المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
15/05/2010 06:00 AM GMT
فقد المسرح العربي برحيل المسرحي العراقي قاسم محمد، العام الماضي، واحداً من أبرز خلاّقيه، وصانعي ملامحه الحديثة، ورؤاه التنويرية الطليعية على مدى نصف القرن الماضي. قدّم قاسم محمد نحو مئة عمل مسرحي، منذ أن بدأ مسيرته مخرجاً ومؤلفاً وممثلاً ودراماتورجياً ومترجماً وباحثاً وأستاذاً للمسرح، من أبرزها: "النخلة والجيران" عن رواية غائب طعمة فرمان، ''بغداد الأزل بين الجد والهزل''، "أضواء على حياة يومية"، "كان يا ما كان"، "أنا ضمير المتكلم"، "مجالس التراث"، "طال حزني وسروري في مقامات الحريري"، "رسالة الطير"، "الباب"، "العودة"، "الملحمة الشعبية"، "المالك والمملوك"، و"محاكمة فنس بن شعفاط". خلال إقامته في الشارقة، منذ عام 1997، أخرج مجموعةً من المسرحيات لفرقة مسرح الشارقة الوطني منها: "الممسوسون"، "أسواق وأشواق"، "حظوظ حنظلة الحنظلي"، و"سوق الحكايات"، كما أخرج ثلاثة نصوص كتبها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وهي "القضية"، "عودة هولاكو"، و"الواقع صورة طبق الأصل". إن أهم ما ميّز قاسم محمد بين الجيل الثاني في المسرح العراقي أنه أول من نقل الاهتمام من النص المسرحي الأجنبي، في الأصل، إلى ما يوازيه، بل يفوقه أحياناً، من النصوص العربية، المؤلَّفة أو المقتبسة من التراث الأدبي والموروث الشعبي (روايات، حكايات، رسائل، أساطير، مقامات، أشعار، حكم، طرائف... إلخ)، وخصوصاً الجوانب الجدلية فيه، التي تضيء قضايا معاصرة في حياة الفئات الشعبية الكادحة، وذلك بتأثير من ثقافته اليسارية التي اكتسبها أثناء دراسته في موسكو، وبأسلوب يجمع بين العمق الدلالي والتعبير الجمالي السهل الوصول إلى المتلقين، على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. وكان لنشأته في حي شعبي ببغداد أثر كبير في صوغ وعيه، وانحيازه إلى عذابات الناس البسطاء، واختيار أبطال مسرحياته من عالم المهمشين، هذا العالم الذي استقى منه مضامين تلك المسرحيات وأشكالها. في هذا الصدد يقول المخرج والممثل البارز فاضل خليل، الذي مثّل معه العديد من المسرحيات في فرقة المسرح الفن الحديث، "كان مسكوناً بهؤلاء الناس، دائم البحث عما يقلقهم، محاولاً بإخلاص أن يجيب عن تساؤلاتهم، وعما يخلصهم من مخاوفهم... يبسط المضامين التي يختارها منهم أمامهم، ليكونوا عليه الشاهد والقضية. وكذلك الأشكال التي يختار منها أحلاها وأجملها وأقربها إلى قلوبهم، وبصراحته أضحكهم ثم أبكاهم". في الوقت الذي انشغل فيه الكثير من المخرجين بالبحث عن أشكال واتجاهات مسرحية عالمية ليقلّدوها، وضع قاسم محمد نصب عينيه إجراء تغيير جذري في الفهم المتداول للمسرحية الشعبية في العراق، وقد تمثل ذلك في عرض سيظل محفوراً في الذاكرة الجمعية هو عرض "النخلة والجيران" (1969)، الذي أحدث انعطافةً مهمةً في المشهد المسرحي العراقي، بل عدّه بعضهم ثورةً على الصيغ القديمة المكرورة، أعادت المسرح إلى واقعيته الشعبية، وقد أصبح هذا العرض في السبعينات نموذجاً معيارياً لما يجب أن يكون عليه العرض الشعبي. في عام 1974 خطى قاسم محمد مع عرض "بغداد الأزل بين الجد والهزل" خطوةً مهمةً