في ذكرى رحيله : حسين مردان يتحدث عن طفولته |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في فجر 4/10/1972 توقف قلب حسين مردان وقضي الامر.. مات الشاعر.. وصدقت نبوءته بان النهاية آتية لا ريب مطلع الشهر القادم، قال هذا بعد ان سقط مغمى عليه في دار الاذاعة يوم 14/9/1972 ونقل للمستشفى. بعدها يلتقي كامل الجادرجي ويعرض عليه العمل في جريدة الاهالي مصححاً لغوياً وعد ذلك فوزاً كبيرا ويلج حياة بغداد كما المستكشف يريد ان ينهل من عالمها ما راود مخيلته وهو ما زال يحبو في بدايات تشرده في الخالص. يدخلها مفتتحا تشرداً من نوع آخر، فان الكتب لا تكفي… الحياة … الليل.. واي ليل هوليل بغداد بكل ما فيه من خمر وغوانٍ وحشيش وصحبة شعراء حالمين. يهدف للكشف ورؤية الجذور ويغوص في عالم المدينة المتنوع والمتناقض في الوقت نفسه، ويجد في (واق واق) المقهى ما يسهل عليه عملية الاكتشاف والغوص هذه.
وهناك يتلمس طريقه للوسط الثقافي: شعراء … فنانين.. يساريين ومدمنين وجره ذلك الى صحبة متشرد من نوع آخر فقير سليل عائلة ارستقراطية هو بلند الحيدري وغيره ويبدا التجوال والتنقيب في مكتبات بغداد، وحين صدرت مجلة (الكاتب المصري) وما فيها عن الوجودية هام بها وتبناها وعد نفسه وجوديا على طريقته. ثم لما نشرت ترجمة ديوان بودلير»ازهار البشر» وجد ضالته فيه وعد نفسه بودليرياً. وحين تتسع دائرة معرفته بالوسط الثقافي يبدأ بالتنقل بين مقاهي بغداد الادبية»من عجمي، الزهاوي، كافيه سويس، البرازيلية، واق واق، وفي معهد الفنون الجميلة ويلتقي النخبة (الرصافي، الجواهري، بحر العلوم، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي) والقائمة تطول. يصدر عام 1949 ديوانه الاول (قصائد عارية) وها هو يدخل عالم الشعر بجرأة هي اقرب للوقاحة ويتمادى في جرأته ويهدي ديوانه الى نفسه ويوصمه بهذا الاهداء الذي لا يقل جرأة عن اصراره واطمئنانه الى شاعريته يقول»لم احب شيئاً مثلما احببت نفسي، فالى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب، الى الشاعر الثائر والمفكر الحر... الى.. حسين مردان.) وصودر الديوان حال صدوره واحيل صاحبه للمحاكمة وتبرئة المحكمة بعد ان انتدبت لجنة من الادباء لقراءته والحكم عليه وكأنها بذلك تعلن ولاءها للابداع وتقف الى جانب الشاعر. في 1950 اصدر قصيدته العمودية»اللحن الاسود» في كراس خاص ولم يكن للسلطة بد من مصادرة القصيدة وتقديم صاحبها للمحاكمة لكنه نجا هذه المرة ايضا هو وقصيدته كما في سابقتها. يصدر في 1950 قصيدته الثانية (رجل الضباب) ايضا في كراس مثل سابقتها التي اعاد نشرها في نهاية ديوان اغصان الحديد الذي اصدره 1961 يدافع فيها عن وطنيته وهو الشاعر الثائر المتفجر ألماً لما يسود بلده من ظلم الحاكم: هذا انا (رجل الضباب) ومن له في كل موبقة حديث يذكر فليعلم المتزلفون اذا التوت قدم على قدم بأني اكبر... يعود في 1951 فيصدر كتابه (صور مرعبة) من النثر المركز – هكذا اسماه ويستمر في