المقاله تحت باب منتخبات في
13/09/2009 06:00 AM GMT
ترجمة: علاء خالد غزالة عن: صحيفة ماكلاتشي أصبحت لدي عادة يومية في العراق. ففي كل صباح، وقبل ان اغادر المكتب فاني آخذ لنفسي وقتا استشعر فيه قيمة اللحظة الراهنة، واللحظة التي سبقتها. ربما جاء ذلك الي من قصص العديد من اصدقائي العراقيين الذين اخبروني انهم يؤدون صلاتهم قبل ان يخرجوا من بيوتهم لانهم قد لا يعودون اليها ابدا. وعلى مدى قرابة ثلاثة اعوام امضيت صباحاتي بنفس الطريقة: انهض وانا قلقة حول ما يمكن ان يتمخض عنه ذلك اليوم. لم يكن السؤال فيما اذا كان هناك اناس سيموتون في ذلك اليوم، بل السؤال هو اين سيموتون وبأي طريقة وكم عددهم.
نحن نقول انه يوم حسن حينما لا يموت الا عشرة اشخاص، لكن هناك اياما سيئة. هناك يوم يموت فيه صديق. وهناك يوم تسلب فيه ارواح ثلاثمائة شخص في لحظات. يوم ارتمت أم بين ذراعيّ تنوح على ابنها المفقود، والذي قتله احد عناصر المليشيات، بينما جلست ارملته القرفصاء في زاوية الغرفة الفارغة التي تشاطراها. يومٌ وُصف فيه رجل وهو يغسل جثة زوجته التي مزقها الرصاص في مسجد اطلق عليه اسم احد اعلام الدين الذين احبتهم. ويومَ بكت ابنة بين ذراعي امها الميتة، والتي اطلقت عليها القوات الامنية الاميركية النار بطريق الخطأ. ويومَ احنيت رأسي مع الجنود الاميركيين تكريما لذكرى الجنود الذين سقطوا قتلى. هناك يوم تأسيت فيه مع اقرب اصدقائي في بغداد. هذه البلاد التي استقبلتني فيها، والاماكن التي جعلتني اراها، لم تعد آمنة بالنسبة لها، وهي تتحضر مع ابنتها وزوجها للمغادرة. وبعد ان رفضت سلسلة من البلدان منحها التأشيرة، فقد انتهى بها الامر الى الرحيل الى منطقة كردستان في شمال العراق، وهي اكثر أمنا بكثير. لقد علمني العراق ان اتذوق الامور الصغيرة والجيدة. وافضل ذكرياتي اشياء تافهة، مثل الضحك وانا داخل ضريح مقدس في النجف مع رفيقتي، جنان، بعد ان هربنا من الحارس الذي لم يكن موافقا على دخولنا الى قسم النساء من المسجد. هناك اسبغنا الوضوء في المكان الخطأ، المكان المخصص لاستعمال الرجال. وحينما بدأ الحارس في الصراخ بوجهنا باللغة العربية، تظاهرنا باننا ايرانيات وغير قادرات على فهم ما يقول قبل ان نهرب من خلال البوابة المنقوشة بالذهب الى جناح النساء في الضريح. وهناك جلسنا متربعتين تحت السقف المغطى بالمرايا البراقة، نضحك بهمس، ثم حنينا رأسينا متأملتين بينما راحت نسوة اخريات يصلين على الارض المفروشة بالسجاد. احتفلنا بأعياد ميلاد الاشخاص حول كعكة مغطاة بالفراولة الغضة، مع موسيقى تصدح من حاسوب محمول. وابطأنا السير في شوارع بغداد لنراقب موكبا من السيارات التي تنفخ ابواقها وتعزف الموسيقى احتفالا بعروس وعريس جديدين وهما يبدآن حياتهما معاً. وقد تظاهرنا ان هذه اللحظات من الزمن هي العادة، وليست الاستثناء. لكن الحقيقة، على اية حال، في تلك العاصمة التي صبغتها الالوان الرمادية