وطن و ذكريات :جيان ( يحيى بابان) يكتب عن حسين مردان

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
20/11/2009 06:00 AM
GMT



أستعيده في ذهني، الإنسان حسين مردان. حركاته ثقيلة غير مفاجئة وما يدهش فيه يداه باصابعهما الغليظة القصيرة وبشرتهما الطرية. عيناه صفراوان مثل عيون القطط غائرتان تحت نتوء حاجبين كثيفين. جبهته عريضة أرجوانية لمّاعة ينحسر الشعر عنها من سمت الرأس ويتجمع عند قفا رقبته كثيفاً وعلى فوديه.
في رده على سؤال الحاكم الذي قاضى فضائحيته، وعن السر في تسمية الشاعر ديوانه الأول (قصائد عارية) قال حسين مردان:(.. إن الشاعر يجب أن يكون صريحاً في تعبيره عما يختلج في نفسه، ولم أتوخ في قصائدي إلا، إظهار الحقائق عارية ليتبينها الناس.).1
الثابت أن الأجيال القادمة قد تقرأ شعره، وقد تضحك من سذاجته وسهولته ومباشرته؛
 (..
 يا أنت
 يا أعز من روحي
 ويا أحلى من النور الى الضرير
 كيف ترى يحملك السرير.)2
هل كان حسين مردان باهراً في سذاجة فضائحه وطفولتها ومباشرتها؟!
هناك نوع من التناقض الواضح، التراجيدي في بعض شعره، ولم تكن لغته مألوفة لكثرة من القراء حين تناول العلاقة ما بين الرجل والمرأة بأسلوب مباشر طفولي فاضح.
ربما لم تكن مألوفة محاولاته في فرض نمط حياته وفكره وتعبيره الشعري؟! ومع هذا كان حسين مردان طاقة أثارت الاهتمام وهذه حقيقة ملموسة في تلك الظروف التاريخية.
هل كان شعر فضائحه شبكة نجاته أو هويته معاً؟!
ما هو دوره في عملية تحديث الشعر؟! ما هي مكانته في الشعر عامة؟!
النقاد هم الذين يجيبون عن هذه الأسئلة.
كان ممتعاً النظر إلى حسين في جلسته في مقهى البرازيلية في شارع الرشيد في بغداد، وأيضاً خلال دخوله الاحتفالي إلى اتحاد الأدباء العراقيين. يبدو ضخماً عريض الكتفين محتفظاً بكبريائه الخاص. وكان يجيد لعب الدومينو والورق، وتترقرق في طبعه سذاجة وبساطة مفرطة. وحين يضمه محفل لا يصغي لما يقال ولكنه لا يكشف عن سذاجته وبساطته. يرتدي ملابسه بعناية. وفي مظهره العام يبدو متكيفاً بتأثير ( قصائد عارية).
ربما كانت تفضح دون قصد عن سذاجة معرفته وعذرية أو طفولة تصرفاته ومع ذلك تقبّل مشوبا بالفخر ما كتب عنه: أنه رائد للشعر الوجودي بالعراق. وكان يرغب دوماً أن تكون له خليلات وحياة تتناقلها الصحف و تكتب عنها.
كان في ميسوره، وهو جالس خلف زجاج مقهى البرازيلية قريباً من مدخلها الشمالي، أن يحدق في أرداف النساء العابرات على رصيف الشارع متنقلاً بنظراته بين سيقانهن، ومردداً في صوت غليظ أبح عبارته المفضلة؛
- أخي، سوف يبقى الجنس ملهماً للفن والشعر حتى القيامة. و يضحك غفلة خ خ خ ... خ خ ... خ خ... لَكْ  أموت على النهود و الأرداف.
وكان يسهب أحياناً فيصف التكّور المتهدل قليلاً للنهود تخالط لون بشرتها الحليبية الصفراء شقرة البرتقال، فترتسم على وجهه انطباعة متألقة افتراسية، ومتطلعاً بنظراته في المارة على الرصيف.
