.
المقاله تحت باب في السياسة في
19/05/2010 06:00 AM GMT
شهد العراقُ، في تأريخه الحديث، موجات عدة من الهجرة والتهجير القسريين، كانت ترتبط، عادة، بتحولات أو مفاصل سياسية كبرى، من قبيل انقلابي 1958 و1963، اللذين أعقبتهما هجرة لنخب سياسية وأكاديمية وفكرية وصناعية، محسوبة على الحقبة الملكية في الحالة الأولى، وعلى الحركة اليسارية في الحالة الثانية. غير أن موجات الهجرة القسرية الكبرى التي شهدها العراق بدأت مع نهاية السبعينيات من القرن العشرين، إذ شهدت البلاد ـ منذ ذلك التأريخ ـ ثلاث موجات، تختلف في دوافعها وتفصيلاتها، وإن كانت ذات محتوى سياسي عموماً. الموجة الأولى ترجع إلى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، فقد غادرت البلاد أعداد كبيرة (لا نستطيع أن نحددها بالضبط) من عناصر الأحزاب اليسارية والإسلامية، التي كانت تتعرض إلى قمع شديد من قبل نظام البعث. وجزئيا، يشكل الشباب الذين غادروا البلاد هربا من المشاركة والتجنيد القسريين في الحرب العراقية الإيرانية جزءاً من هذه الموجة، التي تشمل ـ جزئياً أيضاً ـ آلاف العوائل العراقية من ذات الأصول الإيرانية، التي رحّلتها الحكومةُ العراقية بالقوة إلى إيران. وإذا كانت هذه الحملات، التي عُرفت باسم (تسفير التبعية الإيرانية)، قد بدأت في أواخر الستينيات، فإنها تكثّفت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. أما الموجة الثانية فبدأت غداة انتهاء حرب الخليج الثانية سنة 1991، وامتدت إلى سنة 2003. وهي تشمل الآلاف الذين غادروا البلاد عقب القمع الذي تعرضت له ما بات يُعرَف في الأدبيات العراقية الراهنة (انتفاضة آذار 1991). هؤلاء غادروا البلاد إلى جهتين على نحو رئيس: إيران، والسعودية، وقد جرت إعادة توطين كثير منهم في أوربا وأستراليا والولايات المتحدة. وتشمل هذه الموجةُ، أيضاً، الأعداد التي غادرت البلاد بسبب، مباشر أو غير مباشر، من الظروف الاقتصادية الصعبة التي عاشتها البلاد إثر العقوبات الدولية التي فُرضت على العراق سنة 1990 إثر غزو قواته للكويت. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة عن أعداد اللاجئين العراقيين في هذه الحقبة، ثمة تقديرات عامة بأنهم يبلغون نحو مليوني شخص. أما الموجة الثالثة فبدأت بعد سنة 2003، بشكل محدود أولا، حين غادرت البلاد أعداد من الطبقة السياسية والحزبية والبيروقراطية لنظام ما قبل 2003 خشية الانتقام. ولكن الأمر اشتد في سنتي 2006 و2007، حين شهدت البلاد نزاعاً أهلياً عنيفاً بعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين في مدينة سامراء في شباط 2006. لقد شهدت هذه الموجةُ الأخيرة، إلى جانب الهجرة القسرية إلى خارج البلاد، تهجيراً ونزوحاً داخليين، لعله الأول في تأريخ البلاد، إذا استثنينا ما قام به نظامُ البعث في النصف الثاني من السبعينيات وأوائل الثمانينيات من ترحيل للمئات من عوائل المتمردين الأكراد من شمال البلاد وإجبارهم على السكن في مناطق محددة في الجنوب وتقييد حركتهم. لقد كان النزوح الداخلي الذي شهده العراق سنتي 2006 و2007 جزءاً من عملية تطهير ديني وطائفي، وهو أحد المظاهر التقليدية للحروب الأهلية. وقد قامت بعمليات التهجير ميليشيات دينية وطائفية، فضلاً عن مؤسسات الدولة الأمنية، وهو ما يشير إلى أن الدولة كانت طرفاً في الصراع، أو لأقل: إنها استُعملت من أطراف الصراع. وفي العموم، كان ـ دائماً ـ ثمة صراع على الدولة، التي يبدو أنها فشلت في أداء وظيفتها التأريخية الأساسية، وهي بناء الأمة وتحقيق الاندماج الوطني، ومن ثم، أصبحت الدولةُ موقعاً تُدار من خلاله سياسات الهيمنة الطائفية، في نزاع طويل، وخفي، وصامت. لقد تكثّفت عمليةُ التهجير سنتي 2006 و2007، على نحو ما قلت. غير أن أول قصص التهجير ترجع إلى سنة 2004. بمعنى أن تفجير سامراء وما حدث بعده لم يكن هو السبب الذي أدّى إلى النزاع الأهلي في العراق، بل إنه تطور لانقسام مجتمعي، بدأ يظهر أكثر فأكثر مع تطور الاختلاف والتمايز في الكيفية التي فهمت وتعاملت بها الجماعاتُ العراقية مع