الرواية السير ذاتية المتخيّلة - من حدود الواقعي إلى فضاء العجائبي

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
02/01/2016 06:00 AM
GMT



تعدّ الرواية من أكثر الفنون الإبداعية استجابة لهذا النوع من التشكيل السيرذاتي، وذلك لقرب حساسية التشكيل السيرذاتي من حساسية التشكيل الروائي على أكثر من مستوى، على النحو الذي لا يستطيع فيه الروائي تفادي تسلّل مفاصل أو حوادث أو إشارات أو علامات أو إحالات على سيرته الذاتية، بحكم أن العمل الروائي ينهض في تشكيل عناصره على الحادثة الروائية والفضاء الروائي والشخصيات الروائية، وهي شبكة عناصر ذات طبيعة مشابهة لعناصر مماثلة في طبيعة الروائي وحياته ورؤيته .
الروائي يمرّر الكثير من سيرته الذاتية عن طريق دمج حادثة معينة من حوادث عاشها، أو يحيل على أزمنة أو أمكنة معينة عرفها أو عاشها فيصنع منها فضاء روايته، أو يعكس بعضاً من صفاته وخصائصه الشخصية على شخصية أو أكثر من شخصيات عمله، وذلك يوفّر له فرصة أكبر لنجاح تشكيل العناصر البنائية في عمله الروائي، وبهذا تتسلّل السيرة الذاتية في صيغ معينة منها داخل تفاصيل الرواية وحيثياتها ومناطقها وأجوائها ومزاجها، على صعيد اللغة والأسلوب والواقعة والرؤية ومراحل التشكيل المختلفة .
الرواية الموسومة بـ ((حكايتي مع رأس مقطوع))(1) لتحسين كرمياني تنحو هذا النحو في تشكيل فضائها السردي، فهي رواية تنهض على شخصية الراوي الأساس (سالم) الذي هو راوٍ رئيس مركزي، تقابله شخصية أخرى تتقاسم معه هذه المركزية هي شخصية (الرأس المقطوع)، وثمة حضور محايث لشخصية (سالم) هي شخصية الزوجة التي تتدخّل دائماً تدخلاً حوارياً من أجل كشف طبقات أخرى من شخصية (سالم) زوجها .
تحيل عتبة العنوان ((حكايتي مع رأس مقطوع)) إحالة مباشرة يمكن أن تكون مقصودة فنياً على فضاء الحكاية (حكايتي)، إذ يجري تركيز العمل السردي هنا على عنصر الحكي في سياقه التقليدي القائم على التركيز العالي على سرد الحدث، وتعمل ياء النسب هنا (حكايتـ"ي") على نسج العلاقة السيرذاتية بين الحكاية والراوي، فضلاً على أن الجزء الثاني من عتبة العنوان تحيل على فضاء حواري مع الشخصية الثانية (رأس مقطوع)، على النحو الذي يؤدي فيه العنوان وظيفة حاسمة في توجيه القراءة باتجاه سياق سردي يفتقر إلى المفاجأة، ويحصر تجليات السرد في إطار هذه العلاقة وضمن تمظهراتها ونتائجها .
إلاّ أنه على الرغم من ارتباط السرد الروائي بالسرد السيرذاتي في مفاصل كثيرة من هذه الراوية، إلاّ أنها تنحو نحواً متخيلاً في صنع الحكاية وتمثيلها سردياً، فكل الحيثيات المرافقة للسرد الروائي تقع في منطقة السيرة الذاتية للمؤلّف/البطل (سالم)، غير أنّ عجائبية المروي تحيل الحكاية على المتخيّل المصنوع حتماً، لأنّ طبيعة الحكاية مما لا يمكن حدوثه في الواقع إلا على سبيل التخييل السردي .
ربما تثير هذه الرواية إشكالاً فيما يتعلّق بطبيعة الفضاء السردي الذي تحتاجه الحكاية وتسير فيه حيوات التشكيل السردي، هل حكاية الرأس المقطوع التي صاغت الخطاب السردي في هذا العمل تصلح لفضاء روائي أم أنها أقرب إلى فضاء التشكيل القصصي، وهو سؤال قد لا يمكن الإجابة عليه بسهولة، لكنه يطرح قيمة نقدية جدلية تصلح للحوار في سياق تحديد الفضاءات السردية وعلاقتها بجوهر الحكاية التي يعتمدها كل فضاء من حيث التنوع والتعدد والسعة والتوالد والإنتاج .