لقد عرف حسين مردان، كما يقر كثير من معاصريه، كيف يلفت أنظار الآخرين،وصار مسؤولاً بطريقته الخاصة في التعامل مع الآخرين والمجتمع وهذا أمر طبيعي. وكان قد وجد انعكاس "الحرية الفردية" له، كما يخيل اليّ، في شعر الفضائح الأمثل. وناطح في هذا اللون من الشعر التقاليد في محرم مقدس لها " جسد المرأة "، ولم يكن يريد أن يخفي سروره بـ " حريته الفردية " غير أن مثل هذه الهرطقة لم تكن مقبولة على الدوام، ومع هذا.. يبدو أن عملية الشعر لديه، مثلما هي لدى بعض معاصريه، كانت ترد إليه حريته، وتحسسه ببشريته، وتعطيه حقه الإنساني بالوجود أو تعزز، على الأقل، القناعة بمثل هذا الحق الطبيعي.
من ناحية ثانية، كان شغوفاً بأن يخلط في شعره فضائح موضوعات شعراء سبقوه، وتجارب اسرار البيوت العامة، وعاشقات ملاهي بغداد في الخمسينيات. وجميع هذه تظاهرات غير مألوفة لمعاصريه في حين ثمة قسط وافر من السذاجة الصاخبة في شعره تطالب بضرورة التغيير الاجتماعي.
ليس من قبيل المصادفة بالطبع إذا كانت " الأنا " تملك قوة الخلق، شعراً بالنسبة إليه، فإنه كان مأخوذاً، كما يبدو، مثل غالبية معاصريه في أن ما يكتبه " يفجر ثورة". ومثل هذه الإشكالية الرومانتيكية كانت بالغة الحدة عنده ولدى غالبية كتاب جيله، فالوعي كان عنده خالقاً للعالم وطاغيته معاً.

" ...
بعت للشيطان روحي فالذي
لم ير الشيطان لا يعرفني
....
اعرف الخير ولا يعرفني.." 3

ومع ذلك تفوح من قصائد شعره روائح طفولة وسذاجة وزخم احتياجات جسدية وروحية. من جهة أخرى هناك آثار سعيه الدؤوب في التوجه نحو الإنسان والحديث معه وعنه. والسؤال هو إلى أي مدى تكشف النزعة الذاتية في شعره (الفاضح) عن الوجه النقيض الآخر لها ـ العذرية!؟ ويتصور البعض أنه اختلق قسطاً من فضائحه شعراً، في تعامله مع موضوعة المرأة، ربما ليصوغ رغبة بسيطة وهامة هي الحاجة إلى الحب والحنان، الحاجة إلى الإنسان الآخر!
هذا وسرعان ما يحاصر القارئ لشعره عن المرأة بصرخات بدائية تعبيراً عن رغبة استعباد الجنس الآخر. انه لا يدخل الحب في قصائده بوصفه اتحاداً اختيارياً متكافئاً بين المرأة والرجل. ويتجسد الاضطهاد الاجتماعي للمرأة في لغة شعره المتعالية تجاهها، فهي المطلوبة وكأنها الطريدة المنتظرة للافتراس الشهواني ـ البدائي في صوره الشعرية، وحيث صرخاته هي بما يشبه الدفاع "الفني" عن الملكية الخاصة للحب. فهو يناشد الحب سعياً للامتلاك الشخصي أي امتلاك الجنس الآخر. من ناحية أخرى يدعو وعيه إلى التحدث والتقدم الاجتماعي من منطلق إنساني عام.
لم يكن حسين مردان وحده ضحية هذا التناقض التراجيدي في وقت كان منطق الضرورة يفترض بأن المقصود لم يعد مجرد الخلاص من اللاعدل الاجتماعي بل التحرر بالمعنى التاريخي. بكلمات أخرى، كان التناقض السائد في مفاهيم الخلاص من اللاعدل في تلك الفترة بالنسبة لجيل حسين مردان، هو التناقض ما بين ضرورة التغيير وآليته في إدراك كيفية وقدرة تحقيق هذا التغيير. ولم يكن ممكناً لجم شعر الفضائح، عن مهاجمة العلاقات الاجتماعية التي تطبع بطابعها أيضاً العلاقات الثنائية ما بين الشعر عامة وهذا الشعر خاصة.

