شجرة فاضل وحديقة لطفية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات - فصل من كتاب "هومسيك.. حب الوطن حين يكون أكذوبة في الإبداع"، الذي سيصدر قريباً-
د. نجم عبدالله كاظم والآن وقد خرج من خرج من العراقيين إلى خارج الوطن، فإن هذا الخروج لم ينطلق بالضرورة من ظلم نظام أو قمعه، بل لم ينطلق أحياناً حتى من معاناة أو مشاكل أو صعوبات حياة فردية. في ضوء هذه الحقيقة، التي يعرفها الكثير منا من خلال علاقتهم ببعض من خرجوا، يجب أن لا نغفل روح الجماعة أو الحمى التي استولت على العراقيين، التي سبق لنا أن أشرنا إليها عرضياً في مكان سابق. وهي تذكرنا بما يعرفه العراقيون من حمى (سامكو) التي اجتاحت بغداد في سنوات الحصار، حين راح الناس يبيعون أغراضهم ومقتنياتهم من أجل أن يحملوا أموالهم لرجل أفّاق وضعها في أكياس بحجة تشغيلها في مشاريع يتلقى منها أصحابها فوائد أو أرباحاً كبيرة. فبعد سنوات من السفر والهجرة، وأحياناً تحقيق بعض النجاحات في الخارج، أصبحت عدوى السفر تطال الجميع، بمن فيهم المتمكنون أو على الأقل غير المعانين، فحملوا أغراضهم فوق الحافلات المتوجهة إلى دمشق وعمّان، بسبب وبدون سبب، ميممين أوجههم إلى المجهول. إن شأنهم في ذلك حقاً شأن بطلِ إحدى الروايات العراقية، المهاجرِ الذي "يشعر أنه موجود في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ.. لا شيء من حوله يخفف عنه إحساسه بالوحدة والضياع أو يطرد عنه ظلمة هاجس مرعب واحد سيطر عليه وجعله يرى نفسه مرمياً في مكان مقفر لا أرض فيه ولا أهل ولا جاه ولا عزاء ولا شيء سوى فراغ مديد يشبه تيهاً توقفت فيه كل قراءات البوصلات على لوحات التحكم"(1 ). لقد تلبّسه الحلم في الخلاص في مكان ما بعيداً عن الوطن لينتهي بالضياع وربما الموت. فالكثير من هؤلاء البسطاء الذين خرجوا بحثاً عن الخلاص وتحقيق الأحلام انتهوا إلى بائعين للسكائر وما أشبه على أرصفة وشوارع عمّان ودمشق وغيرهما من عواصم العرب ومدنهم. والكثير منهم راحوا يبيعون كراماتهم على أبواب منظمات الإغاثة واللجوء والكنائس والجمعيات الإنسانية في البلدان العربية والغربية. ولكنْ ضمن هؤلاء، كانت هناك أيضاً أعداد غير قليل من الأدباء والفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات العليا الذين استطاع بعض منهم المحافظة على كرامته وقد حمته عبقريته أو موهبته من أن يطأطئ رأسه. وخدع بعضٌ آخرٌ نفسَه حين توهّم أو أوهم نفسه والآخرين بأنه يفعل ذلك من خلال نشاطات أدبية وفنية وثقافية على هامش حياة الآخر، وهو يبتعد عن هموم بلده ومعاناته في خضم انشغاله عنه بهمومه الفردية أو حياة الدعة حين تتحقق له. ومع أمثال هؤلاء قد نجد من الأدباء والفنانين من انشغل بكل شيء غير الوطن وهمومه، فمنهم من اكتفى بكتابة عمود أسبوعي في جريدة عربية من الدرجة العاشرة، وآخر بكتابة موضوعات هامشية تجانب ما يؤمن به وتجامل رب لقمته.. وهذا من حقه الاعتباري، وآخر باستعارة قلمِ أخرَ ليكتب بلغة الغريب من قلب لا يخشع وعين لا تدمع عن الوضع في الداخل وراح مثل الريح يميل حيث تميل. وراح آخرون يكتفون بالثناء على النشاطات الثقافية