وليد هرمز يعيد هندسة الوجع في سالميتي - مدائح الزيت

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
20/11/2009 06:00 AM
GMT



يحمل الديوان الثاني للشاعر العراقي وليد هرمز عنواناً رئيسياً " سالميتي " وآخر فرعي  " مدائح الزيت " وهما في الأصل عنوانين لنصين شعريين على مدى مائة صفحة من القطع المتوسط ، وسالميتي هذه كما هَمش لها الشاعر في الصفحة الثالثة عشر ( سالميتي  : كلمة أكدية تطلق على البصرة ).
 فالشاعر وليد... في بنائه للنصيّن يحرك الركود والرتابة في وعي المتلقي الذي أدمن الأنين والشكوى، والبكاء، والإستسلام للإقدار !! . ويدفعه لتأمل بانورامي " الصور والمشاهد المتراكمة في الذهن " والإحاطة بما جرى لهذه المدينة التي يمكن تصويرها إختزالاً لما ألت إليه بلاد الرافدين من خراب ودمار دون أن يتركك محملقاً، فاغر الفاه، تطلق الحسرات على مدينة خصبة بإنتاجها للمبدعين والشعراء والمفكرين على مدى تاريخها، وواقع الحال يبدو للوهلة الأولى بإنها تكاد تكون فقدت قابلية الإنجاب والعطاء... والدهشة، وليست بالدهشة، هي في أن ينبري أحد أبنائها بعد فراق لها لأكثر من ربع قرن ليخصها بهذا النص الجميل الذي يسرد لك حكاية مدينة، ومكان ملتصق في ذاكرته ووجدانه.
 حملت البصرة عبر التاريخ أسماء مختلفة، ومنها " باب سالميتي " كما وضفها شاعرنا عنواناً لنصه، المأخوذة من " سابليتيوم " الأكدية  ومعناها " باب أسفل البحر " أو إحدى الطوابق السفلى لهرم الحضارات، التي قامت من بعدها على أرض الرافدين، كما أُ ُطلق عليها البصيرة، وكذلك تروادة ، ودرة الخليج، وفينيسا الشرق الإوسط، وآخرها البصرة، ويروى بإن الإمام علي خاطب أهلها " يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة " وهذه كلها أسماء تطلق على مناطق البصرة، وهناك من يعيد أصل كلمة البصرة إلى الفارسية " بس راه " وآخرين يعيدون أصلها إلى الكلمة الكلدانية " الأقنية " أو " باصرا " وتعني محل الأكواخ ، ويذهب الكثير إلى إن كلمة بصرة مشتقة من الأكدية وتعني سكان الصحراء.
 ومهما تعددت الإسماء، يخيل لي بإن الصديق الشاعر وليد هرمز أختار"سالميتي" تحديداً وكأنه يقول لنا بإن البصرة هي بصرتي أنا، أي سالميتي أنا. حيث ولد فيها، وترعرع، ودرس، وحملها معه إينما حل بعد تركه لها مكرهاً.. لكنها بقيت في وجدانه، ومخيلته تمده بالطاقة، وتفجر فيه براكين الغضب والنقمة على عصابات البوادي، وشلل المتعكزين على مصطلحات ومفاهيم لا تباع حتى في أبخس أسواق النخاسة.
في سالميتي يسرد لنا سارد الشجن البصري وليد هرمز بلغة شعرية راقية، لا تخلو من مفردات صوفية تمثل أعلى معاني العشق، تاريخ مدينة حاضرة موغلة في القدم تناوبت عليها معاول التخريب من جهاتها الأربع، لدرجة تجعلك مرغماً إن تحس بقوة ما يعانيه الشاعر من إحباطـ وآثار وقع الصدمة عليه بعد لقائه بها بعد عقدين ونصف تقريباً، وثقل الحطام الذي يثقل كاهله:
" أنا المشاءُ الجفلُ،
مثقلٌ بمفاتيح من رَملِ " الرميلة"،
بأصفاد من حجر " سَنامْ" . 
مُرتجفٌ، كعرف ديك،
على برج " سورينْ "،
دُجٌ أزرقُ يطوف على
بحر " السبتيين " .