في مسرحة التراث والتجريب في متونه التي تحتوي على جذور ومكونات درامية وطقوس احتفالية، بادئاً به سلسلة عروض مبتكرة ترك من خلالها بصمته المميزة في المسرح العراقي والعربي. لقد عثر في هذه التجربة على ضالته في كتب الجاحظ، وأدب المقامات، ورسائل أبي حيان التوحيدي، وشعر الكدية في العصر العباسي الأول، وفي السوق البغدادي القديم والتناقضات الاجتماعية (الطبقية) التي عصفت ببنية المجتمع العربي الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وما انطوت عليه تلك التناقضات من صراعات اجتماعية أفرزت شخصيات معروفة، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، عاشت في بطون تلك المتون التراثية. انتقل قاسم محمد في مسرحية "كان يا ما كان" (1977) الى الموروث الشفاهي المحلي المدون حديثا، سعياً منه إلى "تأصيل عرض مسرحي شعبي"، كما جاء في كلمته التي تضمنها دليل العرض. يتمثّل هذا الموروث في الحكايات الشعبية البغدادية التي كانت تُنشر آنذاك في مجلة "التراث الشعبي"، وقد مزج في صياغتها بين المنحى السردي والمنحى الدرامي في فضاء المقهى الشعبي، وعبر شخصية "القصّخون" (الحكواتي باللهجة العراقية)، الذي يجلس مع رواد المقهى في الزاوية اليمنى السفلى من الخشبة ليروي حكايةً يجري تجسيدها (خيالياً) على المسرح. ظهرت براعة محمد في الربط بين حكايتين شعبيتين مستقلتين الواحدة عن الاخرى، هما حكاية "تنبل أبو رطبة" وحكاية "بندر". وجاء العرض كأنه بني على حكاية واحدة. ويتضح تأثر الراحل في هذه التجربة بأجواء بعض مسرحيات سعد الله ونوس، التي اطلق عليها صفة "مسرح التسييس"، كبديل من "المسرح السياسي"، وهو شكل مسرحي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة. كان قاسم محمد مسكوناً بقضايا الشعوب، إضافةً إلى قضايا شعبه، وفي مقدمها القضية الفلسطينية التي تناولها في مسرحية "أنا ضمير المتكلم"، موظفاً فيها قصائد لشعراء المقاومة سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد ومعين بسيسو، ومواقف إنسانية وثورية لبيتر فايس وبيتر بروك وبرتولت برشت وآخرين، في مقاربة درامية عالية النبرة. تفرد قاسم محمد في تعامله مع الممثل، الذي يعتبره العنصر الفعال والديناميكي في المسرح، وسعى في كل تجاربه الإخراجية إلى تحريك طاقته التخييلية، وتحفيز ذهنه، وتجريده من الكليشيهات (إزالة التزويقات والأدران العالقة به). لتحقيق هذا الهدف، كان يميل إلى الممثلين المجتهدين والهواة المسكونين بالمسرح، لأنهم الأكثر صبرا وتقبلاً للأفكار الجديدة، والأقل مشاغل ومشاكل، وحماستهم للعمل تفوق حماسة المحترفين. كل العناصر التي يتشكّل منها العرض المسرحي كانت تتساوى عند قاسم محمد في الأهمية، فللموسيقى مكانة الملابس، وأهمية اللون توازي أهمية الحركة، ولمكونات السينوغرافيا النابعة من الرؤية الإخراجية ذات القيمة التعبيرية والدلالية التي يحملها النص واشتغال الممثل على دوره. في المحصلة النهائية تتلاحم جميع هذه العناصر في وحدة فنية عضوية. أخيراً، بعد نصف قرن من العمل الدؤوب، مخرجاً وممثلاً ودراماتورجياً ومعلماً فذاً، وجد قاسم محمد أن المسرح، على رغم روحه التفجيرية، يعني له صوراً ورؤىً وأحلاماً ومقاومة للتلاشي.
|