للبلد الذي يعملون فيه أو الكتابة عن أدبائه المتواضعين، وكأني بهم يستأثرون بوطن التنافس غير عابئين برغبة البحث عن ضماد لجرح الوطن النازف. ومرة أخرى نكون محظوظين بمبدعين قلة ظلوا قابضين على جمرة عراقيّتهم الملتهبة في زمن الخراب والفوضى محاولين تصوير مآسي البلد وهموم أبنائه على الرغم من أن بعض النتاجات اكتنزها التكلف والزيف والجدب والافتقار إلى محاكاة الواقع المرير بوجدانيته وروحها(2 ). إزاء هذا الوضع المريض، أو على الأقل غير الاعتيادي، كان حرص مبدعي الخارج على التعبير إبداعياً عن حب الوطن، بل في الكثير من الحالات المبالغة في ذلك، مدفوعين، بالطبع، بالدوافع التي عرضناها أو ببعضها. ولأننا لا نُعنى هنا بدافع الحب وافتقاد الوطن والمعاناة الحقيقية والصدق في التعبير إبداعاً وغير إبداع عن ذلك، فإن الدوافع المقصودة هنا، إذن، هي الدوافع الأربعة الأخرى، وهي إسقاط الفرض؛ وكسب الجمهور وحُمّى التنافس؛ والتغطية على حب الذات؛ وتأنيب الضمير. وتعلقاً بذلك نحن لن نطالب مبدعي الغربة بالطبع بأن يكونوا مثل أولئك الذين يشير إليهم سلام عبود حين يقول: "لقد بالغ السياب في قصيدته (غريب على الخليج)، حينما جعل (حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق). ومبالغة عاطفية كهذه، رغم ما تحمله من إحساس خفي بالتفوق، لم تكن مبالغة عرقية أو (قطرية)، ولم تكن زهواً بالعظمة، بقدر ما كانت حنيناً مميتاً إلى البيت، وهلعاً عظيماً من الموت على أرصفة الغربة"(3 ). وفي ضوء أي من دوافع التعبير المبالغ فيه عن حب الوطن، كان على هؤلاء المبدعين تقديم مبررات البقاء في الخارج والارتضاء بالمهجر وعدم العودة إلى الوطن، فكانت الادعات المختلفة، كما رأينا. ومن الطريف أننا لا نرصد، إلا في النادر، مثل هكذا مبالغة في التعبير عن حب الوطن عند كبار مبدعي الداخل، وذلك عندنا ببساطة لأنهم لا يحتاجون إلى ذلك ما داموا قد بقوا فيه في أزماته. هذه الحالة تذكرّني بمسرحية وليم شكسبير "الملك لير" حين تبالغ ابنتا الملك الكبيرتان (غونريل) و(ريغن) في التعبير عن حبهما لأبيهما من أجل تحقيق رضاه والحصول على أكبر ما يمكن من مُلكْه، فتقول الأولى لأبيها الملك: سيدي، أحبك أكثر مما تتحمل ألفاظك من فحوى، حبّاً أعزّ من العين والحرية والمدى، أثمن من كل نادر نفيس لا يقلّ عن الحياة رفلتْ الزينة والحُسْن والشرف أشدّ ما يحبّ ولد أباه أو يلقى الأب من ولده، حبّاً يقصر عنه النّفَس، ويعجز الكلام- أحبك فوق هذا كله(4 ) وتقول الابنة الثانية: ما أنا إلا من معدن أختي نفسه، فليكن قدري قدرَها. ففي قرارة قلبي أجد أنها قد عيّنت حبي على حقيقته، لولا أنها قصّرت بعض الشيء. فأنا أعادي الأفراح الأخرى كلها التي هي في منال الحس فيّ وأراني لا أُسعد إلاّ في حب سموّك العزيز( 5) أما الابنة الثالثة الصغرى (كورديليا) فهي تكتفي بترجمة شعور حقيقي ولا تجد من حاجة إلى أن تعبّر عنه كما عبّرت أختاها ما دامت تحب أباها الحب الصادق الذي تحبّه عادةً أيةُ بنت وفيّة لأبيها. هي تجيب أباها حين يسألها عمّا بوسعها أن تقوله إزاء ما قالته أختاها: أنا الشقية، لا أستطيع أن أرفع قلبي