ـ 2 ـ


عندما فكرت في كتابة انطباعاتي عنه وعن جيلنا ذكرتني هذه المناسبة بمبدأ تقوم عليه الوظيفة الاجتماعية للشعر أو رسالته المعرفية والجمالية، وهذه هي موضوعة التساؤل. أضع المسألة بهذا الشمل، لماذا شاعت سمعة حسين مردان كشاعر وجودي قرأته العامة وفهمته وهو الذي أعاد إنتاج غرائزه وحرارة جسد المرأة وطراوته مكيفاً نفسه لحاجاته الغريزية والفكرية؟! لقد زين حسين مردان شعره بأناه التي قصد بها قهر الجنس، المرأة الشمولية التي تغزل بها. وكانت عملية التزيين، كما أعتقد، شكلاً لاستيعاب الحاجة الحسية الواقعية لديه، ولهذا ألا يمكن القول إن الوجه الآخر لهذا التزيين هو التعبير عن الحرمان العاطفي والاجتماعي الذي عاناه؟! منطقي أن التزيين هنا هو عطاء لا غير..
قد لا يتيح تراث الرجل، الشعري والنثري، فرصة القول بأنهما يتسمان بقدر متساو من الأهمية في تحديث الشعر كظاهرة وضرورة تاريخية مقدار ما تتسم مساهمات شعراء معاصرين له، مثل السياب، البياتي، نازك الملائكة، أدونيس، الحيدري، سعدي يوسف وآخرين. غير أن شعره يحمل، كما يخيل إليّ، قدراً ملموساً من سمات مرحلة الصراعات الاجتماعية قبل ثورة تموز وخلالها وما بعدها.
أعيد سؤالي الأول: هل كان حسين مردان مجدداً في الشعر، وهو الذي تصور كما أظن، أن المحرومين في أمته يصفقون لتجاربه!!
فكرت بالعلاقة بين التجريد الغالب في الأدب اليوم، وبين منظور الأغلبية العظمى من القراء من سكان بلداننا إلى الأدب والثقافة عموماً، بين حدود رسم وطبيعة الصورة الأدبية، معرفياً وجمالياً وأخلاقياً، وبين الواقع اليومي المتناقض، الذي يحتاج إلى معرفة بوقائعه الموضوعية، المتغيرة والمتناقضة دوماً. فكرت، والفضل لمناسبة ذكرى حسين مردان، بميكانيكية النمط الفكري وبين قوة التحريك الموضوعية في الفكرة الأدبية، ايديولوجياً وأخلاقياً وجمالياً!! في الأدب الواقعي وفي التراث الأدبي ثراء لا حد له من هذا النوع.
عندما قرأت شعره عثرت على ملامح دلتني أنه كان يستشف الآفاق القادمة مشيراً إلى ظواهر اللاعدل وحقائق الواقع الصلدة. غير أن تفسيراته، ولنقل انعكاسات هذا التفسير معرفيا وجمالياً من جانبه، لم تكن واضحة في الغالب، فهو حبيس التغير الذي لم يبلغ بعُده حتى الآن، بعدُه الذي يتعرف فيه على صراع التناقضات المحتدم وعلاقاتها، كما هي، خارج الإنسان موضوعيا، كذلك داخل الإنسان ذاتيا، وداخل الصورة الشعرية والأدبية بالذات.
ويعثر القارئ في بعض قصائد حسين مردان، وفي قصائد وأدب وثقافة غالبية معاصريه الآخرين، على صرخات من القلب تطالب بالتغيير. وكان الأدب، والثقافة عموماً، ربما لجيله وله، أيضا بمثابة الثورة رغم اختلاف الرؤية إلى الثورة، والأنا عند حسين مردان، مثلما هي لدى كثير من معاصريه، تندفع صارخة أمام الجموع تلوح في مخيلة الشاعر، فاتحة الذراعين للإنسانية رغم غموض وتجريدية الحب العارم لهذه الإنسانية، ومع ذلك، فصيحات جيله كانت دون ريب تنشيطاً للثورة التي كانت تختمر تاريخياً.
صحيح أن في شعره سذاجة في الوعي الاجتماعي وأيضا هناك سذاجة فيما يخص مستوى الوظيفة التطبيقية في شعره، ومنطقي أن مجرد الموقف العاطفي من القضايا الاجتماعية يحدد موقفا عاطفيا من الوطن. وينسحب مثل هذا الموقف عملياً على كامل النمط الفكري والثقافي والسياسي فيما بعد.
والآن، هل كان شعر حسين مردان رغم ذلك اقتحاما للواقع أو تشخيصاً للاحتجاج الذاتي؟!