النظم على هذا النمط فيلحقه بثان في 1952 (عزيزتي فلانة). وبعد انتفاضة تشرين 1952 تسوقه اهتماماته الوطنية الى المعتقل ويحكم عليه «بكفالة» على ان لا ينشر كتابا لمدة سنة واحدة، ولعجزه عن دفع مبلغ الكفالة المطلوبة يودع السجن.. سجن الكوت لمدة سنة اوائل 1953 زادته هذه السن اصراراً على التمسك بقضايا الناس والسير في خدمة شعبه وغذت اصراره هذا ثقافة عرفها من زملاء سجنه. يقول عن تجربة سجنه»وقبل ان اشد الحزام ارسلت الى السجن.. وهناك التقيت بالشيوعيين لاول مرة.. كانت سنة طويلة قرأت فيها ما يقرب من مائة الف صفحة من الفلسفة الماركسية وانتقلت الى الجانب الاخر من القضية». عاد بعد خروجه من السجن للعمل بالصحافة في جريدة»صوت الاهالي» واصدر في العام نفسه 1953 كتابه (الربيع والجوع) على نمط»صور مرعبة» في نثره المركز. ويصدر في 1955»نشيد الانشاد» من النثر المركز ايضا مستوحيا موضوعه من»نشيد الانشاد للملك سليمان» من»العهد القديم في الكتاب المقدس» بحيث راه»قصيدة من اروع قصائد الحب في الاداب القديمة». يقول الدكتور على جواد الطاهر عن كتابه هذا (اذا كان نشيد الانشاد لدى سليمان ردا على حياة التحلل، فهو لدى حسين مردان رد على»قصائد عارية») وفي العام نفسه 1955 يصدر كتابه»مقالات في النقد الادبي» وديوانه «العالم تنور» من النثر المركز.ويلحقهما في 1956 بإصدار كتابه»رسالة من شاعر الى رسام» الشاعر حسين مردان والرسام شاكر حسن ال سعيد. ويصدر في العام 1958 ديواناً سماه»الارجوحة هادئة الحبال» قام برسم لوحات الديوان كل من الفنانين جواد سليم وشاكر حسن ال سعيد وخالد الرحال وصورة غلاف الديوان لشاكر حسن ال سعيد دعا في مقدمة كتبها له تحطيم القافية والوزن وله في ذلك سابقة ممثلة بما سماه النثر المركز، يقول في مقدمة ديوانه هذا»ان الوزن لا يشل الخيال ويثقل ريش اجنحته ويعطلها عن الرفيف بحرية ويمنع تدفق القريحة فيقطع انهمار الشلال العاطفي فحسب، بل هو يغلق بوجه الشاعر النوافذ السحرية –المطلة على عالمه الداخلي، ويجمد»الحاجما» في اعماقه فلا يفلت الى الخارج غير الدخان ويحض الاحاجر الصلدة!! اما النار المائعة فلا تكاد تصل الى الحافة ولا تسيل الى الخارج الا في حالات نادرة جداً.» وما يدهش ان الناقدة السورية سنية صالح تذكر في تقديمها لديوان زوجها الراحل الشاعر محمد الماغوط الفرح ليس مهنتي» الذي اصدره في 1972 في دمشق واعادت دار المدى طبعه ضمن مشروعها الحضاري كتاب في جريدة ما يلي (يعتبر محمد الماغوط من ابرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل، دخل ساحة العراك حاملا في مخيلته ودفاتره الانيقة»بوادر» قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث) ناسية ان مجلة شعر قد صدرت 1957 مبشرة بقصيدة النثر وان الماغوط بدأ النشر من خلالها في بداية الستينيات، اي ان كل هذا بعد صدور ديوان»قصائد عارية» بنحو ثمانية اعوام في اقل تقدير.ويصدر في 1959 كتابه»هلاهل نحو الشحن» هو للنثر اقرب منه للشعر.