إلى فمي: إني أحب جلالتكم وفق رباطي البنويّ لا أكثر ولا أقل(6 ) فيأتي العمل والسلوك من الأختين الكبيرتين، بعد ذلك، مناقضاً لحبهما المدَّعَى، وليكتشف الملك بعد حين أن حبهما لم يكن صادقاً، بل لم يكن إلا كلمات أتته من بين شفتي كل منهما بينما تخلتا عملياً وتركتاه هائماً بالبراري. أما من أحبته الحب الحقيقي فهي ابنته الصغرى التي لم تجد حاجة إلى التعبير إلا عن حبها القلبي الصادق الذي سيأتي في الصفحات الأخيرة من المسرحية حين تسعى مع من يساعدها إلى إنقاذه فتقول له، قبل أن يُمسَك بها وتُشنق ضحيةَ حبها الصادق وإخلاصها لأبيها: أبتاه العزيز! ليجعل الشفاءُ دواءك على شفتيّ، ولتُصلح هذه القبلة ما أنزلته أختاي بكرامتك من عنيف الضر والأذى!( 7) وإذ يحترق الوطن أمام أمثال هاتين الابنتين، من مبدعي الخارج، فإنهم في تعبيرات الحب له وافتقاده، عندي، مثل ابن يرى والده يحترق أمامه، فلا يفعل شيئاً غير التعبير عن حبه له. ومن طريف ما نرصده هنا أن المبالغة في التعبير عن حب الوطن لم تخجل من التسلل حتى إلى إبداعات بعض كبار المبدعين العراقيين. وحين نقول هذا فإننا لا نعني أن هؤلاء غير صادقين في هذا، ولكن الشيء المؤكد هو أن العديد منهم لا يقرنون أقوالهم – إبداعاتهم وتصريحاتهم- بأفعال حقيقية تقدم شيئاً للعراق والعراقيين. فهذا الأديب الكبير جمعة اللامي يقول: ليس بيني وبين العراق إلا الهواء. ثم يقول: يا عراق.. لن أنساك ولا ندري، كم كانت ستطول مدة فراقه للعراق لو كان ما بينه وبينه أكثر من الهواء فقط؟ وقد رأينا كيف أن المطرب ماجد المهندس، حين تسأله المذيعة عن وضعه بعيداً عن الوطن وعما يشعر به تجاه ذلك، يجيب بأنه يعاني بُعْدَه عن جمهوره ومحبيه. بل هو لا يتردد في الادعاء بأنه لا يستطيع البعد عن الوطن دقيقة واحدة، ولكن ظروف العراق هي التي أجبرته على ذلك. وحين تسأله عن وضعه خارج الوطن وعن درجة معاناته يجيب بأن وضع الغربة مذلّ. فأي فنان هذا الذي يرتضي الذل على تحمل جزء من التعب، بل حتى الخطورة، في الوطن؟ ثم ما الذي قدمه للوطن، وهو الذي يبتعد عنه ثلاث عشرة سنة؟ أما مظفر النواب، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، فلم يساوِ الوطن عنده حتى زيارة قصيرة، أو تصريح أو إعلان عن موقف مما يجري ليكون له تأثيره الحتمي في الكثير من العراقيين الذين يحبونه. وإذا كان الناقد الدكتور حسين سرمك يقول عنه: "كل قصائده على الإطلاق تجد هذا الالتحام المعجز بالطبيعة.. بالأرض.. بالخصب والنماء والانبعاث والتجدد"(8 )، فإننا لا نفهم كيف يلتصق ويلتحم بأرضه من يبتعد عنها باختياره عقوداً من السنين لا يكلّف نفسه خلالها حتى بإلقاء نظرة عليها. وقد رأينا حسام الرسام، في مناحاته، يحرص على التمشي في سدني الأسترالية ويستعرض فيها بسيارته المكشوفة، وهو يغني: عندي وطن ظلّيت بس أشتاق إله ويا عذابه اللي ما يكدر يوصل هله حرموني منه اللي ما يرحمون أمنيتي أرجع لكن شلون؟ وكأنه لا يعي أن الجواب على شلون (كيف) هي أسهل من أن يغنّيها؟ ولعل فاضل العزاوي يفيد أن يكون نموذجاً، لا في المبالغة في التعبير عن حب الوطن، ولا في عدم اتساق التعبير مع المواقف والأفعال والسلوكيات فحسب، وإنما في المباهاة بالموقف السلبي من الوطن أيضاً، وتحديداً في تبرير عدم العودة وتصريحه غير المستساغ عن ذلك، وهو ما يجعلنا نتوقف عنده وقفة خاصة. وبداية ليس من جديد القول إن فاضل العزاوي فناً وإبداعاً كاتب كبير، لا يمكن أن ننكر هذا ولا نريد، وعليه يجب أن لا يُفهم ذلك منا هنا. كما لا يمكن، بالرغم من كل ما قلناه ونقوله وسنقوله، تجاوز موقفه المشرف المعادي للاحتلال، الذي يسفّه فيه المعادلة العقيمة والغبية التي تقول إما مع نظام صدام وإما مع المحتل وأعوانه، فكان رفضه المعبر عنه بمقالة جميلة سنأتي إليها بعد قليل. ولكننا نعود لنقول إننا لا ننسى أيضاً أقواله ومواقفه وأفعاله التي تتناقض مع الموقف الوطني، كما يجب أن يكون، خصوصاً في قسوته على الوطن وعلينا حين عبر عن موقفه من العودة إلى الوطن طيلة أكثر من ثلاثين سنة لم يقدم له خلالها شيئاً، بل لم يكلف نفسه عناء اقتراب سريع منه. وهو، في ظل هذا ينساق، كما رأينا آخرين ينساقون بدافع تأنيب الضمير والإحساس بالتقصير، وراء خداع الذات ولكن بالتأكيد ليس خداعنا إن أراد، فيقول في حوار أُجري معه: "فترة إقامتي في العراق كانت منفًى مستمراً ما تحقق فيما بعد كان انعكاساً لرؤيتى الأولى. المنفى هو ألا تستطيع أن تنتمي إلى الوضع القائم بالفعل، والوضع نفسه يرفض أن يتقبلك كما أنت. وقبل خروجي من العراق بفترة طويلة وأنا أفكر في الخروج، والرمل الذي حملته معي هو تعبير رمزي عن الوطن، أي أنني أحمله معي ولم أتخل عنه"( 9). ليأتي بعد ذلك إلى المؤلم في كلامه حين يقدم اشتراطات ضمنية، وإلى حد ما غير لائقة بمبدع في مكانته، للعودة إلى الوطن. فحين يسأله المحاور: "ألا تفكر في العودة بعد أن رحل الدكتاتور؟"، يجيب: "لقد خرجت وعارضت وضعاً كان ديكتاتورياً، ولكن الناس كانت لا تزال قادرة على مواصلة العيش، رغم كل جرائم النظام. لقد رفضتُه بحثاً عن وضع أكثر إنسانية [بدلاً من الإسهام بالتغيير]. ولكن ما يحدث في العراق الآن لا يمكن تحمُّلُُه أو التعايش معه. رفضت العودة إلى ما كان يشبه وطناً في الماضي فهل أعود الآن إلى ما هو أرض خراب؟، لا أستطيع نفسيا تقبل الأمر رغم رغبتي في العودة [!؟]. وبعد كل شيء: أي دور يمكن أن أقوم به في ظل حروب الطوائف والإرهاب وفكر الظلام الذي يعم البلاد"( 10). فالتساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو: من الذي يتصدى لهذه الحروب، إذن؟ ليس عند الروائي الشاعر جواب بالطبع، خصوصاً أنه، حين يسأله المحاور عن الأِشياء التي لو تحققت في العراق يعود إليه؟ يجيب: "تلقيت دعوات كثيرة بعد سقوط صدام للمشاركة فى مهرجانات وحفلات تكريم، ورفضتها جميعاً. ليس لدى شروط للعودة[!] وإنما أريد أولاً أن يعود العراق وطناً [أي أنه ينتظر من يصنع له الوطن الذي يريد]. ما هو موجود الآن بلد تحت الاحتلال وقوى طائفية تتصارع، تحطيم كامل لكل الأسس. عندما يعود العراق (عراقاً) يمكن أن أعود [أي يجب أن يُهيأ له أولاً]. لا أستطيع العودة إلى أرض خراب، فقد عشت طوال الثلاثين عاماً الماضية أحلم أن تنتهي الدكتاتورية وينشأ وطن حقيقي حرّ يحترم حقوق الإنسان لأعود. انتهت الدكتاتورية ولكن جاء ما هو أسوأ منها. هل أذهب إلى العراق الآن ليستوقفني جندى أمريكي؟ هذا شيء لا أحتمله. هل أذهب ليعتقلني أو يقتلني شخص متعصب؟ العراق الآن أسوأ من (الأرض الخراب). هناك إرهاب واحتلال وقتل يومي مستمر على أساس طائفي. أستطيع أن أكون شاهداً على ما يحدث في العراق وأنا في المنفى، لا أحتاج أن أذهب إلى هناك لأرى الكارثة. وأستطيع أن ألعب دوري من الخارج بطريقة أفضل مما أنا فى الداخل"(11 ). ويستمر في تداعياته، بما فيها من صدق وعدم صدق، التي يبدو وكأن العزاوي لم يخطر في باله أنها ستوصل لنا ما خلف حروفها، فيقول: "أنا شخصيا لست منسحباً... وأنا أنتجت وما زلت وأحاول أن أصل بصوت العراق إلى العالم كله. الكتابة المبدعة هي دفاعنا الأكبر عن العراق"( 12). فواضح جداً هنا أن كل ذلك إنْ هو إلا تبريرات لا نجد لها كبير أثر على أرض الواقع باستثناء تحقيق إنجازات إبداعية على المستوى الشخصي. وحين نقول كل هذا الذي نقوله، وإذ لا ننسى عظمة إبداعه، كما عبرنا أكثر من مرة، فإننا لا ننسى أيضاً بعض آرائه وكتاباته في الوطن والحرب والعدوان والاحتلال الأمريكي والطائفية المقيتة وسياسة المحاصصة وما تؤدي إليه من نتائج تراجيدية. ولكي لا نجانب الموضوعية ونحن نتناول سلبية الأديب، نقر بأن هناك جانباًً إيجابياً فيه. ننقل هنا بعض ما قاله في ما حدث ويحدث بعد سقوط بغداد واحتلال الأمريكي للعراق، وهيمنة ثقافة المحاصصة والطائفية: "بلغ الانحطاط الثقافي والسياسي والأخلاقي مستوى لم نعهده في كل تاريخنا من قبل... طوال كل الفترات الدكتاتورية في العراق، وهي أشمل من فترة الدكتاتورية البعثية... "لقد كبُرت في بيئة لم تكن تفرق بين الناس لأي سبب كان، ولم يقل لي أحد في يوم ما إنني أختلف عنه في أي شيء. كان التقدير دائما للموهبة والثقافة، وهو هوى جعلنا نعتقد أن العراق بلد عظيم لتعدده الثقافي المدهش، فأحببناه إلى حد التضحية بالنفس. لم أنتبه إلى أن ثمة فارقا بيني وبين أحد من الناس، فقد نمت وأقمت، أنا العربي بالولادة، في بيوت أصدقاء آشوريين وكلدان وأكراد وتركمان وعرب، مثلما كان بيتنا مفتوحا للجميع... انظروا أيضا بأية خرافات وأساطير جهدت الأحزاب الطائفية من كل الأصناف في كسب أصوات الناخبين في الانتخابات العراقية... "منذ البداية جرى كل شيء بالمقلوب. فقد انتهت الوطنية التي طالما تشدق بها الجميع لصالح التبعية للأجنبي، والكفاح من أجل السيادة والاستقلال لصالح الاحتلال، والوحدة الوطنية لصالح الانقسام الطائفي، والدولة العصرية لصالح سلطة ميليشيات الموت... لقد عملنا دائما من أجل إسقاط الدكتاتور، ولكن ليس من أجل إسقاط الوطن. فالدكتاتور، كل دكتاتور، هو حالة عابرة في تاريخ الوطن سوف تنتهي ذات يوم، مهما كان العذاب الذي سببه لنا، وهو لا يمكن أن يكون الوطن... إن تقسيم العراقيين إلى عرب شيعة وعرب سنة وأكراد وتركمان ومسيحيين ويزيديين وصابئة، ومنْحَ كل منهم حصة من العراق، على أساس ذلك يلغى الأساس الذي يقوم عليه الوطن الواحد وفكرة المواطنة التي تجعل مني أخاً للجميع وتعود إلى أكثر التقسيمات بدائية..."