والبنية، ان الحرب والفقر يسودان دائما. وفي يومي الاخير في العراق، كما في يومي الاول فيه، لم ارَ ما حققته الولايات المتحدة وحلفاؤها. لم استطع ان ارى دليلا على مليارات الدولارات من اموال دافعي الضرائب الاميركيين التي ذهبت لإعادة بناء امة حطمتها اكثر من ثلاثة عقود من الحرب والعقوبات ومزيد من الحرب. لم استطع ان افهم لماذا مات الآلاف من الجنود الاميركيين ولماذا قـُتل مئات الالوف من العراقيين. لم ارَ ديمقراطية واعدة في الحكومة العراقية التي يزداد شبهها بنظام صدام كل يوم. لم اشاهد ارضا انقسمت منذ وقت طويل الى طوائف واعراق وعشائر وطبقات وهي تبدأ في التحول الى امة موحدة. وعلى مدى اشهر قليلة تملكني امل في امكانية النجاح. كان ذلك حينما تضاءل العنف وبدأت الحياة بالعودة الى العاصمة. بث تلفزيون الدولة برنامج «بغداد في الليل» من احياء لم يكن هناك ما هو اخطر منها، ولكنها برغم ذلك عادت الى الحياة مجددا. وخلتُ ان الامور سوف تنجح حينما اكلتُ في مطعم ايطالي كنت قد زرته للمرة الاولى في عام 2005، قبل ان يهرب صاحبه ويغلق المكان. ومن ثم اعيد افتتاحه عشية عيد الميلاد. وارتفعت آمالي حينما اعيد افتتاح افضل مطعم (شاورما) في بغداد بعدما عاد صاحبه، الذي كان قد اختـُطف مرة واحدة على الاقل، وحينما فتح مطعم (الكباب) في الفلوجة ابوابه من جديد. بدأ الناس، ببطء ولكن بعزيمة، في الحياة مجددا وبناء حياتهم فوق الحطام والدم وجراحات الحرب. قال لي زميلي في الصحيفة وصديقي، محمد: «نحن منهكون. كل ما نراه هو اللون الاحمر، وفي بعض الاحيان تريد ان ترى أي لون آخر سوى اللون الاحمر.» وبينما كنت اتحضر للمغادرة هذا الربيع، في اية حال، فان الجنود الاميركيين كانوا يتحضرون للرحيل كذلك. لكن العنف بدأ في التصاعد مع رحيلهم الوشيك، وبدأ الفرقاء المتعادون الذين جمعتهم القوات الاميركية معاً استحضاراتهم لمعركتهم التالية. وكل من تحدثت اليه قال انه قلق من القتال المرتقب؛ تلك المواجهة التي يقولون انها سوف تودي، على الارجح، بحيوات عدد من العراقيين يفوق عدد الضحايا في جميع السنوات الست الماضية. من الراجح ان يبدأ القتال بعد رحيل الجنود الاميركيين. وعندها، لن تستطيع الولايات المتحدة ان تقيّد الحكومة العازمة على كبح معارضيها فلا يعودون للظهور من جديد ابدا. قدت سيارتي في آخر يوم لي في العراق مرورا ببعقوبة، واجتزت مدينة بهرز الصغيرة في شرقي العراق. ومررنا من خلال حائط خرساني منخفض كان قد اقيم في جوانب طريق ريفي. لقد كان هذا هو الخط الامامي لتنظيم القاعدة في العراق خلال عامي 2007 و2008، حينما اشتبكت هذه المجموعة مع الاميركيين وحلفائهم من المقاتلين مدفوعي الاجر. وبدت الابنية على جانبي الطرق المليئة بالمطبات الموشحة بالحفر الغائرة التي تركتها القنابل المزروعة على جانب الطريق، كئيبة وحزينة وقد انهكها العنف. بقيت قطعة من سقف مدرسة انهارت نتيجة عملية