وها هو ذا يصدر عام 1960 ديواناً من الشعر الحر اسماه»اغصان الحديد».وفي الستينيات وتحديداً في 1967، يصدر له في بيروت ديوانه»طراز خاص».وعندما وجد حسين مردان ان نماذج برجوازية اخذت تتسرب الى شعره وتكاد تخنقه ترك نظم الشعر واعلن ذلك بكل جراته.في 1969 كان احد اعضاء الهيئة المؤسسة لاتحاد الادباء في العراق ثم عضوا فيه وحين ارادت الدولة استمالة الادباء والكتاب اليساريين الى جانبها وان تدخلهم في بيت طاعتها شرع منذ شباط 1969يكتب في مجلة الف باء الاسبوعية بعد ان اتفق مع رئاسة تحريرها على ذلك وبدأ بكتابة المقالة الاسبوعية والشعر اذا تعذرت المقالة فكان موضوعه متنوعاً وفيه من الابداع والمتعة الشيء الكثير فهو بين الجد والرأي وتلخيص قراءات وفيها كلها تجد حسين مردان الشاعر والموقف كما عهدناه شاخصاً ويستمر بالكتابة للمجلة وبشكل منتظم تقريباً لحين وفاته. حسين مردان يروي شيئا من ايام الطفولة أنا لا اعرف اليوم الذي ولدت فيه لذا لا اعرف عمري بالضبط ، ويزعم دفتر النفوس اني قد جئت الى العالم في سنة 1927 وهذا التاريخ موضع شك ايضا والارض التي شاهدت وجهي اول مرة تقع في قضاء طويريج وتدعى اليوم الهندية .. ولااعرف اصلي ووالدي يزعم انه من قبيلة العبيد من ال سلطان بالذات.. أي من الشيوخ.. اما امه فتدعي انها من عشيرة البيات، ولم اقم باي تحقيق بالموضوع فلم اكن اؤمن في يوم ما بمثل هذه الامور . اعتقد شخصيا ان جذور عائلتي تمتد الى قوميات متعددة فالشكل العام لملامحي وعيني بصورة خاصة يؤكد ان عروقي تحمل الدم العربي ممزوجا بدماء الترك والكرد ، واظن ان هناك دماء اخرى تدعي حسين وسيكتشف القارىء صحة هذا القول الذي يبدو الان غير طبيعي كلما توغل في هذه المذكرات . قضيت السنين الاولى من الطفولة متنقلا مع والدي بين المدن والقرى وما عدت اذكر من اصدقاء المدرسة غير جاسم العزاوي. والغريب اني لا استطيع ان ارسم صورة اضحة لهذا العهد من حياتي ، والفلم الوحيد الذي لم يمسح تماما هو الذي يظهر الزقاق الذي كنا نسكن فيه والشارع المؤدي الى مكتب البريد وساحة المدرسة وبساتن الضلوع المجاور لدارنا بين ابناء محلتنا السوس ابناء محلة الحلفة .. واتذكر ان قائدنا كان يدعى جاسم .. اما زعيم جماعة الحلفة فشخص اسمه اكبر ولي مع هذه القصة صغيرة على الرغم من خيالي الواسع ان اتصور نفسي صغيرا ابتسم لكل من يداعبني.. لقد ولدت في مدينة طويريج ولم احتفظ لهذه المدينة من شريط سوى الماء الاصفر وهو نهر الفرات .. وفي قضاء الخالص ترعرعت وكتبت قصة قصيرة عن بستان بالقرب من البيت الذي كنا نسكن فيه وهو بستان الصولاغ .. هذا البستان في ذهني بعد مغامرات بسيطة كالبحث عن اعشاش الطيور وسرقة الفواكه من الامكنة التي لا يزال طيفها ينتصب امامي كلما قرأت شيئا عن هذه المدينة وهو صندوق البريد الاحمروالنهر الرفيع الذي يطوق البيوت من الناحية الشرقية. وللانهار تاثير خاص في ذكرياتي فكل المدن التي عشت فيها كان مصدر حكاياتي كثيرا عن الحيوانات والمخلوقات المائية.