( 13). وفي ضوء كلام فاضل العزاوي الجميل هذا كله، نسأل: وأين هو من كل هذا الذي يحدث؟ وهل مثل هذه المقالة كافية، وهي تأتي وهو بعيد عن الوطن وعن هذا الذي يجري فيه ويدينه؟ وهل مقبول من مبدع كبير مثله أنْ لا يُقدِم على أي فعل يُذكر للوطن ويأبى العودة إليه إلا بعد أن يُفرَش له بالزهور؟ مرة أخرى يأتي الإبداع، في هذا، غير مقرون بأي فعل إيجابي، بل بسلبية لم يعد بإمكان أي إبداع راقٍ أن يذللها، بل هي انسحبت حتى على الإبداع نفسه ليكون سلبياً هو الآخر بدلالته. نقرأ له، في إحدى قصائده، وهو يقول: رأيت شجرتنا تُقطع بالفأس وبيتنا تقطنه الجرذان فوفق نظريات القراءة والتلقي، واستحضار المسكوت عنه في ظل أفق التوقع، كما قال به ناقد القراءة وتوقعات القارئ هانز ياوس، نتساءل: متى يمكن للجرذان أن تسكن البيوت؟ ونجيب: حين نهملها أو نهجرها. والشاعر قد فعل الاثنين مع بيته ووطنه عموماً حين استسهل هجرهما، وعليه فمن الطبيعي أن تسكن الاثنين الجرذانُ. عدا ذلك كنا سنتفهّم ونتعاطف معه لو أنه كان قد قال: هجمت الجرذان علينا في بيوتنا وسلبتها منّا وسكنتها. وإلاّ لماذا لم تعرف جرذان فاضل العزاوي طريقها إلى حديقة لطفية الدليمي مثلاً؟ فتلك حديقة ظلت زاهية بكل أشكال وألوان الورد والمتسلقات حول بيتها الجميل المؤثث بذوقها الرفيع. هل كانت لطفية الدليمي، التي كتبت أجرأ مقالاتها بعد الاحتلال وهي موجودة داخل العراق، إلا موضع احترام وتقدير؟ وإذا ما كانت الدليمي قد هجرت هذا البيت مؤخراً فإنها ما فعلت هذا إلا حين اشتد عود المليشيات والعصابات وتسيدت المحاصصة وهيمنت الطائفية. وجزء من ذلك كله يتحمل مسؤوليته، لا أصحاب العقول الظلامية الذين هاجمتهم لطفية وكتاباتها، كما هاجمهم فاضل العزاوي نفسه فحسب، بل من يُفترض أنهم أصحاب العقول المتنورة أيضاً من أمثال إبراهيم أحمد وضياء العزاوي ورافع الناصري وجمعة اللامي وجواد الأسدي وسعدي يوسف وعبد الرحمن مجيد الربيعي وكاظم الساهر ونبيل ياسين ونصير شمه، وغيرهم كثيرون ممن تخلوا عن الوطن في أصعب ظروفه، ولم يشاركوا من حاول بجد أن يفعل شيئاً للوطن من زملائهم، من أمثلة زهير الجزائري والفريد سمعان وشفيق المهدي ونوري الراوي وأزادوهي صموئيل وجواد الحطاب وعبد الرزاق المطلبي وكامل شياع وشهاب التميمي وأطوار بهجت وعبد الخالق الركابي ومحمد خضير ومهدي عيسى الصقر وغيرهم. فحين انتهى (الاضطرار) وجاء أوان العودة إلى الأم المريضة لتطبيبها وتضميد جروحها لم يعودوا، أو عادوا ثم فروا سريعاً وتركوها من جديد وحدها تحتضر وربما تموت وتأكلها الجرذان. صحيح أن لطفية الدليمي كانت دوماً في العراق حين كان مرفّهاً ولا أظن أنها تنكر ترفهها بترفهه، ولكنها حين احتاج هذا الوطن إلى من يقف إلى جانبه، في ظل السقوط والفوضى القسوة وسيادة الوحشية والطائفية، وذلك بأن يسهم في زيادة عدد الأنقياء والجيدين بالبقاء فيه وتحمل مآسيه في مقابل السفهاء والخونة وضعاف النفوس والمجرمين والطائفيين، لم تتردد سنوات عدة في أن تفعل ذلك، فنشطت وعملت وكتبت وقاومت بالبقاء في البلد قبل أن تُضطر فعلاً- وهي التي تعيش وحيدة- إلى مغادرة الوطن حين