ومن سوايَ، السائر على الجمر
السائر ،
 بخُفّ مثقوب من جلد الديناصورات ؟ "
وفي حالة من حالات الصراع النفسي أو التحدي، ما بين الحنين للعودة، والمكوث "جسدياً " في إرضٍ حملته الإقدار إليه يقول : 
" لن أختصم مع منفاي الثلاثين "
وفي مكان آخر :
" أذهب لأولد َ هناك ،
لأموت هنا، في النسيان"
فتعلق وليد بالمكان واضح في جميع صوره الشعريه في سالميتي، وليس غريباً على الشعراء على مدى التاريخ تعلقهم بالمكان وتوضيفها شعرياً، لا سيما عند الشعراء العرب قديماً وحديثاً، ولعل أبا تمام يعطينا صورة دقيقة لتعلق الإنسان بالمكان :
 " نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل " .
إذن يبقى المكان في مخيلة الشاعر حيٌ يتفاعل معه أينما حل، أو يكاد يستقر، وقد أحتل المكان في الشعر بشكل عام مساحة  واسعة، وكذلك في الدراسات النقدية، وإن جماليات المكان بمعناها الواسع تشكل ركيزة أساسية للنص، وهناك علاقة أزلية بين المكان وخالق النص؛ وتترك بصماتها على وجدانه، فمن خلال عنصر المكان نتعرف على ما يحسه الشاعر وكيفية رؤيته للأحداث، وأحياناً حتى معالجتها.
يبرز المكان في ديوان " سالميتي " صورة  حية للإنفعالات الوجدانية للشاعر، فيرسم لنا هرمز صورة مؤلمة لما وصل إليه العراق من خلال مدينة البصرة " سالميتي" المختزن في مخيلته، فالمزاوجة بين المكان والإحباطات المتتالية تراها بوضوح في نص سالميتي، والحنين للمكان يبقى الشغل الشاغل للشعراء، ولعل مشاهدة الشاعر لما حل بسالميته ووقوفه على " أطلالها !! "  بعد سنوات الحروب المدمرة ألهبت مشاعره لتتدفق الكلمات شعراً موجعاً.
وكما ذكرنا آنفاً فقد شغل المكان الشعراء على مدى تاريخ الشعر، والمكان عند وليد هرمز في ديوانه هذا متعدد، بل مكانين، كلاهما مرّ، بصرته المدماة، ومكان إقامته السويد التي لا تستطيع تغذيه روحه الهرفة لمرابع الطفولة والصبا.
وأبرز ما في النص هو المكان لدرجة إن أطلق الشاعر على نصه " سالميتي " وهي ترتفع كراية حمراء في إعلى النص معلنة عن نفسها بوضوح، وصارخة بوجه من داسوا كرامتها ببساطيلهم، أنها سالميتي، كما ترى بوضوح آثار مرور الفاشيست بالبصرة، وتشم روائح البارود من بنادقهم المصوبة لصدور أهلها الطيبين.
والمكان في سالميتي ليس جماداً ولا صامتاً، بل حياً يستمد وقائعه من التاريخ المعاصر المرئي، والمدون، إضافة للإحساس البشري، وبوصلته التي لا تخطئ  الهدف أبداً، ويحدثك عن عشق من ولدوا فيها، وتعفروا بترابها، عن رموزها، وشعرائها، وجميع من مروا بها كراماً، فيغفوا الشاعر المنفي على ألم منفاه، كما غفا السيَّاب على ألمه في أرض سالْميتي:
لكنَّ الشَّاعرَ غفا، فَجْأةً.
غفا النِّسْرُ.
غفتِ الأسلحةُ بيد الأطفالِ.
غفتِ "المُومِسُ العمياءُ" في المبغى
غفا الهراطقةُ في "المعبد الغريق".
غفت "بَصْريَّاثا" على "رائحة الشتاء".
..........................
...........................
غفوا كلَّهم في منفايَ،
وأنا في قيلولتي أرتجِفُ. 
 "سالميتي" تؤرخ لتاريخ مدينة عريقة، أنتهت على أيدي من لم يقدِّروا شأنها، إلى مدينة تصفِّر فيها رياح الوحشة، وتتسيدها قوانين عصور الظلام، وجحافل الجراد. سالميتي هي عشق الإنسان للمكان .
وأنت تقرأ سالميتي تسري الهمسات من مسامات الجلد لكينونتك، لتخبرك بالخراب الذي حل بالبصرة وأهلها.