كنت سريع الغضب واحب التشرد في الازقة ولم اكن احب اللعب الا مع البنات ومع ذلك فلم تحبني امراة طيلة حياتي وكنت امهر رماة الاحجار وقد قتلت مرة لقلقا ، ولقد احزني منظره وهو يلوب من الالم ومنذ ذلك اليوم تركت هذه اللعبة اللعينة ولم اعد اليها الا مرة واحدة في مدينة استوكهولم في السويد والعجيب اني اصبت الهدف في هذه المرة ايضا ومنحت جائزة جميلة وهي فرارة من الورق اهديتها لمرافقتي السويدية.. لقد تعلمت في طفولتي اشياء متنوعة مثل السباحة وركوب الخيل وصناعة التماثيل الطينية ومراكب الورق وغيرها من الالعاب التي كانت شائعة حينها .. ولكن تسلق الاشجار كانت من هواياتي المفضلة .. فقد كنت شديد الولع بأكل النبق والتفاح الاخضر والخضروات والتكي.. اما في الليل فكنا نتجمع في ساحة المحلة او نتجول بالقرب من السوق ننصت الى سيل الصخب المقبل من باعة المقاهي ولايزال وجه العم مهدي الذي كنت احلق شعري عنده يعود الى عيني بين الفترة والاخرى .. هذا في الصيف .. اما في الشتاء فكنا نتجمع حول مناقل الفحم او اعواد الطرف. من بين جميع القصص المسلية التي كانت تسردها علينا ام محمد كنت احب قصة الطنطل ذلك الكائن الجبار الذي يخاف من منظر ابرة الخياطة ومع اننا لم نره ابدا الا اننا نشعر بوجوده دائما .. ومن الحيوانات الواقعية او الحقيقية كنت اميل الى صداقة الكلاب وانفر من رؤية القطط ولم اكره أي مخلوق مثل كراهيتي للجرذان ربما لانها تاتي الى عالمنا من وراء الثقوب المظلمة . لقد كانت تخيفني واني لا استغرب اذ اعطي الجرذ في ايامنا الحاضرة هذه الشخصية الفذة وخاصة في افلام الكارتون .. ومن المؤسف حقا ان معظم تلك الحكايات اللطيفة والتي ترمز بعضها الى صفاة اخلاقية معينة لم تجد حتى الان من يمد يديه اليها فيخرجها من صمتها المظلم ويضمها بين دفتي كتاب .. وقد انقرض قسما منها ولاشك انها ستختفي بعد سنوات الى الابد .. والقصة الوحيدة التي ظلت عالقة ببالي هي قصة الديك الذي كان لوالده بذمة السلطان مبلغ قرشا واحدا وتبدا القصة عندما بدأ الديك سن الرشد وقرر الحصول على هذا القرش وساحاول كتابتها وتقديمها الى القراء الصغار في عدد قادم من مجلة مجلتي .. اما بالنسبة الى ذاكرتي المدرسية فقد كنت احب كافة الدروس عدا اللغة الانكليزية اللغة التي اشعر باشد الحاجة اليها الان . درس الحساب كان عدوي اللدود ولقد عشت هذه العداوة الى اليوم بل اكره حتى البنوك والالات الحاسبة كما انني بالتبعية اضيق بالمشاعر كل من له علاقة بدنيا الحساب والمحاسبة . ومن النكت الطريفة انني كنت اناقش البعد الرابع عند انشتاين مع دكتور في الرياضيات وكنت احظى باعجابه لولا تدخل احدى الخبثاء حيث همس وقال ان من يناقشك في النسبية والبعد الرابع لايعرف الابعاد الثلاثة فدهش الدكتور ورفض سؤالي عن الابعاد هذه ولكن صاحبي اصر على ذلك فاضطررت الى الاعتراف بعدم معرفتي بها وعندما قيل لي انها الطول والعرض والارتفاع ضحكت من غبائي. |