لم تستطع المحافظة على حياتها، وحين غلبها معسكر الموت. هي تغنّت بالعراق الجديد وتفاءلت وآلت على نفسها إلا أن تشترك في بنائه، ولم تغادره إلا حين لم تستطع تحمّل خطورة الحياة فيه. وتعلقاً بذلك كله لا ننسى ثقافة الخوف التي خلقها أهلوها المعروفون، التي غلبت من غلبت دون أن نجرؤ على أن نستهجن أن يُغلب من غُلب ومنهم أديبتنا، فثقافة الخوف "ذات طابع جماعي، فلا يُقصد بها فرد ولا جماعة دون غيرها، بل هي بمثابة حزم الهواجس المتفشية في كل قلب ينبض وفي كل روح تخفق. فثقافة الخوف أخذت معنى جماعياً ولم تُعد ذات طابع فردي"( 14)، خصوصاً حين اقترنت بالوقائع فرأيناها من حولنا بل في بيوتنا. وإذا ما كان تباكي فاضل العزاوي على شجرته التي أهملها وبيته الذي هجره بإرادته، فإن تباكي مبدع آخر، هو نصير شمه، من نوع آخر. إن أمره مثل أمر إبراهيم الكوني مثلاً. فكما يتغنى الكوني بصحراء الوطن وهو على جبال سويسرا، فإن شمّه ينظّر للعراق والعراقي والفن العراقي ولتاريخ العراق وحضارته، ويغني لشهداء ملجأ العامرية وشهداء جسر الأئمة بينما هو يتنقل بين القاهرة وبيروت والخليج وباريس وروما وفيينا والدول الإسكندنافية وغيرها مما واضح أنها إذ تغنيه عملياً عن العراق وتشكل له بشكل واضح بديلاً عن الوطن، فإنها لا تنسيه أن يتغنى ويبالغ في الكلام عنه. ويقترب كاظم الساهر من شمه في هذا ليكونا مثالين على التعبير عن الحب المبالغ فيه للوطن، حين مر الوطن في أتعب مراحل تاريخه وهما بعيدان عنه ولا يقومان ولو بفعل صغير. وهما سيقومان لاحقاً بالتبرع لأطفال العراق ومساعدة اللاجئين العراقيين، في أسوء طريقة متعالية وأنانية، حتى وإنْ افترضنا حسن النية فيها، للتعامل مع العراق والعراقيين. في الواقع إنها أساءت لهما قبل أن تسيء للعراقيين الذين جرّح مشاعرهم وأحاسيسهم كلُّ أهل الأرض الذين كللهم اثنان من أحب مبدعي العراق إلى أهل العراق، كاظم الساهر ونصير شمّه. إن هذا ليذكرنا بأولئك العرب الذين إذ مارسوا أدوار السجّانين على العراقيين ليمنعوا كل شيء عنه أيام الحصار، فإنهم كانوا يعلنون عن تبرّعاتهم (الإنسانية) المهينة للعراق والعراقيين بفتات الأغنياء. إننا لنرى أن خيراً من كل هؤلاء المبدعين المزايدين، ومن غير الذين قدموا للوطن ما يتوجب عليهم تقديمه، هم أولئك الذين شخّصوا سلبيات في بلدهم- بمعزل عن صحة تشخيصاتهم بالطبع- وصرحوا بها وعبروا عن مواقفهم منها، غالباًً بإخلاص وبحسن نية لا بنية الإساءة إلى البلد، حتى حين يسيئون إليه في النتيجة أحياناً، مثل سلام عبود، الذي نجده، في كتابه (ثقافة العنف)، أصدق في التعبير عن أحاسيسه وآرائه تجاه الوطن من جل الذين في الخارج من الأدباء والفنانين والمثقفين. فقد كان أجرأهم في التصريح بما يراه حقيقة في وطنه، وفي النتيجة ليكون ذلك مبرراً صريحاً لتركه الوطن والبقاء بعيداً عنه. بعبارة أخرى، أن أمثال سلام عبود، حتى وإن اختلفنا معهم بهذه الدرجة أو تلك، كانوا في تجاربهم الكتابية عن الوطن وسعيهم في أن تكون موضوعية، أكثر صدقاً من كل أولئك الذين تغنوا بالوطن، وربما ولْوَلوا وناحوا عليه، عبر تعبيراتهم النادرة في