أما النص الثاني" مدائح الزيت " في الديوان، يأخذ الوجع فيه مديات أخرى من العتاب، والحوار، والتحدي. ويستعير وليد هرمز هنا إسماً آخر لمكان آخر من الماضي البعيد، وهي لارسا، ليعلن لنا عن عشقه الإبدي للمكان وإن لم يترعرع في تلك المدينة السومرية القديمة، " القريبة من محافظة الناصرية اليوم  "، فيخيل لك بداية بإن لارسا هي زوجة الإسكندر المقدوني، أو أنها أنثى من ذاك الزمان، فيجالسها الشاعر ويحتسي معها النبيذ، لا بل يتغزل بها حد الجنون والشهادة:
" سأقامر بعشاء أخيرٍ،
في دار سالميتي.
سأقامر بعشاء شهي مع لارسا،
ولارسا تلبس الشمس، وأنا،
( أضاعف المزج في الكأس ).
أغسل قدميها بماء عيني،
وعلى نهديها، مرتعشاً، أرسم الشارة والمسامير "
وأقف هنا عند عبارته الأخيرة التي تدلنا على مواجع الشاعر الذي يكون فيه مستعداً، ليصلب من أجل بلوغ ذاك اللقاء الخرافي مع المكان الذي يعشق، وحتى لو كانت هناك إمرأة مختزنة في الذهن والذاكرة، فالمكان يطغي على المشهد الشعري وتوجعات الحنين.
 وكلمة " مدائح " عنوان النص الثاني تحمل بين طياتها معانٍ سماوية لا تقف عند دينٍ معين، إضافة إلى الإيحاء الصوفي الذي توحيه كلمة " مدائح " ومن الشطر الأول للنص يقتحم الشاعر ذهنك كي لا تذهب بعيداً وتتخيل مدائح نبوية أم مدائح للعذراء، أو لسيدنا المسيح، بل يخاطب أقداره، أو لربما ربه .. وهنا الرب مجازي لا علاقة له بالإله أو المسيح، أو أي رب آخر لأي مجموعة بشرية في أرجاء المعمورة.
" أيها الزيتُ، الرّب،
أيها الجريءُ، الشهي،
اتبعني.
بُرهانك شقاءٌ،
حيث لم تخبرني ،
مُرتطماً بأقداري الخمسين،
مرتعشاً كالأيل الأسمر،
أتلمس شدوخ جبيني المجروح بالنرجس "
نلمس هنا في هذا الشطر الشعري نقمة الشاعر على أقداره التي لم تكن كما هو يريد، وهو يناقش من يُفترض على  إنه راسم الأقدار !!، فبدلاً من السير وراءه لآخر المشوار، يقول له بجرأة المخذول من وعودٍ سرابية، أتبعني لترى برهانك شقاءً , وأنك لم تخبرني بما سيحل بي بعد عقودي الخمس، وأنا لازلت مرتعشاً أتلمس الخدوش والنتوءات التي خلفتها لي سنين عمري في أعماقي .
النصَّان " سالميتي " و مدائح الزيت " يحومان حول المكان كعقاب محلق في الأعالي منذ آلاف السنين لا للإنقضاض على فريسة ما، بل البحث الدائم عن المكان الملائم ليحط، وليريح جناحيه المتعبتين،، كما لا تخلوان من الحب بمعناه الواسع.
 كما تأخذ " الإيروتيكا " أيضاً مجالها في النصين، فالشاعر وليد هرمز متمكن من أدواته الشعرية، وصنع من لغته المتمكنة في صياغة النص، كصائغ مندائي من ذاك الزمان جو هارموني تتفاعل فيها ألوان قوس قزح مع موسيقى منسابة كالشلالات من أعالي الجبال في أخاديد الأرض إنهارأ وسواقي تغذي أوردة أرضنا اليباب في زمنٍ عاهرٍ أبتلينا به أيما بلاء .
ستتفجَّرُ الكُمَّثرى،
كلَّما مسَّت أصابعي نَهْدسْها.
ستشهَقُ الشَّهوةُ نَفَساً نقيًّا،
نازلاً كطعنة شُعاع،
كلَّما حَكَّ حجرُ "الباذزَهَرْ" عضَلاتَ الكَيْنِ بعضَلات الفياشل،
استيقظتْ نبالُ الدَّغدغاتِ تدُبُّ في البَدَنِ
دبيبَ طينٍ في ماءٍ نَزِقٍ.
            
عوني الداوودي ـ السويد
كاتب عراقي
شتاء 2009