إسقاط نظام صدّام حسين على يد القوات الأمريكية. لقد كان هذا الانقسامُ المجتمعي تعبيراً عن فشل الدولة في عملية بناء الأمة، وعن صراع على السلطة أطلقه سقوط نظام صدّام، وعن اختلال في توازن القوى الجديد بين الجماعات العراقية. وقد كانت ديناميكيات الصراع تقود إلى محاولة العزل القائم على أساس الهوية الدينية والطائفية، الأمر الذي يتجسّد في التطهير. وعلى الرغم من الاختلاف في تقدير حجم الظاهرة وكمها وأعداد النازحين واللاجئين العراقيين، بين الجهات العراقية، الرسمية وغير الرسمية، والجهات الأجنبية، على تنوعها، يبدو أن ثمة شبه اتفاق على أن أعلى ما وصلت إليه أرقام النازحين واللاجئين العراقيين تمثلت في أواخر سنة 2007. تحدثت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR، في تقريرها الخاص بحالة العراق في تشرين الأول 2006، عن مليون ونصف المليون نازح في داخل العراق. ووصل الرقم، بحسب تقرير (مركز مراقبة النزوح الداخلي IDMC) إلى 7,1 مليون نازح. أما العراقيون اللاجئون إلى خارج البلاد فليست هناك إحصاءات دقيقة لأعدادهم، لا من الجهات الرسمية العراقية، ولا من الجهات المسؤولة في البلدان المستقبِلة لهم من دول الجوار، فلم تُحمَل الأرقام التي قدّمتها هذه الدول على محمل الجد، لأنها فُهمت بأنها أرقام مسيّسة بسبب طبيعة التعاطي السياسي الذي تخوضه هذه الدول مع الحكومة العراقية من جهة، والجهات الدولية من جهة ثانية. أما المنظمات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين فقد قدّمت أرقاما تقديرية عن أعداد اللاجئين العراقيين، إذ قدّرت UNHCR، في بداية 2007، عدد اللاجئين العراقيين بنحو مليونين. وفي آب 2007، قدّر (مركز دراسات اللاجئين)، التابع لجامعة أكسفورد، عددَ اللاجئين العراقيين بنحو مليون في الأردن، ومليون ونصف المليون في سوريا. وهذان البلدان يحتضنان الجزء الأكبر من اللاجئين العراقيين، على الرغم من أنهما لا يصفان العراقيين الموجودين على أراضيهما، والهاربين من الصراع الأهلي، بأنهم (لاجئون)، لأنهما لم يوقعا على (اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين) لسنة 1951، ولا على البروتوكول الخاص بوضع اللاجئين، الذي أقره المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة سنة 1967، كما أنها لا تتبنى تعريف UNHCR لـ (اللاجئ) بأنه "الشخص الذي فر من بلده خشية تعرضه للاضطهاد بسبب عرقه، أو دينه، أو جنسيته، أو رأيه السياسي، أو انتمائه، إلى فئة اجتماعية معينة، ولا يستطيع أو لا يرغب في العودة". وفي الخلاصة، ومع نهاية 2007 أصبح من بين 6 عراقيين، ثمة عراقي نازح أو لاجئ. تركزت ظاهرة اللجوء والنزوح في المحافظات التي تركز فيها النزاعُ الأهلي، ولا سيما بغداد، وديالى، وصلاح الدين، بمعنى أنها لم تكن بدرجة واحدة في سائر محافظات العراق. والأكثر، أن (تحويل مكان الإقامة لأسباب فقدان الأمن) قد تحول إلى فكرة لدى أبناء هذه المحافظات الثلاث، على نحو خاص. وهو ما أسميه (النزوح كفكرة سايكولوجية)، قبل أن يكون نزوحا متحققا. يكشف استطلاع للرأي نُشرت نتائجه ضمن (التقرير الوطني لحال التنمية البشرية في العراق)، الذي أعدته وزارة التخطيط وبيت الحكمة ونُشر سنة 2009، أن 24 % ممن استُطلعت آراؤهم يفكرون بالانتقال إلى مكان آخر داخل العراق. المحافظة الأعلى في ذلك هي ديالى، إذ تبلغ نسبة من يفكرون بالانتقال إلى مكان آخر داخل العراق ممن استُطلعت آراؤهم 60 %. وتبلغ النسبة في محافظة صلاح الدين 57 %، وفي بغداد 47 %. في حين تقل النسبة إلى 4,0 % في محافظة ذي قار، و9,0 % في محافظة ميسان. وتزداد نسب التفكير بالانتقال إلى خارج العراق عن نسب التفكير بالانتقال إلى داخل العراق، فقد بلغت نحو 30 %، كانت صلاح الدين هي المحافظة الأعلى، إذ بلغت نسبة من يفكرون بالانتقال إلى خارج العراق ممن استُطلعت آراؤهم 58 %. وقد بلغت النسبة في بغداد 52 %، وفي ديالى 49 %. لقد حدث تحول جذري، على ما أتصور، في ظاهرة النزوح واللجوء في العراق منذ سنة 2008. وهو ما سأحاول أن أشرحه في مقال لاحق.
|