المقاله تحت باب منتخبات في
05/11/2008 06:00 AM GMT
أخيراً، أصدر الناقد الثقافي حسين السكاف باكورته الروائية الأولى «كوبنهاجن، مثلث الموت» (دار ميريت ــــ القاهرة) التي زيّنت غلافها لوحة للفنان التشكيلي العراقي عباس الكاظم بعنوان «بين عينيك وبيني». يسجّل السكاف هنا خطوته الأولى في عالم الإبداع الروائي، متلمساً أبعاد الجراح العراقية التي ما زالت تنزف، نهراً ثالثاً من الدم والعذابات التي لا تغتفر أسبابها السياسية الماضية واللاحقة. الرواية سلّطت الضوء على لغز الموت اليومي في العراق الذي مورس تحت عنوان «المقاومة»، وهو مصطلح ملتبس، وتسمية فضفاضة للتغطية على مَن قاد ــــ ويقود ــــ القتل البشع الذي أصبح ممارسةً شبه يومية للنيل من حياة الفقراء البسطاء من العراقيين العزل وتطلّعاتهم. هذا بعدما تفرّدت بقايا قوى حزب البعث وسلطته في الدفاع عن نفسها تحت تسمية «المقاومة» والاستحواذ على ساحة فارغة لم تملِها أي قوى وطنيّة حقيقيّة تستحق تمثيل الضحايا ومحاولة تصفية الشاهد الوحيد من الضحايا الأحياء، وهو الشعب العراقي الذي لم يدافع عن سقوط السلطة الشنيع أمام قوى الاحتلال الأميركي ومخطَّطه الطويل. وبذلك توافرت لبقايا جلّادي الشعب فرصة الانفراد بالتحرك، مستثمرين ما لديهم من قدرات لا يمكن الاستهانة بها، بما يمتلكون من مصادر مالية منهوبة من خزينة أموال الشعب العراقي، إضافة إلى ذكاء وتجربة مكتسبة من فعالياتهم الطويلة في طرائق استبدادية الحكم الذي مورس على مدى أربعة عقود من تاريخ العراق الحديث. وهي تمنحهم السهولة في التحرك بين مفاصل المجتمع العراقي وتكويناته الأساسية، عبر الخلايا النائمة من الأجهزة البوليسية القمعية التي نشأت وتطوّرت في زمن التسلط البشع، وظلت متسترة طويلاً... وإن اتّضح بعضها تحت مسمّيات مختلفة: إسلامية أو رجالات إسلامية أو قومية، يساعدها في ذلك تحالفها الشيطاني مع العصابات التي تكوّنت من المجرمين الذين شملهم عفو النظام الديكتاتوري قبيل سقوطه، ومع المجموعات التكفيرية الوافدة. جرأة حسين السكاف، كشفت لنا لأوّل مرة وبوضوح ما كان يجري بعد دخول الجيش الأميركي وحلفائه إلى العراق، ضمن جغرافيا كثيراً ما تداولها الإعلام باسم «مثلث الموت». إنّها منطقة المحمودية التي أنجبت العديد من الأسماء المؤثرة في المشهد الثقافي العراقي العام قبل أن تصبح الأكثر شهرة في إثارة الرعب حيث العمليات الإرهابية والقتل والذبح بعد دخول قوات الاحتلال إلى العراق. ومن الذكاء أن يكون الكاتب قد اختار المحمودية التي يعرفها جيداً، ساحةً ومركزاً مكانياً لروايته التي منحته السيطرة على أحداثها المتتالية والمتسارعة. وتصلح الرواية لأن تكون مادة لمسلسل درامي تلفزيوني إذا تناوله سيناريست قادر على لملمة المشاهد الحياتية التي تعج بها الرواية، عبر شخصياتها الرئيسية والمهمة في تسيير أحداث العراق السياسي. تدور أحداث الرواية في النصف الثاني من 2004، أي بعد أكثر من سنة ونصف على سقوط التمثال. وفيها يتتبع القارئ يوميات الصحافية الدنماركية كميلة أندرسن التي أتت إلى العراق مع زوجها علاء كاظم الذي ينتمي إلى المحمودية، حيث عاش حتى بداية عام 1991. ثم قرّر الفرار من العراق جراء حكم بالإعدام أصدرته الحكومة العراقية بحقه بعدما رفض المشاركة، وهو جندي عراقي، في احتلال الكويت. هكذا، يصل إلى الدنمارك ويحصل على اللجوء السياسي. لقد نُسجت الرواية على مفاصل أساسية عديدة، أولها تحوّلات الفئات التي كانت عماد دولة الإرهاب إلى آلية استخبارية حزبية مدروسة لسلطة الرعب والحروب، حيث تحول معظم أعمدة دولة الطغيان إلى تشكيلات لها فعالياتها اليومية المعرقلة لطموحات الشعب العراقي في التغيير الحقيقي، لا التغيير الأميركي. تشكيلات حملت الكثير من فصائله السلاح ضد كل ما هو عراقي وهو استمرار طبيعي وحقيقي لما تعوَّدوه من تخريب وقتل وتنكيل بالشعب العراقي وتطلعاته الحقيقية، وتعسف وإرهاب سلطوي سابق، تبرقع في مانشيت «المقاومة» في ممارساته القمعية ذاتها من القتل وتصفية أصحاب الرأي الآخر. «مثلث الموت» رواية تصطخب فيها أمواج الغدر والكره والحب والخيانة، نجح في كتابتها السكاف بأسلوب الرواية الشعبية السلسة في محاورة القارئ والأخذ بيده نحو تلمس تضاريس التفاصيل البشعة في تكوينات شخصيات الرواية التي تقاطعت أحلامها وغاياتها خلال أحداث القصّ الأدبي في سرد مشوق وجميل.
|