق، بل والقرنة، حيث يتلقي النهران. وأتلفت مياه الخليج مصايد سمكية تعتمد على المياه العذبة وماشية ومحاصيل وبساتين من النخيل كانت سر شهرة المنطقة في وقت مضى، الأمر الذي أجبر عشرات الآلاف من العراقيين على الهجرة. في بلاد تهيمن عليها الصعاب واليأس والإيمان العميق، تبدو الكارثة الواقعة على امتداد شط العرب بالنسبة إلى البعض كعمل من تدبير قوة أكبر. في هذا الصدد، قال رشيد ثجيل مطشر، نائب مدير شؤون الموارد المائية في البصرة: «ليس بإمكاننا التحكم فيما يفعله الله». لكن للإنسان يد في انحسار النهر، حيث عمدت تركيا وسورية وإيران جميعها إلى كبح جماح المياه المتدفقة إلى داخل نهري دجلة والفرات، التي تصل في النهاية إلى شط العرب، الأمر الذي ترك المسؤولين العراقيين من دون خيارات سوى مناشدة هذه الدول إطلاق مزيد من المياه من شبكات السدود الحديثة التي بنتها. أصبحت المشكلة البيئية حادة على نحو خاص العام الماضي عندما أوقفت إيران تدفق المياه تماما من نهر كارون، الذي يلتقي شط العرب جنوب البصرة، على امتداد 10 أشهر. واستأنفت المياه تدفقها بعد هطول أمطار الشتاء، لكنها بقيت عند مستوى ضئيل للغاية مقارنة بما كانت عليه فيما مضى. في ثمانينات القرن الماضي، تورطت إيران والعراق في حرب على شط العرب الذي يشكل الحدود الواقعة أقصى الجنوب بين الدولتين ولا تزال به هياكل سفن غارقة منذ فترة هذه الحرب. الآن، ورغم تحسن العلاقات بينهما بعد سقوط صدام حسين، تحول النهر مجددا إلى مصدر للتوتر الدبلوماسي. من جانبه، قال محمد سعدون، مزارع وصياد بقرية أبو خصيب، الذي باع اثنين من جاموس الماء كان يملكهما العام الماضي لعجزه عن توفير الماء لهما من شط العرب: «الماء يأتي من الله. ولا ينبغي أن يمنعوه عنا». من ناحية أخرى، أعرب عبد اللطيف جمال رشيد، وزير الموارد المائية العراقي، عن اعتقاده أن المشكلات البيئية والنزاعات حول حقوق المياه تعد إرثا مستمرا من عصر الحكم الاستبدادي. كان صدام حسين قد حول مسار تدفق النهر بالجنوب نحو خندق أثناء الحرب الإيرانية - العراقية، وجفف منطقة الأهوار جنوب العراق في تسعينات القرن الماضي. وكان من شأن سياساته العدائية تجاه جيرانه ترك العراق معزولا - ثم لحق به الضعف، في وقت شرعت تلك الدول في بناء سدود والسيطرة على مياه ظلت تتدفق لآلاف السنين على بلاد الرافدين، أرض دجلة والفرات. في هذا الإطار، قال الوزير خلال مقابلة عقدت معه من مكتبه ببغداد: «لم يكن العراق في موقف يسمح له برفض أو التعاون مع هذه الدول. لقد فعلت هذه الدول ما يحلو لها». في البصرة وقرى تطل على الساحل العراقي المطل على شط العرب، جاء تأثير هذه الكارثة عميقا. وتحولت المياه العذبة التي كانت تتدفق في وقت من الأوقات على قنوات البصرة - فينيسيا الشرق الأوسط، حسبما كان يطلق عليها على مدار فترة طويلة - إلى مياه نتنة محملة بالقمامة والقاذورات. وتسببت المياه المالحة المتعدية على النهر في تلوث بالغ لإمدادات مياه الشرب لدرجة دفعت الحكومة لمحاولة حفر قنوات كبرى من الشمال تتخطى شط العرب لتوفير مياه عذبة إلى جزء كبير من المنطقة. وقد افتتح