صراخاتها، لكنهم ما قدموا له شيئاً حقيقياً. هذه النماذج لعدد كبير من مبدعي الخارج، في تعبيراتهم عن الوطن وفي مواقفهم منه، وفي ظل غلبة السلبية عليهم، تقودنا إلى ظاهرة يكاد أصحابها يتجاوزون فيها هذه السلبية، ولكن لا إلى ما يعاكسها، بل إلى ما يؤكدها ويبزّها ليصل بها إلى ما هو أشد سلبيةً وإلى وضع أكثر مدعاةً للإدانة. فواحدة من أكثر الظواهر سلبية وغرابةً التي هيمنت على الكثير من سِيَر المبدعين العراقيين المغتربين- ولكن بالتأكيد ليس كلها- هي تلك التي تتمثل في تجاوز بعض مبدعي الخارج على من احتضنوا وطنهم في الداخل من المبدعين، لتأتي اتهاماتهم وتخوينهم لهم، والادعاء بوطنيتهم هم، في وقت قلّ في الداخل من ادعى انفراده أو تميزه بحب الوطن أو بالغ فيه، عدا من كانوا أصواتاً للنظام بالطبع. فتحت أي مسمّى، ومنذ أية محنة ما عاد الأديب الكبير، الذي يحترم نفسه وقلمه وكلمته وفنه وإبداعه، اسماً تنحني له الأقلام، وقامة تلتفت إليها الأنظار؟ فهكذا كان حال الأسماء المحترمة التي جازفت في البقاء داخل العراق وهي تكتب أعمالها معجونةً بطين العراق العبقة برائحة الرفض والمعارضة، وجازفت بالبقاء بالرغم من التقارير التي كانت تُكتب ضد كل عمل جديد يصدر لها. وعموماً يبدو أن تعبيرات كل من مبدعي الخارج والداخل ومواقف كل منهما من الآخر ومن الوطن تعكس حالات نفسية وإسقاطات ذاتية وموضوعية، الحديث عنها طويل، ونعتقد أننا قد حاولنا الإجابة على معظمها في مواقع عديدة من هذا الكتاب، باستثناء تحامل بعض مبدعي الخارج هذا على مبدعي الداخل التي هي بظننا قد لا تبتعد عن تلك المسببات التي تؤدي إلى الشعور بتأنيب الضمير في ظل التقصير تجاه الوطن. وعموماً أن مبدع الخارج الذي يفعل ذلك إذ يبدو كأنه يريد أن يوهمنا بأن إبداعه مكرّسٌ لحب الوطن، هو، في الكثير من الحالات، إنما يوهم نفسه بالتعويض عن الخسارة الجوهرية المتمثلة في خسارته إنساناً لوطن ينتمي إليه. الهوامش 1) ميسلون هادي: يواقيت الأرض، عمّان، 2001، ص107. 2) انظر سهام الشجيري: الكتابة عندما تكون ذاكرة للوطن وعنواناً لحياة الأديب العراقي الأكثر إبداعاً. 3) سلام عبود: ثقافة العنف، ص226. 4) وليم شكسبير: الملك لير، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بغداد، 1986، ص15. 5) المصدر السابق، ص15- 16. 6) المصدر السابق، ص16. 7) المصدر السابق، ص136. ( 8 حسين سرمك حسن: النواب فلاّح شعري ملتحم بالأرض.. لوحة ثمار ذهبية تسيل على أرضية القصيدة، جريدة الزمان، 15/6/2008. 9) فاضل العزاوي، حوار، حاوره محمد شعير، مؤسسة جذور الثقافية، موقع إليكتروني، 27/8/2006. والحوار منشور في مواقع عديدة أخرى. 10) المصدر السابق. 11) المصدر السابق. 12) المصدر السابق. 13) فاضل العزاوي: ملاحظات ثقافية سياسية حول العراق في ظل الاحتلال، الحوار المتمدن، موقع إليكتروني، ع1615، 18/7/2007. 14) فؤاد إبراهيم: صناعة البيئة الثقافية للخوف: فؤاد إبراهيم، في كتاب "ثقافة الخوف".. مؤتمر فيلادلفيا الدولي الحادي عشر، تحرير ومراجعة: صالح أبو إصبع وعز الدين المناصرة ومحمد عبيد الله، جامعة فيلادلفيا، جرش، 2006.ص125. |