هل اكتفى بالطابع المجرد الذي اتخذته قصائد فضائحه العارية عموماً؟!
هل سعى كشاعر إلى خلق توازن أخلاقي- جمالي من خلال فضائحه؟!
النقاد والاختصاصيون هم القادرون على الإجابة على مثل هذه الأسئلة.
أستعيد حسين مردان في ذهني وصوراً وذكريات عن اتحاد الأدباء العراقيين، المنظمة الديمقراطية التي قاتلت حتى النفس الأخير من عمر ثورة تموز 1958، دون أن تتخلى عن سلاحها الفكري، الوطني الديمقراطي التقدمي، في مواجهة قوى اليمين المنفلتة إرهابا وفوضى وفكراً معادياً. وكانت جريدة الثورة البغدادية في مطلع الستينات قد شرعت تنتهك أعراض الناس كل يوم وبلا تورع مشهرّة بالوطنيين وفي مقدمتهم بالشيوعيين، في وقت كانت فيه دماء الكرد والجنود العراقيين تهدر في معركة باطلة تسعر نارها القوى التي سوف تغتال فيما بعد ثورة تموز كما تغتال قادتها.
كانت قوى اليمين في العراق منذ النصف الثاني من عام 1961 تقريبا حتى مطلع 1963 منفلتة، عابثة ومهيمنة في نشر إرهابها بتخطيط سياسي وقمعي منظم أداره ومارسه العفلقيون والرجعيون.
أما عبد الكريم قاسم فكان يبدو وكأنه يمثل دور من لم تتجاوزه الأحداث بعد، في وقت كان فيه عنف اليمين يشل العاصمة ومدن البلاد وأريافها، وتُقمع أي بادرة للقوى الوطنية في مواجهة الإرهاب اليميني.
جلسنا ذات مساء جلستنا المعتادة عهد ذاك في حديقة مبنى اتحاد الأدباء. كانت دائرة من الكراسي المشغولة تتسع كلما جاء زائر جديد.
وسأل شاعر شاب ذو وجه مغولي الملامح كان يكبح ابتسامته، وعيناه تطرفان مصعداً في وجه حسين مردان ابتسامة ماكرة:
- حسين أجب باختصار، لماذا لم توقّع على العريضة؟!
وضحك حسين بصوت شبه مخنوق مهتز الكرش، وضحك الجلاس. كانت عريضة الاحتجاج على استمرار الحرب في كردستان تدور وقد مرّر حسين العريضة، بعد وصلته، إلى جالس جواره دون أن يوقعها. وضحك آخرون وهم يلاحظون تهريب حسين للعريضة وتخلصه منها.
كان هناك الراحلان عدنان البراك ومجيد الونداوي وآخرون ربما مات أو اختفى بعض منهم، لا أدري. غير أن الضحك إزاء تصرف حسين كان عارماً، وعاد الشاعر الشاب والضحكة تذبل في حلقه وسأل من جديد:
- حسين لماذا لم توقع على العريضة؟!
كان حسين يضحك محتقن الوجه وخاطب الشاعر الشاب بلهجة آمرة وقال: أسكت أنت!
وضحك الجلاس بصخب، وزم مجيد الونداوي على شفتيه، ضاحكا دون صوت، مهتز الصدر، يجيل نظراته بين وجه الشاعر الشاب وبين حسين مردان الذي ظل ينظر متلهفاً إلى وجه عدنان البراك. وأحنى الشاعر الشاب رقبته فبدت نحيفة في ياقة قميصه وأسند ساعديه على ساقيه ماداً رقبته إلى الأمام. كانت تلك عادته عندما يشرع في مشاكسة الآخرين، دون إساءة، وفي عينيه بريق ندي، ثم سأل من جديد:
- حسين أريد أن أفهم لماذا لم توقع على العريضة؟!
كان حسين ينظر مبتسماً بطريقته الخاصة في النظر، طريقة بلهاء وجامدة تدعوك إلى التفكير، وقال بلهجة حادة من جديد:
- أسكت أنت!
- لماذا أسكت ؟! هل وقعت على العريضة أم لم توقع؟!