تفجير. ليست هناك مظاهر بهجة لتلاميذ المدرسة، وليست هناك من امهات يأتين لاصطحاب بناتهن. كانت معظم ابنية هذه القرية الصغيرة فارغة وغير قابلة للسكن. وكانت هناك بقايا من الحرب، ورموز للخسارة: هياكل محترقة لسيارات نوع تشيفي سبيربان بيضاء، سيارات كانت قد نخبها الرصاص أو وقعت اسيرة القنابل المزروعة في الجدار الخرساني. لا يزال من الممكن رؤية القنابل المنزلية الصنع على حافات هذه الطرق. وفي قرية ياسر الخضير، التي تبعد حوالي اثني عشر كيلومترا عن بعقوبة، يقوم بعض الشباب بزراعة العشب في ارض مهجورة قرب منازل مدمرة كانت تحتضن ذات مرة عوائلهم. هذه القرية، شأنها شأن الكثير من القرى في العراق، كانت عبارة عن عائلة واحدة كبيرة، وفي هذه الحالة كانت هي عائلة آل ياسر. وفي احد ايام الجمعات المشمسة التم شمل العائلة حول مائدة الطعام. كان الاطفال قد لعبوا في الاراضي الخضر المعشبة، ومن ثم استحموا في القناة الواقعة خلف مجمع الدور والمزارع. لم تعد الارض معشبة، فقد اصبح معظم العشب جافا وهشا وبني اللون. لقد ماتت وئيدا منذ الخامس عشر من تشرين الثاني عام 2007. ففي ذلك اليوم الدموي قدِم مقاتلو تنظيم القاعدة في العراق الى قرية ياسر الخضير واشتبكوا في معركة مع سكانها. دام القتال ساعات، ومن ثم اخذ مقاتلو القاعدة جميع رجال القرية الذين امكن لهم العثور عليهم، بضمنهم اولاد في سن المراهقة. وتمكن القليل منهم من الهرب عبر القناة التي جفّ ماؤها الآن والواقعة خلف القرية، او اختبأوا تحت رفوف متجر القرية الوحيد. كما اخذ المقاتلون الاغنام والابقار ايضا. وقد اتهم الرجال الذين اغاروا على القرية سكانها بانهم من (الصحوة)، وهي مجالس الإنقاذ التي كانت القوات الاميركية تدفع مرتباتها من اجل مقاتلة تنظيم القاعدة في العراق. لم يكن للقرويين ادنى فكرة عن ماهية مجالس (الصحوة). وعاد ثلاثة من الاولاد لانهم كانوا يافعين جدا، لكن لايزال سبعة عشر رجلا مفقودين، ويرجح انهم ألقـُوا الى النهر بعد ان اعدمهم المتطرفون. ومن المحتمل ان لا تجدهم عوائلهم ابدا، ولن يستطيعوا ان يدفنوهم بالشكل المناسب حسب الطقوس الاسلامية، كما انهم يتساءلون باستمرار فيما اذا كانوا احياء ويعيشون في مكان ما. يوم زرت القرية، قبيل هبوط الظلام، وجدت حفنة من الرجال الشباب والاولاد والرجال المسنين والمعاقين يغادرون القرية التي طالما اسموها موطنهم مع ما يزيد على 120 امرأة وطفل ليذهبوا الى بهرز، وهي اقرب البلدات اليهم، حيث يعيشون اليوم في منزل متسأجر لا يستطيعون دفع ايجاره. رحّبت بي حسنة خواص حسن في منزلها. وهي امرأة محطمة ما تنفك تلف نفسها بالملابس السود في منزلها الاجرد المستأجر. لم يكن هناك من عشب في الخارج، لا توجد الا القمامة التي تناثرت حول فتحات المجاري الناضحة. تحيط بعينيها هالة الحزن. لقد قتل خمسة من اولادها السبعة، كما مات زوجها قتلا على يدي تنظيم القاعدة في العراق باسم دولة