ثمة فرق تركيبي وفني وزمني ومكاني بين الفضاء القصصي المحدود نسبياً والفضاء الروائي الواسع، وغالباً ما يحصل تداخل بنائي بين الفضاءين لدى الكتّاب الذين يكتبون النوعين السرديين معاً، ففي حين لا تحتاج القصة إلى فضاء متعدد ومتّسع يفرز عدداً من الأزمنة والأمكنة ويفترض تنوعاً كبيراً في الشخصيات، بسبب طبيعة الفضاء الكتابي المحدود الذي تتميّز به، فإن الرواية تنفتح على فضاء متعدد وواسع في منظومات زمنية ومكانية وتنوّع كبير في عدد الشخصيات وأنماطها وأشكالها وقضاياها .
غير أنّ القاص/الروائي ولأسباب تتعلّق بهذا التداخل الحميم والتفاصيلي في الكتابة يقوده فضاء قصصي ما بفعل إغراءات معينة ليتحوّل قسراً إلى فضاء روائي، إذ نجد بأنه يحصل نوع من التمطيط والإفاضة والمبالغة في إعادة تركيب السعة الاستيعابية للزمن السردي والمكان السردي، وتأخذ الشخصيات على قلّتها بنوع من النمو القسري في ظلّ حاضنة سردية لا تمتلك حدود فضائي واسعة .
ونادراً ما يحصل العكس بأن يتحوّل فضاء روائي في الأصل إلى فضاء قصصي، لأن التحوّل نحو فضاء الرواية عملياً هو الأكثر إغراءً على أكثر من صعيد، ولاسيما الصعيد التداولي، على الرغم من أنّ بعض القصص ذات الشحنات السردية الخصبة ومراكز التنوير السردي الثريّة يمكن تطويرها أحياناً إلى روايات، إذا ما تمكّن الكاتب من تسخير أركان الفضاء الروائي لكي تتجلّى بقوّة في استيعاب خصب الشحنات السردية وثراء مناطق تنويرها، على النحو الذي يسمح لها بالتعبير عن مكنوناتها روائياً على صعيد مساحة الكتابة وآلياتها وتقاناتها ورؤياتها المتعددة .
تؤدي عتبة العنوان دوراً بالغ الأهمية في الارتفاع بقيمة العمل الروائي إلى درجة عالية من التماسك النصّي بين المتن الروائي والعتبات عموماً، غير أن العنوان يظلّ هو العتبة الأبرز في علاقتها الوطيدة بطبقات المتن النصّي وعلاقاته، لأنّ العنوان على نحو ما هو النصّ الملخِّص والمكثِّف والممثل للنص الطويل المغمور عميقاً في باطن المتن، وهنا تتكشّف طاقة اللعب عند الكاتب الروائي في ترتيب العلاقة السيميائية بين العنوان والمتن، إذ هناك مستويات متعددة لا حصر لها يمكن للروائي الاشتغال عليها في ترتيب هذه العلاقة وتموينها باستمرار بالكثير من عناصر ديمومتها وإشكاليتها وسبل إنتاجها، في السبيل إلى تخصيبها وتنويرها وإضاءتها من زوايا عديدة .
ثمة نموذج يقود إلى الوفاء المطلق للحادثة المأسورة في عتبة العنوان، وهو أقل أنواع العلاقة خصباً بين العنوان والمتن، لأنه كلما كان التملّص من ربقة هذا الوفاء المطلق ممكناً انعكس هذا إيجابياً على إثراء طاقة العلاقة على الإنتاج السيميائي، وهو ما يجعل فضاء العنونة فضاءً متحركاً ومتموّجاً وصانعاً،
تتشكّل الإحالات على السيرذاتي داخل الجوهر السردي في هذه الرواية بأشكال وصيغ وعلامات متنوعة، تنتظم كلّها على صعيد المرجعيات المعلنة في سياق سيرذاتي مصرّح به في هوامش الرواية وخارجا أيضاً، فثمة إحالة مباشرة أولى على رواية معروفة للروائي تتبدى في أحد الحوارات بين الراوي الذاتي والرأس المقطوع:

((كثيرة هي مصائب الجسد الملتصق بي، لا يتورّع عن خرق حقول الألغام من أجل شق يحرره من مياه عذابه الدائم، جبل على نار الرغبة فجأة، بعدما أدمن التعامل مع الكتب، حاولت أن أعيد بناء هيئته العصبية، أن أروّض سكناته وأمنحه طاقة كامنة تهيمن عليها أعصابه، كي يتخّذ شكلاً مناسباً لعصره، كان يمشي صوب كلّ مكتبة، يدفع نقوداً ويحمل ما يريد من كتب، كنت فرحاً كونني سأمرر الكلمات إلى مستودع مخّي، قبل أن أهيئ على إيقاع الخبب مستلزمات هيئته البشرية، أعني حيوانيته السادرة، كونه كان متمرداً لا يصغي لوخز الضمير الذي أشعل في ربوعه قناديل الحقيقة، ناشطاً ملهماً كان وهو يلقي بالكتب بعد تقليب منظّم لأوراقها، لكنه تبدّل فجأة بعدما التهم روايتك (قفل قلبي) ولم يعد يلازم غرفته)) (2)

إنّ رواية ((قفل قلبي)) التي يصفها الرأس المقطوع في حواره مع الراوي الذاتي بـ (روايتك)، تنقل الراوي الذاتي من منطقة الشخصية الروائية والراوي إلى منطقة المؤلّف، حيث تتطابق شخصية الراوي الذاتي والشخصية والمؤلف في شخصية واحدة، ففي إشارة يسجلها الروائي تحسين كرمياني في نهاية روايته هذه يقول ((هذه العناوين وردت ضمن سياق الرواية، تعود للكاتب 1 ـ قفل قلبي (رواية) صدرت عن دار فضاءات، عمّان، 2011))(3)، وهذا إنما يتمثل ميثاقاً سيرذاتياً واضحاً وصريحاً تمام الوضوح والصراحة، يجعل من الراوي الذاتي الرئيس في الرواية الذي يلعب دور شخصية (سالم) هو المؤلّف نفسه، على النحو الذي يؤكّد سيرذاتية الرواية وهو ما سيتأكد في بيانات وأسانيد وقرائن أخرى على هذا الصعيد .
ثم ما يلبث الراوي نفسه وهو يراجع مشكلة الرأس المقطوع الذي أصبح مصاحباً له في منزله ومتدخلاً في تفاصيل حياته، أن يقارن بين الحادثة الروائية التي نهضت عليها روايته هذه وقصة أخرى له مشابهة في أجوائها وحساسية موضوعها لهذه الرواية، مشيراً إلى ذلك بعبارة (كتبتها) التي تمثل قرينة أخرى لسيرذاتية الكتابة الروائية هنا:

((فهذا الرأس المتمرّد على الموت يخبئ لي كارثة، لا بدّ أنّ القضية تتعلّق بتلك القصة التي كتبتها (مزرعة الرؤوس)، هل كان رأساً منسياً، شيء بدأ يتحرّك فيّ، بدأ يثير قلقاً، فأنا حين كتبت تلك القصة استندت إلى حكاية نقلها لي صديق)) (4)

