المقاله تحت باب قصة قصيرة في
23/04/2014 06:00 AM GMT
سألني بماذا تفكر هذه الأيام؟ إستغربت لسؤاله كأني أسمعه للمرة الأولى، وكان بودي أن أقول له إنني أفكر بكتابة قصة عن رجل يسافر كثيراً بين البصرة وبغداد، منذ سنوات وسفره مستمر بحكم عمله، غالباً ما يسافر مرّة كل أسبوع وفي أسابيع متباعدة يسافر مرتين، الأولى منهما عادية لا جديد فيها أما الثانية فهي الإستثنائية إذ تحدث بشكل فوري إستجابة لاتصال هاتفي من بغداد، خلالها يرى الأشياء على جانبي الطريق غريبة نوعا ما، وإن لم تمض على رؤيته الأخيرة لها سوى أيام قلائل، يعلل ذلك بانشغاله بالتفكير بالإتصال الهاتفي وبرغبته بالوصول في أقصر وقت ممكن، لكنه في آخر سفرة له وقبل الدخول إلى بغداد بكيلومترات قليلة يُذبح على جانب الطريق، هكذا بلا سبب أو بسبب بعيد بالنسبة له وغير معقول، يرى نفسه في اللحظة التي يتم فيها ذلك، وتلك مفارقة القصة فهو يواصل رؤيته حتى بعد أن يذهب القتلة مخلّفين جثته بين جثث كان قبل وقت يتحدث مع أصحابها وهم يستمعون، من دون إهتمام يُذكر، لأغنيات وأخبار وتعليقات من راديو السيارة. كانت الجثث مفصولة الرؤوس، رؤوس بعضها مفتوحة الأعين، وقد بدأت أعينها تكتسي بطبقة من سائل كثيف البياض، فتح عينيه وقد تصاعد في فمه طعم التراب المالح، وضع يديه على الأرض ونهض وفي رأسه غير المفصول عن جسده ما زالت الأصوات تتردد مختلطة بشخير الأجساد وهي تُذبح، كان يؤلمه أن يمرَّ المسافرون بعد ساعات على المكان ويقطعون أحاديثهم لينظروا من نوافذ السيارات وقد تصاعدت أنفاسهم في جلبة البرامج الإذاعية، وربما أعاد بعضهم حكاية الواقعة، يضيفون إليها قليلاً أو يحذفون منها، وقد يحكون واقعة قتل أخرى لاتشبه واقعتهم بشيء.. ما كان يحزنه هو أن يرى نفسه ميتاً في حكايات كثيرة تختلف كل منها عن الأخرى حتى لكأنه يموت في كل حكاية ميتة جديدة. نفض التراب عن ثيابه ثم مسح وجهه ورقبته وبدأ يمشي مندهشاً لخفة جسده وإتساع خطواته، كان يُحس جسده طليقاً وقد خفَّ ألمه، لم يكن يلمس الأرض بقدمه حتى يندفع إلى أمام فيرى السيارات تمرُّ خاطفة من حوله يفتح ركابها أفواههم غير مصدقين وهم يرونه يواصل المشي في منتصف الطريق، إلى يساره سيارات البصرة المتجهة إلى بغداد، والى يمينه سيارات بغداد النازلة إلى البصرة، يُطلق بعض السائقين منبهات سياراتهم ويزيدون من سرعاتها محاولين مجاراة خطواته مما يزيد من حماس الركاب فيُنزلون زجاج النوافذ وينادون، لكنه لم يكن يعبأ بما يحدث، كان يفكر أن بإمكانه قطع طريق الساعات الست بأقل من ساعة واحدة وربما أقل من ذلك إذا ما حاول أن يمدَّ خطواته أو يهرول على نحو خفيف ليصل إلى المنزل، سيجد الباب موارباً وستكون زوجته في المطبخ، يسمع طقطقة القدور وهي تفتحها لتتأكد من نضج الطعام وتعيد إغلاقها بعد أن تدق، كعادتها، على حافة كل قدر بالملعقة، تنادي: هل عدت يا ماما، معتقدة أنه الصغير وقد عاد من المدرسة، يتجه مباشرة إلى غرفة النوم تاركاً سؤالها معلقاً في فضاء المطبخ، وفي الغرفة يخلع حذاءه ثم يفتح أزرار قميصه ويرميه على الأرض ليتمدد على السرير وقد بدا القطع أسفل رقبته أقرب في دكنته إلى السواد. ستدخل زوجته الغرفة وما زالت رائحة الطعام عالقة بثيابها، تنظر نحوه فيفزعها أنه يحدّق بإتجاه السقف وقد بدأت عيناه تكتسيان بطبقة من سائل كثيف البياض..
|