وضحك الجميع فالتفت حسين إلى مجيد الونداوي قائلا عن السائل بصوت أجش: " هذا مصيبة " فأخذ مجيد يضحك بأسنان سوداء شبه معطوبة من أثر الدخان. كان مجيد قد عاد من المغرب متخلياً عن وظيفته الدبلوماسية هناك، عاد ليكون في بغداد المضطربة حد المقاومة بالأسنان والمعبأة بالفزع. مجيد الونداوي كان هناك، جالسا بسيطاً بجسده متوسط القامة، حلقة في شبكة بشرية، عملاقة تنسج خيوطها من أجل صيانة الإنسان، صيانة الجمهورية، وحماية الخير والتفاؤل وكرامة الإنسان.
كان عدنان البراك يضحك بهدوء محتشم وبدا كعادته واضحاً، بسيطاً ومتماسكاً، واستطعت أن أتمثله واثقاً من فكرته، وابتسم مجيد الونداوي من جديد ثم ضحك بصوت هامد وبرزت من خلف شفتيه أسنانه المعطوبة بدخان السجائر. وأطرق حسين مردان برهة ثم تعلقت عيناه بوجه عدنان البراك ثم استدار نحو الشاعر الشاب وقال بصوت أبح وهادئ:
- أسكت أنت، هذه قضية أرفع من مستوى فهمك!
وضحك الجلاس كما ضحك حسين والتفت نحو عدنان قائلاً:
- أخي، هذا مصيبة.
وأشار إلى الشاعر الشاب الذي كبح في وجهه المغولي الملامح ابتسامة ماكرة.
وقال عدنان بصوت هادئ:
- حسين مع العريضة حتى ولو لم يوقع عليها.
واعتدل حسين في جلسته ضاحكا، وقد استعاد للحظة تلك العفوية الساذجة والطفولية في تصرفاته. وضحك بقوة، وغص بضحكته وأصلح وضع ساقيه ليتيح لكرشه المتهدل الاستقرار بوضع مريح في جلسته، وصاح بصوت لم يخف فيه نشوة الفرح مخاطبا الشاعر الشاب بلهجة تشّفٍ صارخة: لَك، ها؟! هذا حكم التاريخ، وأنت أسكت!!
وضحكنا جميعا. ربما شعر حسين بورطته، لكن الآخرين عرفوا تلك الورطة وضحكوا لها.
لقد طاردت الحكومة يومذاك عدداً من الموقعين على تلك العريضة وتلقى البعض منهم أحكاماً بالسجن زادت على سنة واحدة، وشهدت بغداد موجة جديدة من " صيد السحرة".


*

لا أدري إذا كنا جيلاً أصغر من الجيل الذي مثله حسين مردان ومجيد الونداوي وغائب طعمه فرمان. كنت واحداً من شلة أصدقاء ومعارف، كتاباً وشعراء ومسرحيين ونحاتين وخطاطين ورسامين ونقاد، غادر قيس الزبيدي إلى ألمانيا لغرض الدراسة ومعه أحمد. كنا نسميه كرديت- دبت (دائن – مدين). وكان يتعامل مع الوقائع اليومية بمفردات المحاسب: الدائن والمدين الخ. تشرق الشمس فهي كرديت وتغرب الشمس فهي دبت.
كان يقولها بصوت (موصوص) في وجه مدبب الذقن، مثل رسوم بعض الأطفال. ومنذ ثلاثين سنة لا أعرف عنه شيئاً، ذلك الشغوف بوصف الوجوه المختلفة للحقائق الأولية الملموسة بلغة هزلية في وقت بدأت فيه عملية خلط وتغيّر للوقائع والحقائق، جديّة ومدمرة. وغادر صادق الصائغ إلى جكسلفاكيا ثم تبعه مفيد الجزائري. وسافر عدنان المبارك إلى بولونيا، كما اتجه عبد الله حبه للدراسة في الخارج. وحمل أرداش كاكافيان حقائبه باتجاه باريس، في حين توجه محمد كامل عارف إلى بولونيا وفيما بعد إلى الاتحاد السوفييتي. وضاع مصطفى عبود في مدينة البصرة. وكان سعدي يوسف، هذا البصراوي، قد استقر في بغداد وكتب قصيدة " الطير المهاجر" كما أذكر.