إنّ الإشارة المتمثلة في جملة (تلك القصة التي كتبتها (مزرعة الرؤوس)،) تجعلنا نذهب ثانية إلى الإشارة التي وضعها المؤلف في نهاية عمله الروائي، وتحت عنوان (إشارة:) يقول فيها (2ـ مزرعة الرؤوس (قصة قصيرة) نالت المرتبة الأولى في مسابقة ـ مركز النور ـ السويد ـ الدورة الثانية ـ 2008 ـ دورة عيسى حسن الياسري)(5)، وهو ما يؤكّد من جديد على سيرذاتية الراوي الذاتي والشخصية الرئيسة (سالم) في مطابقة ثلاثية بين الراوي والشخصية والمؤلف، على لانحو الذي يجعل من الرواية رواية سيرذاتية .
وفي السياق نفسه يشير الراوي الذاتي إلى قصة أخرى كان قد كتبها تتآلف مع ثيمة الرأس ذات الطابع الغرائبي (حكايتي مع رأس مقطوع/مزرعة الرؤوس/مزبلة الرؤوس البشرية) في الرواية والقصة السابقة:

((وهناك قصة أخرى (مزبلة الرؤوس البشرية) كتبتها تكملة لمشروعي القصصي الذي سلكته، أثارت أقلام بعض القرّاء، وذكرت لي فتاة أنها ما تزال تشكو من كوابيس ليلية لا ترحم منذ قرأت تلك القصة)) (6)

ويشير الكاتب في نهاية روايته أيضاً وفي فقرة (إشارة) إلى ((مزبلة الرؤوس البشرية قصة قصيرة))(7)، وهي منشورة باسم الكاتب تحسين كرمياني(8) على النحو الذي يؤكّد مرّة أخرى سيرذاتية التشكيل الروائي في هذه الرواية.
وتتمّ الإشارة أيضاً من طرف الراوي الذاتي إلى رواية أخرى منشورة للكاتب هي رواية (بعل الغجرية)(9) بقوله:

((بعثنا لك موفدنا وأخبرك بعد نشر روايتك الأخيرة (بعل الغجرية).)) (10)

إذ تحتشد هذه الراوية التي تنتمي إلى الكاتب تحسين كرمياني في المنظومة نفسها التي تحيل دائماً على المؤلف الحقيقي، وتجعل من الضمائر الثلاثة المعروفة في سياق السرد الروائي في رواية ((حكايتي مع رأس مقطوع)) ذاتاً واحدة تعود على المؤلف الحقيقي، وتدرج هذا العمل في إطار الرواية السيرذاتية .
ثم تبدأ بعد سلسلة من الإشارات الميدانية التي يتحدث فيها الراوي الذاتي في الرواية عن نسبة رواية ((حكايتي مع رأس مقطوع)) له، على النحو الذي يتطابق تماماً مع المؤلف الحقيقي خارج الرواية، وتذهب الإشارة الأولى إلى بداية تشكّل فكرة الرواية في ذهنه وحضور العنوان مباشرة من دون عناء كبير:

((وجدت رغبة الكتابة مطلباً لا يمكن تأجيله، لم أرغب في الكتابة مباشرة، سحبت دفتر ملاحظاتي وقلماً، بدأت وضع الخطوط الرئيسة لروايتي، كان العنوان حاضراً، لم يشكّل لديّ هاجساً، وجدت (حكايتي مع رأس مقطوع) عنواناً ملائماً لفكرة الرواية، رغم إثارته، قسّمت المقاطع، وضعت النهاية من غير تلكؤ، شعرت بنعاس حاد، وضعت الدفتر على الطاولة ونمت..!!)) (11)

وتتعلّق الإشارة الثانية بمرحلة الانتهاء من كتابة الرواية، وإشراك زوجته في القراءة والمراجعة والرأي الفني بالعمل، فضلاً على الإشارة التي تذهب إلى اختيار دار النشر التي ستنشر فيها الرواية وهي ((المؤسسة العربية للدراسات والنشر))، وفعلاً يشير نشر الرواية واقعياً إلى أنها نشرت في هذه الدار كما هو مثبّت في الصفحات الأولى من الرواية، بعد حوار بين الكاتب وزوجته اعتقدت فيه الزوجة ضمن تقديم رأي فني وموضوعي في الرواية أن الرواية قد تواجه صعوبات في عملية نشرها، على النحو الذي تتجّه النيّة إلى دار نشر معروفة مثل هذه الدار التي نشرت فيها أخيراً :