نوري المالكي، رئيس الوزراء، واحدة من هذه القنوات قبل الانتخابات الوطنية التي عقدت هذا العام. ويحرص أي شخص على تجنب مياه الصنبور إذا كانت ظروفه تمكنه من ذلك، وذلك لأنها تبلغ درجة من الملوحة تجعلها تترك بقعا على الزجاج بعد جفافها. من جانبه، قال مطشر إن المستوى المقبول في العراق للملوحة في المياه العذبة القادمة من شط العرب يبلغ 1.500 جزء لكل مليون. إلا أن مستوى الملوحة الفعلية للمياه وصل إلى 12.000 جزء لكل مليون العام الماضي. وقال فارس جاسم الإمارة، العالم الكيميائي لدى مركز العلوم البحرية التابع لجامعة البصرة، إنه سجل مستويات ملوحة وصلت إلى 40.000 جزء لكل مليون، علاوة على وجود معادن ثقيلة وملوثات أخرى تتدفق من الشمال ومن منشأة تكرير النفط الإيرانية في عبادان، حيث تتولى أنابيب ضخمة باستمرار تفريغ المياه المستهلكة.وأضاف أن هذا الأمر «يقتل النهر والناس». هنا في سيبة، عبر النهر على الجهة المقابلة في عبادان، تدمر المياه المالحة ببطء الزراعة، التي تشكل المصدر الرئيس للدخل بخلاف النفط. فقد جلال فاخر، الذي يملك مع أشقائه قطعة من الأرض توارثتها أسرته لعقود، مزارع عنب وخمسة أشجار مشمش ومحصول بامية وخيار وباذنجان بأكمله. وماتت أشجار النخيل الجديدة التي زرعها منذ عامين. وعلى الرغم من بقاء النخيل القديم، فإن أوراقه تحولت إلى الصفرة، في الوقت الذي تراجعت كمية المحصول السنوي من التمر. وأثناء سيره في أرضه الزراعية الهزيلة، قال: «كانت هذه الأرض جنة في ما مضى». الملاحظ أن القادة العراقيين الذين ناضلوا في البداية مع التوترات التي عصفت بالبلاد خلال فترة ما بعد صدام حسين، والآن يواجهون حالة تأزم سياسي عطلت تشكيل حكومة جديدة، ظلوا عاجزين حتى الآن عن فعل الكثير حيال تجنب الكارثة التي تتكشف ملامحها هنا، ناهيك عن علاجها. وتبقى الإدارة الرشيدة للمياه بمختلف أرجاء البلاد هدفا أكثر منها حقيقة. وتضع الحكومة مسودات لبناء سد على شط العرب - للإبقاء على مياه البحر بعيدا عن الأخرى العذبة - لكن تكلفة وتعقيد الفكرة يجعلان من المتعذر تنفيذها، طبقا لما اعترف به مطشر. وعقد العراق محادثات متكررة مع الدول المجاورة لزيادة تدفق النهر، أدت إلى إعلان تعهدات بالتعاون، لكن بالنظر إلى الجفاف الذي يعصف بالمنطقة في السنوات الأخيرة، لم تعد هذه التعهدات توفر مياها كافية. من جهته، قال حسام علوان حمود، (71 عاما)، عميد عائلة بدوية، تعيش في أكواخ بمنطقة الأهوار المتاخمة لشط العرب قرب أبو خصيب: «لو كانت حكومتنا رشيدة وقوية، كنا سنحصل على حقوقنا». يذكر أن أفراد هذه العائلة انتقلوا في السنوات الأخيرة برفقة حيوانات جاموس البحر التي يمتلكونها بسبب المياه المالحة. وأضاف: «حكومتنا لا تفعل سوى الحديث. إنها ضعيفة». في المقابل، قال رشيد إن المشكلة تتشكل منذ عقود وستحتاج عقودا لتناولها. واستطرد موضحا أن إحدى الفوائد المترتبة على الديمقراطية التي تحولت إليها البلاد أن المشكلات أصبحت معلنة، وهو أمر لم يكن موجودا في عهد صدام حسين. وقال: «لقد ظهرت على السطح الآن، لأن العراق دولة حرة». * خدمة «نيويورك تايمز»
|