عبده وازن يحاور أدونيس-القسم الثاني

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
08/04/2010 06:00 AM
GMT



نقدم هنا القسم الثاني من حوار عبده وازن مع ادونيس الذي نشر على خمس حلقات في الحياة
 
اليوم يظلم يوسف الخال. بات يعتبر بطريركاً محركاً، أكثر منه شاعراً مجدداً.
- هذا خطأ كبير ومزدوج: في حق الشاعر، وفي حق الشعر. وأكثر أقول: أشك في أنه قُرئ كما ينبغي، حتى من المعنيين بالشعر، أو من الذين يكتبونه.

> لكن، الى أي مدى ترى أن يوسف الخال جدد القصيدة؟

- أولاً، من حيث الشكل والبنية، هو بين أوائل الذين نظّروا للخروج على الوزنية التقليدية، فكتب قصيدة غير شطرية، قائمة على الجُملة، وكتب قصيدة مدوّرة بلا قافية، ونَثْرنَ شِعرية الوَزْن، إضافة الى أنه كتب بدارجةٍ جديدة هي اللغة الفُصحى دون حركات إعرابية. ثانياً، من حيث المضمون، جُرّد الشعر من انفعاليته وتأوهاته العاطفية الغنائية، بالمعنى البكائي السطحي، وأنينه الذاتي الفردي، ورَبطه برؤية إنسانية حضارية. ثالثاً، أسس لمناخ مفتوح يستقبل الشعراء وبخاصة الشبّان، يدعمهم ويشجعهم وينشر لهم، خالقاً هكذا حركة ثقافية – فنية، كانت أكثر نضجاً ووعياً وفاعلية من جميع الحركات التي سبقتها، على أهميتها التاريخية. واليوم، دون اي مبالغة، يمكن أن نقسّم تاريخ الشعر الى قسمين: الشعر قبل مجلة «شعر»، والشعر بعدها.

> الى من كنت أقرب في مجلة «شعر»، ما عدا يوسف الخال؟

- الى أنسي الحاج. وبعده، في مرحلة لاحقة، الى بدر شاكر السياب.

> كنت أول المرحبين بأنسي في رسالتك الشهيرة.

- طبعاً. كان بشارة، كما بدا لي آنذاك، لكتابة عربية جديدة، رؤية وبنية.

> ثم واكبت أعماله. واختلفتما فترة، أم ماذا؟

- حدث بيننا جفاء، منذ أن تركت مجلة «شعر». وأسند إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمَر مُهاجَمتي بسبب انفصالي عن المجلة. ثم جاءت الحرب الأهلية، وهجرتي من بيروت الى باريس. هذا كلّه أحدث نوعاً من القطيعة على صعيد اللقاء، لكن، على صعيد الكتابة كنت حريصاً دائماً على قراءته، ولا أزال.

> اتّهمك بعضهم بأنك صرت تشعر بأنك أصبحت أكبر من المجلة، وأردت أن تنفرد بمشروعك؟

- هذا مجرد تأويل. تركت المجلة، بعد أن فشلتُ في تطويرها، في جَعْلِها تُعنى، من جهة، على نحو أشمل، بالتراث العربي، والحياة العربية والقضايا العربية، ومن جهة برؤية أكثر جَذرية وأعمق تأصّلاً في الشعرية الكونية. كانت المجلة أخذت تغرق في مياه العلاقات الفردية السطحية الصداقية، وتخفف من صرامة المعايير الفنية، وتتحول الى نوعٍ من «التحزّب».

هكذا لم أنشئ مجلة «مواقف» إلا بوصفها امتداداً لمشروع مجلة «شعر» الأصلي: العمل على خلق شعر عربي جديد، وثقافة عربية جديدة.

كان لا بُد من تعميق العلاقة بين الشعر والثقافة، بمعناها الإبداعي. مجتمع لا يُبدع ثقافته المتميزة، كيف يمكن أن يقبل رؤية شعرية إبداعية ومتميزة؟ لا ينمو الشعر العظيم، ولا يُقدّر ويفهم، إلا داخل ثقافة عظيمة. ومهما كان النص الشعري أو الفكري عظيماً، فهو يصغر عندما يقرؤه عقلٌ صغير. ومشكلتنا الأولى الشعرية والثقافية والسياسية، في الحياة العربية هي في هذا العقل الصغير المُهيمن. في هذا الأفق، وبالهواجس التي يثيرها، تركت مجلة «شعر»، وأنشأت مجلة «مواقف».

> هل استمرت القطيعة بينك وبين أنسي طويلاً؟

- قلت: جفاء، لا قطيعة. من جهتي، أحبّ أن ألتقيه، دائماً. مع أنه قيل لي: إنه أسقط من كتابه «كلمات»، كلّ ما كتبه عنّي. والحقيقة أنني لم أهتم بهذا القول، حتى أنني لم أقرأ «كلمات» لكي أتحقق من ذلك.

> علماً أن خالدة كتبت المقدمة؟

- يكنّ تقديراً عالياً لخالدة. وهي نفسها تكنّ له تقديراً عالياً. ما كتبته عنه فريدٌ. لم يكتب عنه أحد بمثل هذه الفرادة.

>لكن الأجيال الآن تقرأه بشكل قوي؟

- آمل أن يكون ذلك صحيحاً. لكنني مع ذلك أشعر أن هذه الأجيال لا تفهمه إلا شكلياً وتَبْسيطياً، بوصفه رائداً لقصيدة النثر. فهي لا تفهمه – في رؤيته العميقة، شعراً ولغة، للحياة والإنسان والعالم.

> قلت أكثر من مرة إنك تفضل أنسي على محمد الماغوط. ما السبب؟

- شعر الماغوط طائر جميل مغرّد. شعر أنسي سِرْبٌ من الطيور الجميلة المغرّدة. شعر الماغوط «واحد». شعر أنسي «كثير»: أغنى، وأعمق، وأكثر تنوّعاًَ.

> نستطيع أن نتكلّم عن انقطاع في العلاقة بينك وبين محمد الماغوط، علماً أنك كنت أول من قدمه في مجلة «شعر»؟

- جميع الذين قدمتهم شعرياً، بدءاً من عملي في مجلة «شعر»، ووفرت لهم كثيراً من فُرص التفتّح والنموّ، انقلبوا ضدي. ولا ألوم، هنا، ولا أشكو وإنما ألاحظ.