العراق الاسلامية. لم تسمع، قبل الغزو الاميركي في عام 2003، ابدا بهذه المجموعة، لكن ذلك بعضا مما جلبت الحرب لها. لم تعد ابدا الى قرية ياسر الخضير بعد ذلك اليوم المشؤوم، وهي لن تعود اليها ابدا. وضعت رأسها بين يديها وبكت بصمت وهي تقول: «لماذا اعود؟» لم تستطع الكلام لعدة دقائق. لماذا تعود الى المكان الذي قـُتلت فيه عائلتها، حيث دُمر منزلها الذي عاشت فيه لمدة ثلاثين عاما، والذي غير حياتها الى الابد؟ عُلقت صورة نصفية لزوجها على حائط الغرفة الخاوية التي تعيش فيها مع ارملة ابنها واولادهما. لقد قتل تنظيم القاعدة في العراق سبعة عشر رجلا من القرية، واليوم يعيل وليد طه ياس، البالغ خمسة وعشرين عاما من العمر، اثنين وعشرين فردا من عائلته الممتدة. ويبلغ اصغر اخوته اربعة عشر عاما من العمر. ويتقاسم اربعة رجال من القرية، من القادرين على العمل، حمل ورعاية كبار السن والنساء والاطفال. يقوم الرجال بزراعة العشب في الارض الجافة ويبيعون مربعات منها الى البستانيين من اجل اطعام العوائل والارامل والايتام. وهم عادة ما يعتمدون على تبرعات العشيرة التي تصلهم كل شهر. واستغرقت عودتهم الى قرية ياسر الخضير فترة ستة اشهر. وذهب وليد ياس معهم، ولكنه لم يجد من ذكرى لحياته السابقة سوى اعمدة اسرّةٍ ملتوية، وسجادات محترقة، وحطاما تناثر من الماضي. تحول كل منزل الى بقايا جدران يعلوها السخام. كان وليد قد انفق كل ما يملك ليفرش الغرفة التي تشاطرها مع زوجته، والتي كانت ترتبط مع غرفة اخيه عبر نفس الفناء المفتوح. وقد اراني الموقع الذي كان يوجد فيه السرير ووصف لي بفخر الدولاب الخشبي الذي ابتاعه والسرير الفخم المزين بالمرايا والذي ساعدته عائلته على شرائه. وعلى مدى شهر، كان يأتي الى هنا وينوح. اشار ياس الى مبنىً مدمر، حيث قـُتل خمسة اشخاص. وقـُتل شخصان آخران في مبنى مجاور، وقـُتل ثلاثة في مبنى آخر، وتمضي القصص تباعا. كان كل ما تواجد حولي اجزاء محطمة لما كانت عليه. وفي احد المنازل كانت هناك صحون مكسورة تبعثرت على بقاياها زهور وردية في المكان الذي اجتمعت العائلة ذات مرة لتأكل. احالت النيران لون الرفوف الزرق في المطبخ الى اللون الاسود. وفي الخارج، حدد الطابوق المزخرف الممر المهجور في الحديقة. وعلى مقربة من ذلك، تبرز بقايا سجادة متسخة من بين كومة من الطابوق المحطم. فكرتً، وانا في طريق العودة من بهرز، بالعجوز الارملة، حسنة. وبينما كنت احزم امتعتي لمغادرة العراق، فكرتُ بها. وفي آخر رحلة لي على الطريق الى مطار بغداد، الذي يمر عبر متاهة من الجدران الخرسانية التي تحيل الاحياء السكنية الى ما يشبه السجون، وبعد ان مررت بنقاط التفتيش حيث شمت الكلاب حقائبي وفتشتني النسوة، فكرتُ بها. وبينما اكتب هذه الكلمات انا افكر بها، واتساءل الآن، كما تساءلت في اول يوم قطعت فيه طريق المطار ذاك، ماذا حققت معاناتها، وماذا حقق سفك دماء العراقيين، وكذلك الأميركيين.
|