عراقيّو«الشّرقيّة»: لبنان محطّتنا قبل الترحيل |
المقاله تحت باب قضايا أليسار كرم
يختبئ يوسف وراء حائط الباطون، مصوّباً سلاحه الخشبي نحو صبية يركضون مسرعين إلى منازلهم. على الحائط صورة أحد المرشحين العراقيين، وإلى جانبها إشارة الصليب. تخرج أمّه إلى الشرفة لتنشر الغسيل ويسبقها صوتها «يوسف ارم السّلاح. أوقفوا هذه اللعبة». هنا، في ما يُعرف بـ«حيّ الزّعيترية» في الفنار، تعيش العوائل العراقية المهجّرة من محافظتي نينوى وبغداد في ما يشبه البيوت. أبنية هرمة ومتراصّة تفصل بينها أكوام النّفايات أو بعض السّيارات المركونة على جنبات الطّريق. «النّاس وصلت عالقمر وإحنا عايشين بين الجرذان» تقول ليليان كوركيس بغضب، وتتابع «حسرة علينا أن نغسل ثيابنا أو نستحم أكثر من مرة في الأسبوع، وعلينا أن نشتري الماء». تتوقّف لتطلّ برأسها من الشبّاك وتنادي ابنتها الصغيرة، تؤنّبها بحدّة وتأمرها بالدخول. تتحدّث والتّوتر بادٍ على وجهها «الشّهر الفائت وقعت عن الدّرج ونزفت من رأسها، وعندما عجزتُ عن مداواتها أوصلني جارنا بسيارته إلى أحد المستشفيات حيث طلبوا مني 300 دولار. كيف نعيش مع خمسة أولاد ومدخول زوجي 450 دولاراً في الشهر نقتطع منه 200 دولاراً لإيجار البيت؟». إيجار البيت شرّ لا بد منه، فهجرة العراقيين إلى لبنان خلال السّنوات الثلاث الماضية أدّت إلى ندرة البيوت المتوافرة للإيجار، وخصوصاً في الأحياء السكنية الشعبية في الضاحية «الشرقية» لبيروت، كالرويسات في الجديدة وتل الزعتر في الدكوانة وحي الزّعيترية في الفنار، حيث لا تتعدى قيمة الإيجارات 250 دولاراً لبيوت بالكاد تستحق هذا الاسم. الحيطان تآكلها العفن، فتماوجت ألوانها بين الأبيض والأصفر والرّمادي. رائحة الرّطوبة تملأ الغرف الضيّقة التي لا تعرف نور الشّمس، فيما الشرفات الصغيرة تختبئ من الأشعة الحارقة صيفاً ومن مياه الأمطار شتاءً تحت شوادر هشّة من النايلون. مياه الصرف الصحي تسيل على الأدراج التي نبت العشب بين تشققاتها والحشرات تسرح وتمرح في فضاء المنازل. «اكتبي عشان العالم يعرف العراقيين وين عايشين. واللهِ اللي يطلع من داره يقلّ مقداره». ليست حال لمياء رويل، جارة ليليان، بأفضل من حالها. هي أيضاً تعيش معاناة التهجير مع زوجها وأولادها الأربعة وعمّة زوجها المريضة. تتمنى لمياء ألا تطول إقامتها المؤقتة في لبنان «أسماؤنا مسجلة لدى الأمم المتحدة، ونحن ننتظر في لبنان لترحيلنا إلى مكان آخر. لا نعرف إلى أين، لا يهمّ. نريد أن نكون في بلد غربي، حيث تحفظ لنا الدولة حقوقنا». لا تنكر لمياء تلقّيها المساعدات من جمعية «كاريتاس» وكنيسة السريان القريبة من سكنها، لكنّها لا ترى في هذه المساعدات العينية البسيطة ما يسدّ حاجة العائلة التي وصلت إلى لبنان في حزيران 2009 بعد تلقّي زوجها رسائل تهديد بالقتل إذا لم يغادر بغداد. ترفض لمياء تسمية الجهة التي هدّدت «مسلمون، أكراد، أميركيون... لا أعرف ولا يهمّ. إنهم مخرّبون». ترفع يدها لتزيل خصلة من شعرها المُحنّى عن وجهها، فيظهر الحبر على إصبعها «نعم انتخبت وغمّست إصبعي بالحبر، لكن ما الفرق؟». تضيف «صوّتنا لإياد علاوي، لكن لا أعتقد أن شيئاً سيتغيّر حتى إنني لم أسأل عمّن فاز في النهاية. لا فرق». قد يكون اهتمام الرّجال بالسياسة أكبر. ففي القهوة القريبة من جامع علي بن أبي طالب في الفنار، يجلس رجال عاطلون من العمل، يشربون