> أهي مسألة إلغاء الأب؟

- بهذا المعنى «الإلغائي»، قلت مرة في إحدى القصائد: «أمحو، وأنتظر من يمحوني». لكنه «مَحوٌ» شعري. وهو «محو» مجازي لا حقيقي – أي حَيدانٌ، وابتعاد. لكن إلغاء الأب عندنا، اليوم، هو نوعٌ من «القتل». فهو إلغاءٌ قائمٌ على الجهل – كيف تُلغي من لم تعرفه ولم تقرأه؟ وهو إلغاء يتمّ غالباً بلغة الأب ذاته. من يقتل أباه، يجب أن يقتله بلغة يبتكرها، هو. وهو إلغاءٌ يتم غالباً دون أخلاقية فنية أو إنسانية، بأسلحة الكتاب، والافتراء والانتفاخ، والاتهام بأشياء مُختلَقة، والجهل بأبسط قواعد الشعر.

> ما سبب عداء رياض الريّس لك، وحملاته ضدك، علماً انه كان من جماعة «شعر»؟

- لا أعرف. ولا أقدر أن أقول إنني أعرف رياض الريّس، حقاً. فقد التقيتُه مرتين أو ثلاثاً، على مدى نصف قرن، وفي مناسبات عامة. كانت المرة الأولى في مكتب مجلة «شعر»، برغبة خاصة من يوسف الخال. رجاني أن أجتمع به، وأقرأ معه قصائد قدّمها للنشر في المجلة، قائلاً: نحن صديقان، وأخاف أن تؤثّر عليّ صداقتنا في مسألة النشر. اقرأ القصائد وقل لي رأيك. قرأتها. كانت ساذجة. لغتها العربية ضعيفة جداً. ولغتها الشعرية أكثر ضعفاً. أعطيت السيد رياض، وكان لا يزال طالباً يتابع دراسته في بريطانيا، أمثلة على هذا الضعف، وناقشته فيه. وقلت له ما خلاصته أن من الأفضل له، هو شخصياً، ألا ينشر هذه القصائد، وألاّ يبدأ النشر إلا عندما يكتب نصوصاً شعرية قوية ومتميزة. وتابعت: هذا رأيي. في كل حال، أبحث الأمر مع يوسف الخال.

أحسستُ أنه لم يكن مرتاحاً الى ما نصحته به. ولا أعرف إن كان بحث الأمر مع يوسف. أعرف أن يوسف أخذ برأيي ولم ينشرها. غير أن المفاجأة المضحكة هي أنني، بعد فترة قصيرة، رأيت هذه القصائد بين مجموعة أخرى شبيهة في كتاب مستقل نشرته له إحدى دور النشر اللبنانية، وقدّم له جبرا إبراهيم جبرا، صديقه، بمقالة عنوانها: «زحزحة الباب العملاق». قلت ليوسف، ضاحكاً: ما هذا؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لم يجب، وهزّ رأسه، صامتاً. واكتفيت بأن أردد في نفسي، صامتاً: «أيتها الصداقة، كم من الجرائم ترتكب باسمكِ، خصوصاً في الشعر».

منذ ذلك الوقت، بدأ السيد رياض يهاجمني، ولا يزال يتابع هذا الهجوم في كل مناسبة. طبعاً، لا أرد، ولا أعير ما يقوله أي اهتمام، وإن كان يضحكني أحياناً أولئك الذين يدعونه لكي يتحدث عن الشعر.

> أعود الى محمد الماغوط. متى بدأت العلاقة بينك وبينه تسوء، حتى أنه استمر في مهاجمتك، دون توقف؟

- تعرف طبعاً أنني كعادتي مع آخرين كثيرين، لم أرد عليه، ولم أقل عنه اي كلمة مسيئة. كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنيّة صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه، منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحياناً الى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضاً، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودوداً، ونادماً، خصوصاً في ما يتعلق بتهجماته عليّ.

> الآن، كيف تقرأ محمد الماغوط؟

- لا أحس باي حاجة ملحّة لقراءته. مع أنه، كما أظن، يستهوي كثيراً من الشبان. وفي الواقع، استطراداً، أنني لا أحس بمثل هذه الحاجة لقراءة أي شاعر من شعراء جيلي. خصوصاً ذلك الذي كان يملأ دنيا التقدم واليسار والشيوعية، عبدالوهاب البياتي.

> هاجمك البياتي بعنف؟

- لا علاقة لهجومه بما أقول. أقول ذلك، موضوعياً.

> هل تعتقد أن البياتي انتهى كما يقول بعضهم؟

- يصعب عليّ إصدار أحكام من هذا النوع، لذلك، لا أقول: انتهى. أقول إن شعره ضَحلٌ، وليست له اي أهمية فنية – جمالية، بالمعنى الحَصْري للعبارة.

> على عكس السياب؟ السياب تحبّه؟

- كتب السياب عشر قصائد، على الأقل، هي بين أجمل القصائد العربية التي كتبت، منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. هذا يكفي لكي يبقى. وهذا يكفي لكي أحبه.

> هل كانت بينك وبين بدر صداقة شخصية؟

- نعم. وبيننا رسائل متبادلة. وأنا، شخصياً، اخترت قصائد ديوان «أنشودة المطر» من بين القصائد الكثيرة التي وضعها بين يديّ، وفوّضني بالاختيار.

> أين تكمن حداثة السيّاب برأيك؟

- في مُقارَبته للأشياء، وفي طريقة تعبيره عنها. وفي لغته الشعرية، بخاصة: كأنه داخل اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها في  آن: فلحظة يبدو لبعضهم «قديماً»، يبدو، في العمق» «حديثاً» بكامل المعنى. كأنه من التراث كالموجة العالية من البحر: لا هي هو، ولا هي غيره.

وتلك هي «المعادلة» العالية التي نعرفها عند شعراء الحداثة الغربية الكبار.