((أنهيت الرواية، قرأتها مرة واحدة قبل عرضها على سكرتيرتي الأدبية زوجتي صاحبة الذوق الرفيع والملاحظات الدقيقة، فرحت زوجتي وشاركتني في مراجعة لغتها، وجدتها تبكي فرحاً .. قلت لها:
ـ أكره الدموع .
ـ أنا أبكي على (الرأس المقطوع) الذي كتبت عنه .
ـ لم تكن فكرة مدروسة ومختمرة في بالي، بل فكرة مباغتة بترت رغبتي في تكملة روايتي (فواكه قلبي) .
ـ رأس يستحق البكاء .
ـ لا أكتمك السرّ، أنا أيضاً بكيت من أجله .
ـ ليته كان رأساً حقيقياً لنعمت وقتاً بحواراته .
لم أحر جواباً ولم أجد كلاماً يجنبني السقوط في متاهة، قلت لها:
ـ سأدفع الرواية للمطبعة .
ـ لا أعتقد أنهم سيطبعونها .
ـ سأطبعها في دار نشر عربية .
ـ أبحث عن دار معروفة .
ـ ربما سأختار (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) .
ـ أوافقك على الفكرة، إنها جهة تمتلك صيتاً وتاريخاً طويلاً.
عشنا لحظة سعيدة تكللت بفراش دافئ، كأننا في ليلة عرس ..!!)) (12)

وتتعزز الإشارات الخاصة بالرواية ونسبتها إلى المؤلف الحقيقي بالإشارة إلى الاحتفال بنجاح الرواية والإشارة إلى روايتين أخريين للمؤلف الحقيقي، تندرج أيضاً في هذا السياق الذي حظي بقرائن ربما تزيد عن حاجة التأكيد لاندماج الضمائر الثلاثة (ضمير الراوي الذاتي وضمير الشخصية الرئيسة وضمير الكاتب الحقيقي):

((في اليوم التالي أخذت عائلتي في جولة سياحية نحو الشمال، كنا سعداء بالرواية والنجاح الذي لازمني لتكملتها خلاف الكثير من الروايات نصف المنجزة، بعد يومين عدنا، واضعاً في البال روايتي (فواكه قلبي)، وربما روايتي (النشيد الأخير للقلب) أو الروايات الأخر، في حماسة منقطعة النظير لتكملتها)) (13)

وتنتهي الإشارات عند نقطة حرجة تدمج ما بين قصة الرأس المقطوع الذي تحوّل إلى رواية ورأس الدمية التي سبق لـ (سالم) أن اشتراها، لكنّ العلاقة الرمزية بين الرأسين تحيل على الفضاء المشتبك بين عالم الرواية المتخيّل وعالم الواقع المعيش، بعد أن يتحوّل الاحتفال بالرواية إلى مناخ شعبي يصبح فيه الروائي/الراوي الذاتي نجماً في مدينته، على النحو الذي يعكس قيمته وأهميته وقيمة الرواية وأهميتها:

((استدرت وبدأت أسلك طريق العودة وجدت على جانبي الشارع الرئيس للبلدة الناس يقفون كأنهم في انتظار حدث أو زائر كبير، بعضهم راح يبتسم بوجهي، البعض راح يحييني بكفيه، لمحت من بين الجموع المحتشدة غلاف روايتي (حكايتي مع رأس مقطوع) تتسّع لتشمل المدى، وصلت البيت كانت زوجتي خائفة، هرعت واحتضنتني، بكيت معها قالت:
ـ أراك تبكي ..!!
تخلصت من دموعي، سحبت نفسي وصحت:
ـ اليوم بدأت معالم الحرية تولد في بلدتنا (جلبلاء) ..!!
دخلنا البيت، وجدت طفلتي الصغيرة تضمّ رأسها بين كفيها، غاضبة من شيء ما، قلت:
ـ ما بها صغيرتنا؟
صاحت زوجتي:
ـ آه تذكرت، قل لي يا (سالم)، أين رأس الدمية؟
ـ رأس الدمية ..!!
ألقيت نظرة إلى زاوية الصالة، وجدت جسد الدمية شامخاً كعادته، لكنه بلا رأس، فقدت صلتي بالأشياء، كانت عيون زوجتي تمتلئ بالنيران، تفاقم تعبي، لم أمتلك وسيلة أخرى، صعدت إلى غرفتي ركضاً، بينما زوجتي بدأت تصرخ:
ـ أين أخذت رأس الدمية يا سالم ..!!)) (14)