القهوة، يتحدثون تارةً ويراقبون حركة المارّة والسيارات تارة أخرى. بعضهم ترك أشغاله بسبب سوء المعاملة، وبعضهم الآخر لا يجد من يقبل بالعمل معه لأنه لم يحصل على الـ«إقامة» بعد. يقول غانم الذي ترك الموصل بحثاً عن الأمان «نحن عانينا من التهميش في بلادنا وسننتخب المرشحين المسيحيين، لأننا نعرفهم ونثق بعملهم لمصلحة شعبنا. صوّتنا ضد اليأس كي نقوم بواجبنا. أنا انتخبت المرشح «أثير أليشع»، فهو ابن منطقتي لعلّه يخدمنا». يضحك يوحنا وهو «يرفع العشرة» ليرى الجمع من حوله أنه لم «يلوّث» أصابعه بالحبر الانتخابي «ماذا سيتغيّر؟ ننتخب عشان نضحك على أنفسنا؟». ترتفع الأصوات المستنكرة «الوجود المسيحي مستهدف في العراق»، «لم يعد هناك وجود مسيحي في العراق أصلاً لأن الدّولة عاجزة عن حمايتنا»، «لا تتعب من حياتك هنا، فقد نعود يوماً ما. أنت تنتخب لأولادك». مواطنوهم في حيّ تل الزّعتر في الدكوانة يبدون أكثر تفاؤلاً وأكثر حذراً أيضاً. لا يعطون أسماءهم الكاملة خوفاً من الملاحقة لأنهم يعلمون أن بقاءهم في لبنان غير شرعي «نحن أتينا بتذاكر سفر سياحية على أساس أن نبقى 15 يوماً أو شهراً واحداً لا أكثر، ونحن لم نستوفِ شروط الحصول على إقامة». يقول البعض «وبلاها الإقامة! نحن نريد الذهاب إلى أميركا، حيث الحياة أفضل وسجّلنا أسماءنا لدى الأمم المتحدة ليدرسوا ملفاتنا ويريّحونا بقا». بالعودة إلى موضوع الساعة، الانتخابات العراقية، ينتظر داوود من المرشحين الفائزين «أن يلبّوا مطالبنا، وأهمّها حمايتنا في المناطق المتنازع عليها منها، مثل منطقة القوش ومنطقة البحشيقة والباطمايا، فنحن نخاف أن يجري تكريدنا في ظل سيطرة الميليشيات الكردية. هناك كنا بين فكي كماشة، وحقوقنا مسلوبة. نطالب أيضاً بإنشاء جامعات ومدارس وبإيجاد حل لكارثة البطالة التي يعاني منها العراقيون». يصرّون على أهمية التصويت لأبناء طائفتهم فقط «لا أعطي صوتي إلا للقوائم المسيحية. نحن يحقّ لنا بخمسة نواب مسيحيين فقط. فإذا لم نصوّت لهم فلن يصلوا بالتأكيد إلى البرلمان ولن نجد من يدافع عنا». يتحدّث شوقي عن الظروف المعيشية لعراقيّي تلّ الزعتر «هنا لا أحد يهتم لأمرنا باستثناء جمعية كاريتاس التي تغطي 85% من كلفة الدواء، كما تغطي جزءاً من تكاليف التعليم لأولادنا. الأحزاب والسياسيون لا يأبهون، لأمرنا والسفارة العراقية لا تستطيع مساعدتنا لأننا وصلنا إلى هنا بجواز سفر سياحي أو بطرق غير شرعية. وبما أننا لا نملك الأوراق الرسمية للإقامة، فنحن لا نجرؤ على الخروج من هنا خوفاً من الدّرك». يلتبس على معظم العراقيين موضوع الحصول على الإقامة وشروطها، فيشتكي البعض «يقولون في الأمن العام إنه يجب تأمين 60 مليون ليرة لبنانية وإيداعها في البنك لنحصل على إقامة»، فيما يهوّنها البعض الآخر «هي فقط 3000 دولار، وقد نُوفّق بالتعرّف إلى من يكفلنا، لكن نخشى أن نصبح خاضعين لأوامره أو مستَغَلّين منه». قد تغيب إشراقة الأمل عن هذه البيوت كلّياً لولا وجود الأطفال الحالمين بالعودة إلى بيوتهم. يقتلون الوقتَ باللّعب والضّحك. سمر (8 سنوات) تحب الرسم ومساعدة أمها بتنظيف البيت وكتابة فروضها بعناية لتصبح طبيبة أسنان «عشان صلّح اسناني الخربانة». أما يوسف فيشرح «هذا رشاش خشبي صنعته بنفسي، يستعمله فريق الشرطة لإطلاق النار على الإرهابيين، لكننا لا نعرف من سيربح في النهاية». عن " الاخبار " اللبنانية
|