> أعود الى مجلة «شعر». لم تكن على صداقة مع شوقي أبي شقرا؟

- ... ولكن، لم أكن على عداوة. شعرياً، لم أنجذب كثيراً الى لغته الشعرية. كانت، بالنسبة إليّ، نوعاً من اللعب، سهلاً ومجانياً وفيه شيءٌ من الاصطناع.

>لم يَعْنِ لك شيئاً شعره؟

- احترمته، وأفسحتُ له المكان في مجلة «شعر»، قبل أن ينتمي الى هيئة تحريرها، بوصفه جزءاً من حركة الحداثة الشعرية في لبنان. غير أنني لم أتذوّقه. كنت أراه شبيهاً بعَزفٍ على وترٍ واحد. قد يريحك، للوهلة الأولى، لأنه يخرجك من الفصاحة البيانية في الشعر اللبناني. لكن سُرعان ما يخبو «عِطره» ويتلاشى.

> الفانتازيا لم تحبّها؟

- لا أحب الفانتازيا التي لا تصدر عن عمقٍ في الحس وفي النظر. والتي تفتقر الى جمالية الرؤية والتعبير.

> هو يقول إنه كان يصحح بعض قصائد الشعراء؟

- ربما. لكن، بعد أن تركتُ المجلة.

> فؤاد رفقة، كيف تنظر إليه بشعره المتواضع، علماً أنه آتٍ من الثقافة الألمانية؟

- تصف شعره بأنه متواضع. وهذا صحيح، لأنه امتدادٌ لشخصه المتواضع. فؤاد رفقة يوحّد، أكثر من أي شاعر آخر في جيله، بين ما يحيا عملياً، ويرى ويفكّر نظرياً، وبين ما يكتب شعرياً.

> نازك الملائكة، ألا ترى أن جزءاً من أسطورتها كان واهياً؟

- تكتسب نازك أهميتها الشعرية من كونها أولاً شاعرة في مجتمع يتردد كثيراً في الاعتراف باستقلالية المرأة، وحريتها.
وتكتسب، ثانياً، أهميتها من كونها امرأة مثقفة. أعطت للرومنطيقية بعداً غنائياً أنثوياً كان جديداً في وقتها. كانت تتويجاً للغنائية آنذاك، والتي كان يمثلها أفضل تمثيل الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.

> كيف تنظر إليها كناقدة ومنظّرة للشعر؟ هل قرأت كتابها «قضايا الشعر»؟

- طبعاً قرأته. كان عندها في هذا الكتاب زادٌ معرفي، وآراء ثاقبةٌ في كثيرٍ من القضايا التي طرحتها.

> نشرتم لشاعر من الشعراء المهمّين هو سعدي يوسف. كيف تنظر إليه، وإلى تجربته؟

- منذ البداية، قدّرت هذا الشاعر. افتتحنا بقصيدة له العدد الأول من مجلة «شعر»، وازددت، مع الوقت، تقديراً له ولتجربته. واستحسنت كثيراً تأثره، في ما بعد، بالشاعر اليوناني ريتسوس، الذي عرفته شخصياً في بيته، في أثينا، واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية. وهو اتجاهٌ بارزٌ، اليوم، في الكتابة الشعرية العربية، يعيد الصلة بكثير من الشعراء العرب القدامى الذين اهتموا في شعرهم بهذه التفاصيل، بدءاً من الشاعر الكبير ابن الرومي، مروراً بالصنوبري، والشعراء الآخرين الذين سُمّوا بشعراء «يتيمة الدهر» للثعالبي.

> لماذا حدثت قطيعة بينكما؟

- من جهتي، لم أفعل شيئاً يُوجب اي قطيعة. وإذاً، عليك أن تسأله هو، إن كنت مهتماً بهذا الأمر.
ولئن كانت هناك قضايا شخصية، فأنا لا أحب الخوض فيها.

> كيف ينظر إليك هو كشاعر؟
- مسألة لا تهمّني أبداً. لا سلباً، ولا إيجاباً. ولم أسأل مرة نفسي هذا السؤال.

> لم يكتب عنك كشاعر؟
- له آراء حولي كان يفصح عنها في أحاديثه الصحافية، وبين أصدقائه.

> نشرتم أيضاً لسركون بولص، كيف ترى سركون؟
- سركون شاعر متميّز.

> هل كنت على علاقة طيبة معه؟
- نعم. وكنت أستضيفه أحياناً في بيتي. غير أن علاقتنا تعكّرت فترة، ثم عادت الى طبيعتها.
بدأ سركون الكتابة، وزناً. غير أنه لم يكن يتقنه تماماً. وكنت أدفعه، بسبب من ذلك، الى التخلّي عن الوزن، والكتابة نثراً.

> كيف ترى الى تجربته الشعرية؟
- تمثّل نبرة متفردة وعميقة في الشعر العربي الحديث. وللمناسبة، أجرى معي حديثاً طويلاً لا يزال مخطوطاً. ولا أزال أتردد في نشره.

> وزميله فاضل العزاوي، مثلاً، هل قرأته؟
- أميل الى الظن أنه أقوى روائياً منه شعرياً.

> سنية صالح، كيف تجدها كشاعرة؟ هل ترى أنها أهم من محمد الماغوط وكما يقال أحياناً؟
- أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنيّة شاعرة مهمة جداً، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كلياً في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيّرت بين الماغوط أو سنيّة؟ لأجبتك: سنيّة.

> أذكر مرة أنك سئلت في الثمانينات عن الشعراء الشباب أو الجدد، وقلت عنهم إنهم غابة أصداء، وقامت القيامة. لعلك تذكر ذلك. لكن سئلت مرة أخرى، قبل فترة عن أهم الأصوات الشابة المؤثرة، فسميت ثلاثة: عباس بيضون وقاسم حداد وعبدالمنعم رمضان.
- سمّيت هؤلاء، انطلاقاً من وجهة نظر شخصية معينة في الثقافة العربية، وفي الشعر العربي بخاصة. وهي تنهض على فكرتين: خلخلة المستقر، والتأسيس لأفقٍ كتابي شعري مختلف. وأرى أن ذلك موجودٌ في كتاباتهم. شاعر كعبدالمنعم رمضان، يُفلِت تماماً من الأُطر المستقرة في الشعرية التي أرساها شعراء مصر، بدءاً من شوقي. وهذا مهمٌ جداً. والقول نفسه يصح في عباس بيضون، وقاسم حداد.

> هل يمكن اختصار المشهد الشعري العربي الراهن بهؤلاء الشعراء الثلاثة؟
- كلا، طبعاً. سمّيت لكي أعطي مثالاً، لا لكي أختصر. وقصدت أن أسمّي هؤلاء لأن في شعرهم، كلٌّ بطريقته الخاصة، بعداً هُرْطُقياً، على الصعيدين الفكري والفني. إن شعراً يكتب، اليوم، باللغة العربية، لا هرطقة فيه، متصالحٌ مع الأشياء، إنما هو شعرٌ يكتب خارج التاريخ. وأعني بالبعد الهرطوقي إعادة النظر المستمرة، جذرياً، في الحياة والأفكار والأشياء. فيما تتم خلخلة الراهن، المستقر، السائد.
أعرف أن هناك شعراء يمكن الاستشهاد بهم، في الأجيال اللاحقة، وبخاصة جيلك أنت، شعراء ذوي حضور مضيء، على مستويات أخرى. لكن، لا يمكن الكلام على جميع الشعراء فرداً، فرداً.

> كيف تنظر الى حركة الشعراء الشباب الداعين الى التحرر من وطأة اللغة والفصاحة و «الذكورة» اللغوية والى الميل الى بلاغة «الركاكة»؟
- لمثل هذه الدعوة جذورٌ في التاريخ العربي. وليس على هؤلاء إلا قراءة شعراء مثل ابن سُكّرة وابن الحجاج، وبقية الشعراء من إخوانهم، شعراء الحياة اليومية بمباذلها، ومكبوتاتها وممنوعاتها ومحرّماتها كلها. ولا أعترض، مبدئياً، على هذه الدعوة. الحرية، مرة ثانية، يجب أن تكون حرة.

غير أن النتاج الذي يصدر عن هذه الدعوة يجعل منها، استناداً الى ما قرأته، دعوة سياسية – ثقافية، أكثر منها دعوة شعرية. الشعر هو أولاً شعر، ويجب أن يُقوّم بوصفه شعراً، لا بوصفه «دعوة» – أياً كانت، سياسية، أو وطنية، أو أيديولوجية. المهم في اي «دعوة» شعرية هو شعريتها، لا «سياستُها»، ولا «اتجاهها»، ولا «قضيتها».

الشعر أوّلاً، لا «الدعوة».

> طالما تحدثنا عن مصر، لماذا نلاحظ أن بينك وبين الحداثة المصرية حالاً من القطيعة؟ مثلاً، لم تكتب مرة عن أحمد عبدالمعطي حجازي، أو أمل دنقل، أو صلاح عبدالصبور. كيف تنظر الى هذه الحداثة المصرية؟

- لست ناقداً لكي أكتب عن الشعراء. أقوم بين وقت وآخر بتحية لشعراء أقدّرهم. وهذا ما فعلته، بالنسبة الى صلاح عبدالصبور، ويبدو أنك لم تقرأ ما كتبته عنه.

ثم، من أين أتيت بالقطيعة التي تشير إليها؟ معظم المبدعين المصريين في مختلف الميادين، فنوناً تشكيلية، وشعراً، وقصة، ورواية، ونقداً، تربطني بهم علاقات وصداقات متينة. وأظن أن ما قلته عن صلاح عبدالصبور أساسي، ولم يكشف عنه أحدٌ قبلي: كسر لغة شوقي، السيدة المهيمنة، على صعيد الذائقة، وعلى صعيد المؤسسة، معاً. وهذا مهم جداً، فكرياً ولغوياً وجمالياً. إضافة الى الأهمية الشعرية، بحصر الدلالة. فقد كان ذلك بداية النقلة من أفقٍ شعري، الى آخر مختلف كلياً.

> لكن، ألا تعتقد أنه كانت هناك مرحلة وسيطة بينه وبين شوقي؟

- حتى لو سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فقد كان صلاح عبدالصبور الأكثر جذرية، خصوصاً على صعيد اللغة الشعرية.

> وأمل دنقل؟

- موهبة شعرية عالية. وأنا أقدّر هذه الموهبة كثيراً، دون أن يعني ذلك، أنني أُعجَبُ بمنجزها الشعري. فالرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالباً وظيفية – سياسية. وهذا مما جعل شعره وصفاً للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، لكن، مهذبة، مُنقحة.

أميل، شخصياً، الى الشعر الذي لا يعيد إنتاج الأشياء، وإنما يهدمها برؤية جديدة وشاملة، ويعيد تكوينها، مبتكراً عالماً آخر، بلغة أخرى، وفي أفقٍ آخر.

> عموماً، كيف تنظر الى الحداثة الشعرية في مصر؟ يحاول النقاد المصريون والشعراء أنفسهم في مصر أن يخلقوا حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر الى هذه الحالة؟

- لا أرى مثل هذه الحالة. الحداثة في مصر جزءٌ عضوي من الحداثة في البلدان العربية كلها. ربما كان هناك تنويع، لكنه حتى الآن، ليس واضحاً، لي على الأقل.

في كل حال، ليست الحداثة، شعرياً أو فنياً أو فكرياً أو أدبياً، مصالحة أو توفيقاً. الحداثة انشقاق وقطيعة. لكنها، قبل ذلك، رؤية للمستقر الموروث، مغايرة، وجذرية، وشاملة للحياة والإنسان والعالم.

مجرّد الكتابة بالنثر، أو قصيدة النثر، في هذا الإطار، لا تعني في حد ذاتها شيئاً. ما يعني هو الآفاق التي تصدر عنها الكتابة، والآفاق التي تفتحها – فنياً وجمالياً وفكرياً.والحداثة العربية، على هذا المستوى، لا تزال في بداياتها. وما يلفت النظر في هذه الحداثة هو نسيان الجمالية ولغتها، أو هو إهمالها. قلّما نجد دراسة تُعنى بجمالية الكتابة العربية الحديثة أو بلغتها، تراكيب وصوراً وموسيقى.  الدراسات كلها تعنى بما هو ثانوي: الموضوعات والاتجاهات... الخ. فهذه لا تأخذ أهميتها إلا بكيفية التعبير عنها، أي بمستوى لغتها وجماليتها. وهذا ما نهمله جميعاً، تقريباً، شعراء ونقّاداً. أي أننا نهمل ما لا يقوم الشعر إلا به.

> كيف تقرأ أحمد عبدالمعطي حجازي؟

- أقرؤه في سياق الشعر المصري الغنائي الذي يمثله، على نحوٍ خاص، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي. فهو في شعره استمرارٌ لهؤلاء مع شيء من التنويع، شكلاً ومضموناً، يرتبط بالحدث السياسي – النضالي، وبالحدث الواقعي الاجتماعي. وسواءٌ قرأت شعره، من حيث بنية القصيدة، أو بنية اللغة الشعرية، أو من حيث الرؤية الفنية، بعامة، فإنني لا أجد فيه مُنعطفاً، على غرار ما أجد، مثلاً، في شعر صلاح عبدالصبور.

 ماذا عن الشعر الفلسطيني؟ كيف تنظر الى طابعه الإشكالي؟

- هو الآخر جزءٌ من الشعر العربي، غير أنه يتحرّك في مدار من خصوصية المأساة الفلسطينية: شعراء فلسطين يعيشونها، ونحن الشعراء العرب، خارج فلسطين، نُعايشها. والفرق كبير. وهذا يلقي مسؤولية كبيرة وخاصة على الشعراء الفلسطينيين.الخلل، كما يبدو لي هنا، وهذا ما قلته مراراً، ومن زمن طويل، هو أن فلسطين تحوّلت في الشعر العربي كله، لا في الشعر الفلسطيني وحده، الى «موضوع» – بدلاً من أن تتحول الى «تجربة»، كما كان مُفترضاً.

فلسطين انفجارٌ مأسوي – كارثي في الحياة العربية، اجتماعاً وسياسة. فناً وفكراً. انفجارٌ يأخذ أبعاداً كونية. ولا أرى أن شعرنا ارتقى الى مستوى هذا الانفجار.

> ألا تعتقد أن محمود درويش استطاع أن يحقق هذا الإنجاز في شعره الأخير؟

- عرف محمود درويش، بذكاء كبير، كيف يستقطبُ اهتماماً كبيراً، عربياً وأجنبياً، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا يتقاطع في شخصه الشاعر والسياسي، البعد الواقعي للنضال الفلسطيني وبعده الرمزي. غير أن شعره في حد ذاته مسألة أخرى. وأجد، شخصياً، صعوبة في الكلام على شعره، بسبب أساسي من صداقتنا في أثناء إقامته في بيروت، وبخاصة في أثناء إقامته بباريس. وقد كان، كما تعرف، عضواً في هيئة تحرير «مواقف»، فترة، ثم أنشأ مجلته «الكرمل». ذلك أن الصداقة قد تكون حجاباً، في حالات كثيرة، بينها مثل هذه الحالة.

في كل حالٍ محمود وارثٌ ذكي لمن سبقه من العرب: نزار قباني، سعدي يوسف وأدونيس. هذا على صعيد طرائق التعبير. أما على صعيد المضمون فهو أيضاً وارثٌ ذكي للثقافة العربية، خصوصاً كما تُعاش في الحياة العربية اليومية. ومعنى ذلك أن شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقاً لجميع الأنظمة، بدءاً من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزاً شعرياً وطنياً، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعاً ذاتياً فنياً: لا التراث، ولا اللغة، ولا الدين، ولا الذات، ولا الآخر. حتى المشكلات التي كان يطرحها أحياناً، كالموت والمنفى أو غيرهما، إنما كان يطرحها، ثقافياً، وفي إطار ثقافي معروف. شعره مكتوبٌ بلغة الجمع، ورؤية الجمع. غير أنه مكتوبٌ بذكاء غير عادي. يشهد لذلك «الإجماع» عليه.

وفي رأيي أن هذا «الإجماع» يشهد، شعرياً، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع.

> والغنائية لديه، كيف تنظر إليها؟ لا تحب الغنائية أو لست بميالٍ إليها؟

- لستُ مَيّالاً الى غنائية البكاء والندب، غنائية الرثاء الذاتي أو المدح الذاتي. لكن كل شعر عظيم إنما هو شعر غنائي من حيث انه يحوّل الكون كله الى نشيد، والإنسان الى صوتٍ وموسيقى.

> هل استوقفتك تجارب أخرى في الشعر الفلسطيني؟

- هناك، لا شك، كتابات مهمة، خصوصاً تلك التي تُفلت من الغنائية السهلة. تابعت بعضها، لكن يؤسفني أنني لم أقدر أن أُتابعها كلها.

> هل قرأت سميح القاسم؟

- قرأت ما وقعت يدي عليه. هو في طليعة شعراء جيله.

> والشعراء الفلسطينيون الجدد؟

- طبعاً، هناك شعراء فلسطينيون آخرون. ويؤسفني أنني لم أقرأ لمعظمهم إلا قصائد متفرقة، محدودة لا تسمح لي، أو لا تُجيز لمن يحترم الشعراء والشعر، أن يُصدر أحكاماً، سلباً أو إيجاباً.

> سنتحدث عن الشعر المغاربي. أقول مغاربي، قصداً، لأن الشعرية هناك، في المغرب العربي، في شكل عام، تختلف عن الشعرية المشرقية. هل توافقني على هذا التقسيم أنت الذي تعرف الشعر المغاربي جيداً، وأنت الحاضر جداً في المغرب العربي؟

- لا أظن أن في المغرب وحدة شعرية، فنياً. ما يكتب باللغة العربية في تونس مثلاً يتميز عما يكتب في المغرب والجزائر. فهو الأكثر قرباً الى اللغة الشعرية المشرقية. وما كتب أو يكتب باللغة الفرنسية، يختلف كلياً عما يكتب بهذه اللغة في لبنان، مثلاً. هذا أولاً.

ثانياً، الكتابة المغاربية الأدبية، الشعرية والروائية، باللغة الفرنسية أكثر قوة منها باللغة العربية، إجمالاً. لا نجد في الدول المغاربية حتى الآن روائيين أو شعراء باللغة العربية في مستوى كتابها باللغة الفرنسية: كاتب ياسين أو محمد ديب أو رشيد بوجدرة، أو ياسمينة خضرة، أو آسيا جبار، أو محمد خير الدين أو عبدالكبير الخطيبي، تمثيلاً لا حصراً.

ثالثاً، الشعر المغاربي، باللغة العربية – وأعني شعر الأجيال الراهنة الشابة، أعمقُ ثقافة، وأقلّ هجساً بالذاتية (وهما مزيتان)، من شعر الأجيال الراهنة الشابة في المشرق العربي.

رابعاً، وإذا ربطنا بين الشعر والفكر، في المغرب والمشرق، فإن الفكر في المغرب، متمثلاً في محمد أركون، وعبدالله العروي، وهشام جعيط تمثيلاً لا حصراً، أكثر غنىً وعمقاً من الفكر المشرقي.

خامساً، تتجلى الإبداعية المغاربية، بشكلها الأكثر خصوصية، في الفنون التشكيلية، وسؤالي هنا هو: ما يكون في هذه الظاهرة، دور التوترات، والصراعات اللاواعية والواعية، التي تعيشها «لغات» المغرب العربي، غير التشكيلية: العربية الفصحى، العربية الدارجة، الأمازيغية، اللغة الفرنسية؟

> كيف تفسّر ظاهرة قبولك في المغرب العربي، شعرياً، والأثر الذي تركته في النص الشعري المغاربي؟

- إن كان هذا القبول وهذا الأثر صحيحين فهما يسعدانني كثيراً. أعرف شخصياً معظم الشعراء والرسامين والروائيين والمفكرين المغاربيين. وتربطني بعدد منهم صداقات قديمة وعميقة. وكنت في المشرق بين أوائل، وربما أول من تنبهوا لأهمية الشعر والفكر في المغرب باللغتين العربية والفرنسية، ورحبوا به، ونشروه، خصوصاً في مجلة «مواقف»، بدءاً من أواخر ستينات القرن الماضي. وكانت مجلة «الثقافة الجديدة» التي أسسها الصديق الشاعر محمد بنيس أختاً لمجلة «مواقف» وامتداداً مغربياً عالياً لجذريتها وانفتاحها، ونظرتها النقدية الشاملة.

> طالما تحدثنا قليلاً عن الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، أود أن أسألك عن رأيكَ في الشعر العربي الفرنكفوني، وعن بعض الشعراء الذين كتبوا بالفرنسية، ومن هم الأقرب إليك، سواءٌ في المغرب أو المشرق؟

- في المغرب كاتب ياسين، ومحمد ديب، ومحمد خير الدين. في المشرق جورج شحادة، وفؤاد غابرييل نفاع، وصلاح ستيتية. أما مستقبل الشعر العربي الفرنكفوني، فأمرٌ يصعب عليّ التكهن به، خصوصاً في أفقٍ يزداد فيه تراجع اللغة العربية وأكاد أقول: انهيارها، فنياً وفكرياً.

> هل تعتقد أن الشعر الفرنكفوني العربي، ساهم في ثورة الحداثة التي خضتموها أنتم الشعراء الذين تكتبون باللغة العربية؟

- كلا، لا أعتقد. كان جمهور هذا الشعر محصوراً بعارفي اللغة الفرنسية. وكان قرّاؤه بينهم محدودين. الحداثة جاءت «غريبة» على جمهور القراء العرب، إجمالاً. كان حتى المثقفون والأساتذة الجامعيون يسخرون منها، وكان بعضهم يأسف على مواهبنا التي تضيع فيها. حتى الآن لم تنشأ قراءة حديثة في مستوى الكتابة الحديثة. لا يزال النمط السائد في القراءة قديماً.

> كنت أول من قدّم الشعر العربي الفرنكفوني في مجلة «شعر». ترجمت كاتب ياسين وجورج شحادة وفؤاد غابرييل نفاع وعبداللطيف اللعبي وآخرين وقدمتهم الى القراء العرب. كيف تقرأ نفسك اليوم مترجماً الى الفرنسية؟ هل تشعر أنك كنت تحلم بالكتابة بهذه اللغة؟

- أبداً. ظلّت، بالنسبة إلي، لغتي الثقافية. إبداعياً، تربطني باللغة العربية علاقة كيانية. اللغة – الأم هي لغة الإبداع الشعري، وليس للإنسان إلا أمٌّ واحدة. أشك في أن يكتب شاعرٌ بلغتين بالحيوية ذاتها، وبالطاقة الإبداعية ذاتها. وإن كان هذا ممكناً في النثر. غير أن اللغة الفرنسية أفادتني شعرياً بوصفها لغة ثقافية. مثلاً، بفضل شعرها، ممثلاً على الأخص برامبو وبودلير ومالارميه، أعدتُ اكتشاف الشعر العربي، ففهمته بشكل مغاير تماماً للفهم الذي كان سائداً عندنا، وبخاصة في مدارسنا وجامعاتنا، وصرت أقرؤه في أفق الشعرية الكونية. عندما قرأت بودلير، وقرأت في ضوئه أبا نواس، رأيت مطابقات بينهما، في ما يتعلق بحس المدينة، وبالعابر الزائل في أحضان الأبدية، وبالجمال الخاص بالمدينة وحياتها اليومية. ورأيت أن بودلير يكرر في شعره أجواء ومناخات نواسية. وعندما قرأت مالارميه، فهمت دور اللغة، ومكانها في العالم الشعري الذي يخلقه الشاعر.

ثمّ بعد ذلك في ضوء السوريالية، أعدت اكتشاف اللغة الصوفية، في معزل عن الدين. ورأيت أن هناك مفهومات مشتركة بين الصوفية والسوريالية. مثلاً، ما سمّته السوريالية بالكتابة الأوتوماتيكية، أو الآلية، كانت الصوفية تسميه إملاء، أو شطحاً. وهو الكتابة الخارجة على كل رقابة عقلية. وما سمّته «النشوة»، كانت الصوفية تسمّيه «الانخطاف». وما كان يقوله رامبو: «الأنا آخر»، كانت الصوفية تقوله، بطريقتها: «الأنا لا أنا»، أو «الآخر هو أنا» – بحيث ان الإنسان لا يصل، في سفره نحو ذاته، إلا عبر الآخر. فالآخر عنصرٌ تكوينيٌّ من عناصر الذات. وعَبر ذلك أعدت اكتشاف معنى الهوية. الهوية في التصوّف ليست إرثاً، أو ليست جاهزة مُسبقاً، وإنما هي ابتكارٌ دائم. فكأن هوية الإنسان لا تجيء من ورائه أو ماضيه، وإنما تجيء من الأمام، أو من المستقبل. إضافة الى مفهومات أخرى كثيرة، فصّلتها في كتابي الذي صدر منذ سنوات، وأعيد طبعه مراراً: «الصوفية والسوريالية».

هذا كله يحتّم على الشاعر العربي أن يعيد قراءة تراثه باللغة العربية. ذلك أنه لا يستطيع أن يكون حديثاً فيها، إلا إذا عرف قديمها، ولا يستطيع أن يخلق بها جمالاً جديداً، إذا لم يعرف جماليّتها، وتاريخها الجمالي. ومن هنا لا تزال الحداثة عندنا مُلتبسة.

> عندما تقرأ نفسك مترجماً الى الفرنسية، اللغة التي تجيدها، ما يكون شعورك، وكيف تقرأ لحظاتك الشعرية في لغة الآخر؟ هل ترى نفسك غريباً؟

- لا أرى نفسي تماماً في لغتها الأصلية، دون ترجمة، فكيف أراها في الترجمة. وإذا كان الشعر ترجمة أولى للنفس، في لغتها الأصلية، فإن ترجمة هذه الترجمة الى لغة ثانية، ستجعل النفس أكثر بعداً، وأكثر تغرّباً. الترجمة تقدم علامات، إشارات، أفكاراً، علاقات من النص الشعري المُترجم. هكذا تقدّم «عالمه»، بالمعنى الواسع. غير أنها لا تقدم ما لا تتم شعرية النص إلا به: موسيقى اللغة، العلاقات بين الكلمة والكلمة، الحرف والحرف، ومن ثم الصور وكيمياءها الشعورية واللغوية. فالشعر يُترجَم رؤية ومُقاربة، لكنه لا يُترجم لغة وفناً. المهمّ إذاً في ترجمة الشعر أن يضع المترجم رؤية النص ومقاربته للأشياء في لغة عالية يستطيع أن يخلق بها مُعادِلاً للغة المنقولة في كل ما يتعلق بالموسيقى، والصور، والمخيلة والعلاقات في ما بين الكلمات، وبحيث يتم هذا كله وفقاً لعبقرية اللغة الناقلة، وخصوصياتها.

> سأقلب الآية، وأقول إنك ترجمت سان – جون بيرس، ترجمة إبداعية الى حد أنك خنت بعض المقاطع، كما قيل عنك؟ ماذا تقول عن علاقتك بشعره، وعن هذه الترجمة؟

- ليس هناك تطابق بين لغة ولغة، لا في تركيب الجملة، ولا في علاقة الكلمة بالكلمة، ولا في العلاقة بين الكلمة والشيء، ولا في الموسيقى اللغوية، أو في الصورة الفنية. انعدام هذا التطابق يدفع بعضهم الى ترويض لغته الناقلة، وجعلها تستسلم كلياً للغة التي تنقلها بحيث تصبح الترجمة نوعاً من الاستنساخ، بحجة الدقة والأمانة والعلم – وما إلى ذلك من الحجج التي تُقال، خطأ في غير مَوْضعها. وتأتي هذه الترجمة مضحكة، إجمالاً، ليس فيها شيء من الشعر، وإن كانت «أمينة» و «عالمة». وبعضهم، وأنا منهم، يرفض هذا الاستسلام. يحاول أن يخلق بلغته الناقلة لغة لا تكتفي بأن تعادل اللغة المنقولة، وإنما تحاول كذلك أن تتفوّق عليها، تعويضاً عما لا يمكن تداركه في اللغة المنقولة. وهذا عملٌ يُعطي معنى جديداً لترجمة الشعر: لا تعود نقلاً أميناً، وإنما تُصبح إبداعاً. وفي كل إبداع خروج. وفي كل خروج نوعٌ من الخيانة. غير أنها خيانة تحول دون أن يُخطئ الشعر، في حين أن الأمانة تحول دون أن يُخطئ الحرف. وشتّان بين الأمرين: أفضل، شخصياً، أن أخطئ حرفياً، على أن أخطئ شعرياً.

في هذا الأفق، وعلى هذا الأساس، نظرت الى شعر سان – جون بيرس وترجمته. وها هو نصه بالعربية يكاد أن يكون تأسيسياً. مضارعاً بذلك لغته الأصلية. ونعرف جميعاً أنه خلق تياراً في الكتابة العربية. وبعضهم لا يزال يترنح في مَهب رياحه العالية. في هذا الأفق أيضاً، حلمتُ ولا أزال أحلم بأن أترجم ثلاثة شعراء فرنسيين: بودلير، ورامبو، ولوتريامون.

> ومالارميه؟

- ترجمته، بالنسبة إليّ، متعذّرة لطبيعة اللغة التي يكتب بها. ثم إنني لا أجد في شعره ما يأسرني حقاً، وإن كنتُ أجدُ فيه حساً باللغة عالياً وفريداً.

> لكن عملك على سان – جون بيرس، كان تأسيسياً. وقد أثر في شعراء عديدين. لماذا اخترته؟

- لِنَفسه الملحمي الذي يتدفق في لغة غنائية كونية، ينصهر فيها الحِسُّ والذهن، الواقع والمخيلة، المرئي واللامرئي، الشعور والفكر، المجرد والمحسوس، على نحو مُدهش. وللمناسبة، لا يحبه الشعراء الفرنسيون الشبان، ولا الشعراء المتأثرون بالشعر الأميركي الراهن. يكاد أن يكون معروفاً في الشعر العربي، أكثر منه في أي شعر آخر، راهن، ولا أستثني الشعر الفرنسي الراهن ذاته.

> هل أثّر فيك سان – جون بيرس؟

- طبعاً. خصوصاً في القصائد التي كتبتها، فيما كنت أترجمه. أخصّ بالذكر: «مرثية القرن الأول» و «مرثية الأيام الحاضرة» و «أرواد، يا أميرة الوهم». والقصائد الثلاث منشورة في كتاب «أوراق في الريح». وتأثيره هنا اقتصر على طريقة تركيب الجملة الشعرية عنده، وعلى بنية الصورة الشعرية. حتى أنني استعرت منه في هذه القصائد، أكثر من جملة. لكن تأثيره الأكثر أهمية هو أنه أقنعني ألاّ أكتب قصيدة نثر، بالشكل الشائع، القصير الموجز. فبتأثير منه استخدمت النثر بوصفه «وزناً» آخر لكتابة الشعر، وكتبت بالنثر قصائد طويلة ذات نَفَسٍ ملحمي بلغت ذروة أجدها مهمة جداً في كتاب «مفرد بصيغة الجمع». غير أنني تابعت، في ما بعد، كتابة القصائد الطويلة، نثراً.

> لماذا وفّقت في ترجمة سان – جون بيرس، أكثر مما وفقت في ترجمة إيف بونفوا، وهذا ما لمسناه فعلاً؟

- لأن شعره «عاقل» و «هادئ»، وبعيدٌ عن «الجنون» الذي يُتيح «الخيانات». بونفوا يكتب شعره بحضور العالم. سان – جون بيرس يكتب شعره، مقتحماً العالم، معيداً تكوينه.

> ما الذي جذبك الى ترجمته؟

- صداقتنا. كانت ترجمته نوعاً من التحية الشخصية.

> ترجمت الكثير من الشعر الفرنسي. من استوقفك، إضافة الى الشعراء الذين ذكرناهم؟ مثلاً، رينه شار، ماذا يعني لك؟

- شاعر مهم. يمكن وصفه بأنه متوسطي، كمثل صديقه ألبير كامو.

> تحدث مرة أندريه فيلتير عن حضورك في الشعر الفرنسي، عبر شعرك المترجم الى الفرنسية. كيف تفسر هذا الحضور؟

- شعري متأصلٌ في الذاتية العربية، غير أن الآخرية، وبخاصة الفرنسية، متموجةٌ في هذه الذاتية كما لو أنها جزء منها. ولهذا يبدو شعري مختلفاً عن الشعر الفرنسي، وفي الوقت نفسه مؤتلِفاً معه. وفي هذا ما نبّه القرّاء الفرنسيين وبخاصة الشعراء الى أبعاد شعرية وفكرية يهتمون بها: كمثل الوحدة بين الشعر والفكر، وكمثل الغنائية الأرضية الجسدية، نقيضاً لتلك الانفعالية الغضبية الفردية، أو الحُزْنية. وكمثل الشفوية، والترحل، والوحدة بين المرئي واللامرئي، المعقول واللامعقول... هذا كله خلق مناخاً من الاهتمام بشعري في فرنسا – قراءة، وتأثيراً.

> يلاحظ أنك على الرغم من اهتمامك بالفرنكوفونية الشعرية، لم تكن بعيداً عن أجواء الشعر الأنغلوسكسوني. شاركت، مثلاً، يوسف الخال في ترجمة قصيدة إليوت «الأرض الخراب». كيف تنظر الى علاقتك بهذه الضفة الثانية – الثقافة الأنغلوسكسونية؟

- علاقتي هنا بشعراء، لا بمدارس أو اتجاهات، شعراء هم إجمالاً من الفترة الكلاسيكية، باستثناء إليوت، وعزرا باوند. واليوم، لا أهتم كثيراً، إلا من باب الاطلاع، بالشعر الأميركي الراهن، أو الإنكليزي الراهن. لا أجد فيه ما يفتح أفقاً للتأمل، أو ما يُغني.

> «الأرض الخراب»، هل أثّرت في شعرك، من حيث انها حضرت بشدة في الشعر العربي الحديث؟

- أظن أن القراءة العميقة للشعر لا يمكن إلا أن تؤثر في القارئ، قليلاً أو كثيراً، بشكل أو آخر. لكن التأثر شعرياً لا يعني التماثل، وإنما يعني، على العكس، التمثل. التأثر بشاعر ليس أن نأخذ جملة منه، أو فكرة وندمجها في كتابتنا، بطريقة أو بأخرى. التأثر هو أن نتمثل كيفية رؤيته للأشياء، وكيفية مقارباته لها. هو أن نخترق عالمه، ونرى الضوء الذي يشعُّ منه، وكيف؟ وهو تأثّر طبيعي وضروري، مارسه وعاشه الشعراء الكبار في العالم. وكل شاعرٌ لا يقرأ الشعر الكوني، في مستوى هذه القراءة، أتردَّدُ في تسميته شاعراً.

> أتذكر هنا توفيق صايغ. كيف ترى الى هذا الشاعر؟

- توفيق صايغ حالة خاصة في كتابة الشعر نثراً. فهو، فنياً، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر  عن جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بِنيَةٌ إنكليزية بألفاظٍ عربية. وهو، مضمونياً أو فكرياً، يصدر عن ثقافة سيكولوجية – مسيحية مُغَربَنَة حضارياً، أكثر مما يصدر عن مسيحية مشرقية – عربية تشحنُها التجربة الذاتية بغَربٍ مُشَرْقَن. وفي هذا ما يجعل «هويته» في كتابته الشعرية تبدو وكأنها «ثقافية» أكثر منها جمالية. ويجعل شعره سفراً في الأفكار، أكثر منه سفراً في أرض اللغة التي يكتب بها، أو في «جسدها» و «ما وراءه».

مع ذلك، تبقى كتابته، كما يبدو لي، ظاهرة تدفعنا، شعرياً وإنسانياً، الى أن ندرس معنى « الجسر» الذي حاول أن يقيمه بين اللغة العربية وثقافة كونية لا يَبدو فيها من محيط الثقافة العربية إلا «قاربٌ» لغوي، شعري عائمٌ، غائمٌ، بعيد