تنتهي هذه الإشارة إلى أن ما حدث للدمية يشبه ما حدث لصاحب الرأس المقطوع الذي انفصل رأسه عن جسده بفعل فاعل، وسعى الرأس المقطوع طيلة حضوره في فضاء الشخصية وهيمنته على زمنها ومكانها وحراكها السردي، أن يقنعه باستمرارية حياته ومناقشة مشكلته من أجل فضح ما يحصل في الواقع فعلاً من فصل الرأس عن الجسد فعلاً ورمزاً، وتداخل ذلك مع الدمية وحساسية الشخصية منها منذ البداية حتى وجدها مقطوعة الرأس في نهاية الرواية، وما يفرزه ذلك من معانٍ ودلالات موضوعية ورمزية وحلمية .
تخضع الرواية عموماً إلى قصدية إظهار (أنا) المؤلّف عبر (أنا) الراوي والهيمنة عليه، وربما كانت عملية الإسهاب في حشد الإحالات السيرذاتية وتكثيفها وتركيزها على هذا النحو المبالغ فيه أحياناً يرسم بدقّة هذه القصدية المباشرة ويشير إليها، على النحو الذي يُدخلها تماماً في نطاق الرواية السيرذاتية، وبما أنّ الحكاية التي هيمنت على فضاء السرد السيرذاتي الروائي مما يدخل في نطاق الغرائبية أو الحلمية، فإنّنا اصطلحنا على هذا النوع من السرد الروائي بالرواية السيرذاتية المتخيّلبة .
ثمة ولاء كبير وواسع للحكاية فآليات عمل الرواية وحركة الأفعال السردية فيها تتركز تركزاً كبيراً على بؤرة الحكاية (الرأس المقطوع)، لذا فإن العلاقة بين عتبة العنوان وطبقات المتن السردي علاقة وثيقة جداً ودائمة لا تتوقف حتى نهاية الرواية، وتغلّب عنصر الحكاية على عناصر التشكيل الأخرى في البنية العامة للرواية لم يكن دائماً في صالح الرواية فنياً وجمالياً، لأن الانتصار للحكي على هذا النحو يوحي بقرب التقانات السردية من عالم الحكواتي وآفاق السرد الشفاهي، ولا يفيد كثيراً من إيقاع السرد الكتابي وتحولاته ومنجزاته وفتوحاته، بالرغم من الرواية سعت في هذا السبيل إلى الاقتراب من هذه التحولات والمنجزات والفتوحات قدر تعلّق الأمر بفضاء هذه الرواية وحياتها السردية المختلفة .
إنّ هذه الهيمنة المطلقة للحكاية على الفضاء العام للتشكيل السردي في الرواية جعل من الحكي أقل رتبة من السرد، إذ إنّ الإفاضة الواسعة في الحكي على حساب السرد في تقاناته الكتابية المعروفة من شأنه أن يجعل الواحات الحكائية في مساحة واسعة من الرواية فقيرة من شحنات السرد الغنية والثرية، ولعلّ غنى شحنات السرد وثراءها في العمل الروائي هو الذي يتيح فرصة أكبر لتجلّي عناصر السرد وتقاناته ومكوناته وآلياته كي تعمل بأعلى طاقة ممكنة، على النحو الذي ينتج عملاً روائياً ناضجاً وحديثاً .
الخصيصة العجائبية التي تسرّبت إلى داخل الفضاء الواقعي السيرذاتي خلقت إشكالاً بنائياً بين الواقية السيرذاتية التي يلحّ عليها المؤلف الحقيقي بقوّة، والعجائبية التي عليها أن تبتعد كثيراً عن فضاء الواقع السردي السيرذاتي كي تنعم بتفرّدها وقوتها، وتكون قادرة على إنتاج نموذجها الروائي بحرية ويسر ورحابة وتندرج اصطلاحياً في سياق السرد الروائي العجائبي بتقاناته وآليات عمله المكرّسة ضمن خصائص وصفات محددة .