كان هناك عدد آخر من الأصدقاء، من شغيلة الثقافة، عكست تلك السنوات العاصفة سحابتها بصورة ما في نمط تفكيرهم، وبعضهم ما زال في العراق. غير أنه من المحزن والقاسي أن تخسر قضية عادلة انساناً حميم الارتباط بها.
عن تاريخ تلك الفترة قرأت، في الغربة، قصيدة كتبها حسين مردان قال فيها:
(( ... لم أشترك أبداً بأغنية المجوس
الليل في بغداد سقف من فؤوس
ولو أنني أدري ستنفجر الشموس
فإذا الرؤوس
مشدودة بالموت في ظل التروس
وعمامة " الحجاج" قد وضعت
وزمجر في النفوس
حقد التيوس...))4
عندما أستعيد لحظات الشعور بالشمس المحرقة في شوارع بغداد في أول أيار 1959 ممزوجة بالعرق وروائح أجساد عشرات الآلاف من المتظاهرين، أفكر بكل التعاونيات الزراعية التي صفيت فيما بعد، وبالنقابات التي زورت قياداتها، وبالوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين الذين قتلوا وعذبوا واُذلوا فيما بعد...
ويبقى السؤال الذي ربما شغل جيل حسين مردان والأجيال اللاحقة هل كان هناك بديل عن المآسي التي تعاقبت؟
أعود إلى ذكرى حسين مردان فمهما كانت القضية التي يثيرها شعره وأدبه فان حياته تشغل مكانتها بصورة واضحة في ظروف تاريخية عاصرت ثورة تموز 1958، في الإعداد لها وقيامها والتآمر عليها. وأكيد أن حسين مردان مثل أي كاتب آخر، طرح بطريقته الخاصة القضية التي كانت تخصه لوحده، قضية الأنا. وتبقى قضية الأنا الآخر، أو الوجود الاجتماعي الموضوعي له تبقى محور أسئلة واهتمامات نقاد الشعر والأدب.
ربما في آخر كتبه، وقد قرأته في الغربة، يقول: (( سأدفن لساني في الصمت وبعد أعوام قد تطول سأعثر عليك في شارع ما.. وستقولين لولدك انظر إلى هذا الشبح جيداً، فإنك لو أردت القمر يوماً وذكرت له اسمي لجاء به إليك.)) 5
أي نزوع طفولي لا يصدق وانتحار رومانتيكي فادح إزاء الحب والحياة؟!
كثيرون ممن عاصروه تميزوا عنه بقدراتهم التقنية والمعرفية، في التعبير وفي انتقاء موضوعات شعرهم أو أدبهم غير أنه كان إنسانا ببساطة، انساناً منتسبا لجبهة الإنسان وهذه قيمة، وهي قيمة ثقافتنا الديمقراطية.
في الطريق إلى المنفى كنا نجلس على مقعدين متجاورين في مؤخرة سيارة (باص) كبيرة اخترناهما لرخص أجرتهما.
وكانت عظامنا تتداخل مع بعضها من جراء الطريق الصحراوي الوعر الذي اجتزناه. عبرنا بلداناً سوية. عبرنا بحاراً سوية، تذكرته في مقهى في اسطنبول وأنا أودعه، كان وجهه المحتقن قد ارتجفت وجنتاه برهة وازدحم دمع في عينيه الصفراوين الغائرتين.
صافحته وتعانقنا ولم أره بعد ذلك. وها قد مضت خمس وعشرون سنة في المنفى، وفي المنفى أيضا مر من هنا، مجيد الونداوي وتحدثنا عن حسين مردان، وقد كتب اليّ مجيد من بغداد فيما بعد رسالة مشتركة مع الشاعر الشاب مغولي الملامح.
لقد مات مجيد الونداوي في بغداد ومات حسين مردان أيضاً، أية فواجع كتب على جيلنا أن يشهدها؟!
ما زال المنفى قاسياً وما تزال الحياة تتجدد. " فالقبر هو المكان الوحيد الذي لا يعلمني شيئاً" كما يقول بريخت.

جيان - تشرين أول 1989
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر :
1- المحاكمة- قصائد عارية. الطبعة الثانية1955 بغداد
2- قصيدة الطاحونة 1951
3- قصيدة لون الكفن، قصائد عارية ص 87
4- قصيدة نبوءة عن الشمس1962
5- الأزهار تورق داخل العاصفة. ص 232 سنة1972