بمعنى أن الصنعة الروائية اعتمدت هنا على مزج الحكاية بآلياتها التعببيرية البسيطة، بالعجائبية التي تعتمد على آليات تعبيرية معقّدة بعض الشيء، أما اللغة الروائية التي قام عليها نسيج السرد فجاءت عفوية حكائية هدفها الإيصال والإبلاغ وحراسة الحادثة السردية، بحيث ظلّ الولاء للحكاية ماثلاً من أول الرواية حتى آخرها .
وربما يمكن ملاحظة أن الكاتب لم يشتغل على تثمير المكان (جلبلاء) وهي تتصادى مع (جلولاء) مسقط رأسه، لأنها ظلّت في الرواية مدينة لا تختلف عن الأصل بالرغم من تغيير اسمها روائياً، وربما كان من الممكن استثمار تغيير الاسم على هذا النحو لضخّه بالطاقة العجائبية التي اعتمدتها فكرة الرواية، فالعمل على المكان المؤسطر الذي له جذر واقعي مثل (جلبلاء) بوسعه أن يؤسس لرؤية مكانية جديدة، تفيد من الطاقة الإيقاعية للاسم المكوّن من مقطعين (جلب/لاء) وتوظيفه لخلق فضاءات جديدة على هذا الصعيد، فضلاً على استثمار الطاقات المكانية الأخرى في الاسم بتشغيل المتخيّل لرفده بما يلزم من إمكانات تحقق للاسم الأسطرة المطلوبة على المستويات كافة .
لعلّ من الملاحظ على فضاء العمل الروائي في الرواية ضمن إطار الصنعة عدم استثمار لحظات التنوير على النحو الذي يجب، وهذا الاستثمار مهم جداً لنجاح أي عمل روائي من هذا الطراز، إذ مرّت الكثير من لحظات التنوير في اللقاء بالرأس المقطوع، ونقله إلى المنزل، وشكوك الزوجة به، والحوارات التي جرت بين الرأس والراوي الذاتي، والحالة المكانية للمنزل حين أصبح الرأس المقطوع أحد سكانه وغير ذلك من اللحظات التنويرية المختلفة .
عكست الرواية في طبقة مركزية من طبقاتها رؤية إيديولوجية تنهض على محاكاة الواقع ونقده ومعالجته، فقضية الرأس المقطوع وما أنتجه من حوارات مع الراوي الذاتي/المؤلف الحقيقي لم تكن بعيدة عمّا يجري في الخارج، بل على العكس كان الخارج الاجتماعي والسياسي والثقافي يمثل جوهر الرؤية التي سعت الرواية إلى التركيز عليها وتعويمها، وربما كانت هذه الرؤية قد أثّرت على عدم استثمار طاقات العناصر السردية الأخرى المتعلّقة بالصنعة، لأنها ضغطت على الخارج السردي أكثر من حفرها في الداخل السردي .

الهوامش والإحالات:
(1) حكايتي مع رأس مقطوع، تحسين كرمياني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011 ./(2) الرواية: 70 ./(3) الرواية: 135 ./ (4) الرواية: 135 .
(5) نشرت القصة في مجموعة تحسين كرمياني (ليسو رجالاً)، دار تموز رند للنشر والتوزيع، ط1، دمشق، 2011: 5 ـ 26./(6) الرواية: 106 ./(7) الرواية: 135 ./(8) نشرت القصة في موقع الحوار المتمدن، الشبكة العالمية، الإنترنت ./(9) الرواية: 135 ./(10) الرواية: 115 .
(10) الرواية: 121 ./(11) الرواية: 125 ـ 126 ./(12) الرواية: 128 ./(13) الرواية: