المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
15/06/2013 06:00 AM GMT
عندما قرأ السياب شعره امام الجمهور هذه المقالة عن الشاعر الرائد بدر شاكر السياب، تحاول رسم بعض الذكريات الشخصية واللقطات التي سجلتها الذاكرة عنه في أوقات وأماكن مختلفة، وهي انطباعات كانت في الأصل مجموعة أفكار في أوراق مبعثرة وقصاصات من ذكريات يومية، سجلتها قبل أكثر من خمسين عاماً، لتكون جزءاً من مادة أدبية لسيرة ذاتية، ظلت مؤجلة سنة بعد أخرى، أنوي تدوينها عن طفولتي وحياتي مع الأدب والأدباء، والناس والأصدقاء الذين عرفتهم في أماكن شتى من العالم. وقد حرصت أن أنقل معي أينما ذهبت، تلك المفكرات اليومية المسجلة في جذاذات، أصبحت صفراء ومهترئة لطول العهد، لأنها تشكل المادة الأساسية المدونة عن ذكريات الماضي. أما القسم الأكبر منها فهو مسجل في الذاكرة، التي رغم ما أصابها من الوهن والتشتت بمرور السنين وتقدم العمر، ظلت لحسن الحظ محتفظة بشيء من وهجها وقدرتها على تخزين ماضي الأحداث والأسماء وتفاصيل المشاهد وأماكن الذكريات. ولهذا وبعد أكثر من نصف قرن من الزمان، فأنا أعتذر للقراء، إن وقع في هذه الذكريات شيء من الالتباس في الأسماء أو التواريخ أو تسلسل الأحداث، لأنني في الحقيقة أكتب من الذاكرة عن عالم بعيد منسي لا يمكن إستعادته، وعن حياة عبرت وإختفت، ولم يبق لها وجود إلا في الذاكرة المتعبة. أكتب عن أناس تعرفت عليهم في ظروف عاصفة، وجمعتني مع بعضهم صداقة حميمة، شكلت بمرور السنين جزءاً من حياتي وذكرياتي، بعضهم غيبهم الموت، وبعضهم لا أعرف أين هم الآن، وأين قذفت بهم الأيام، مع حسرة دائمة وعميقة في القلب، وأمنية شبه مستحيلة في أن أراهم ثانية وأستعيد معهم ذكرى تلك الأيام .. ألا سقياً لتلك الأيام، ورعياً لذاك الزمن الذي لن يعود . هذه المقالة في تذكر السياب، أحاول أن أسجل فيها ما بقي منه في ذاكرتي منذ لقائي الأول به في بغداد، ولقائي الأخير به في الكويت.ولابد من الإشارة هنا إلى أن أهم محفزاتي على كتابة هذه الذكريات الشخصية، هو إلحاح وتشجيع بعض أصدقائي الأدباء، وعلى رأسهم الشاعر أمجد ناصر الذي ما فتئ ، كلما تذكرنا السياب يسألني: متى يحين وقت الكتابة؟ فكان دائماً يؤكد على ضرورة كتابة هذه الشهادة التاريخية ونشرها قبل فوات الأوان، نظراً لصلتها الأدبية والتاريخية بمرحلة شعرية مهمة في العراق، وبحياة السياب خاصة ولا سيما أيامه الأخيرة ورحيله بعيداً عن وطنه. وللأمانة التاريخية لا بد أن أشير إلى أني لست من جيل السياب، مع أن صديقي الشاعر الكبير بلند الحيدري قربني إليه (بسخاء ومحبة) حين كتب في جريدة ‘المساء’ الجزائرية ‘عام 1984 قائلاً: (على مرمى ذراع من تجربة بدر شاكر السياب وزملائه في الحداثة الشعرية العربية، غب الأربعينيات من هذا القرن، ولدت قصيدة الشاعر العراقي ، فكان لها أن سعت سعي قصائدهم في تعزيز وتوطيد مصطلح شعري جديد، يخرج بجديدهم لغةً ومضموناً) .. والحقيقة أن تجربتي الشعرية أبعد زمناً من مرمى تلك الذراع، لأنني من جيل الستينات (برغم اعتراضي على استعمال هذا المصطلح) وإنها لم تكن إلا امتداداً طبيعياً لما تعلمناه من تلك المدرسة الشعرية الرائدة، التي مثلها السياب ونازك وبلند والبياتي ولميعة عباس عمارة . كانت الأقدار وظروف الشعر هي التي قادتني إلى التعرف على السياب لأول مرة في دار المعلمين العالية وأنا طالب بجامعة بغداد عام 1957، والأقدار نفسها هي التي ساقتني ثانية لكي أراه ولآخر مرة وأشهد أيامه الأخيرة وموته في الكويت، وأشاهده راقداً في المستشفى الأميري وهو مصاب بأمراض شتى حار بعلاجها الأطباء، وهو لا قِبل لجسمه النحيل الضعيف بتحملها. فقد وصل شبحاً وهيكلاً عظمياً لا يقوى على المشي ولا يتحرك إلا بمشقة، فأدخل المستشفى على الفور. ربما كنت الوحيد من الأدباء العراقيين- باستثناء الشاعر العراقي الكويتي محمد الفايزالذي شهد مأساة موته وأدرك عذابه ومحنته في غربته.. كان ذلك في أواخر عام 1957 حين دعونا السياب، أنا وزملائي في اللجنة الثقافية بدار المعلمين العالية، لإقامة أمسية شعرية، ونشرنا إعلاناً في الصحف العراقية عنها، لتكون دعوة عامة للجمهور. لبى السياب الدعوة بكل ترحاب، وقال إنها فرصة له لتذكر أيامه في الكلية. جاء بصحبته الشاعر محمود الريفي وصديقه الشاعر راضي مهدي السعيد، صاحب ديوان ‘رياح الدروب’ الذي كان صادراً لتوه بمقدمة لبدر شاكر السياب. إستقبلناه بباب الكلية مرحبين أنا وأعضاء اللجنة الثقافية وفي مقدمتهم حميد الهيتي (المذيع الذي صار بعد ذلك عميداً لكلية الآداب بالجامعة المستنصرية) إضافة الى عدد من المعجبين من الطلبة والطالبات. كان فرحاً بهذا الاستقبال، وبدا عليه شيء من الخجل والارتباك، ربما لأنه لم يكن يتوقع هذه الحفاوة من الطلبة ومحبي الشعر من الجيل الجديد. وحين قدمني له صديقي الشاعر راضي مهدي السعيد، ذاكراً إسمي، قال السياب: ‘أنا أعرفك’ فدهشت وقلت له: ‘كيف تعرفني يا أستاذ بدر’؟ قال:’أعرفك من خلال الريبورتاج الذي نشرته في الأسبوع الماضي جريدة ‘البلاد’عن شعراء دار المعلمين العالية. ثم أثنى على القصائد المختارة. تذكرت ساعتها ذلك التحقيق الأدبي الذي أعده الكاتب والصحافي أحمد فياض المفرجي لجريدة ‘البلاد’ التي كان يصدرها (رفائيل بطي)عن الشعراء الشباب في ‘العالية’ مع صور ونماذج من القصائد.ثم سألني: هل كنت تنشر في جريدة البلاد؟ قلت: نعم، بعض القصائد أرسلتها من ‘الناصرية’وأنا في الثانوية. قال: أتذكرك أيضاً من تلك القصائد. فأيقنت أن السياب كان متابعاً لما يدور في الصحافة الأدبية، لا يفوته شيء من أخبارها وما تنشره من شعر وأدب، وخاصة ما يتعلق منها بالنشاط الثقافي في دار المعلمين العالية آنذاك، فهي مكان ذكرياته وبداية تفتحه الأدبي. ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اعتلى السياب فيها المنصة، مرتدياً بدلة رمادية فضفاضة، لم تكن مناسبة أبداً لجسمه النحيل، أخرج مجموعة أوراق من جيبه الأيمن الكبير، بدأ يرتب صفحاتها. وبدلاً من أن يضعها فوق الطاولة الخشبية أمامه ويقرأ بارتياح، فضل أن يمسك الأوراق بيديه تاركاً الطاولة، متقدماً قليلاً على خشبة المسرح وبدأ يقرأ وهو واقف، رغم الألم الذي كان يتعب ركبتيه، والذي تطور لاحقاً بسبب إصابته بالسكري. ألقى السياب مجموعة من قصائده، وعلى رأسها قصيدته المشهورة عن بورسعيد، وهي آخر قصائده الطويلة التي كتبها عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر : من أيما رئةٍ، من أي قيثار تنهل أشعاري وكان من بين أبياتها بيت فيه مديح لجمال عبدالناصر: ‘يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبدالناصر القدرُ ‘ حيث كان عبدالناصر يومها في أوج مجده وشهرته، بطلاً للقومية العربية وسط احتدام الشعور الوطني في العالم العربي، ونهوض الحركات التحررية ضد الإستعمار وخاصة في العراق، أيام حلف بغداد، ونوري السعيد، وتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمت كافة الأحزاب الوطنية العراقية.. لاحظت أن السياب كان يتحرك حول المنصة ويمشي بصعوبة ويغالب ألماً في رجليه، ولكنه كان متماسكاً وواثقاً غير متهيب من الجمهور، يقرأ قصائده بانفعال صادق في قاعة مكتظة بالحاضرين والمدعوين ومحبي الشعر. كان صوته واهناً ولكنه عميق تحس فيه حرارة المشاعر النابعة من صميم الوجدان. استمر يقرأ بطريقة مسرحية، ربما بدت غريبة وغير مألوفة للحاضرين الذين لم يعتادوا على رؤية شاعر يتمايل يميناً وشمالاً .. يروح ويجيء وسط خشبة المسرح، يمشي ويؤشر بيديه الممدودتين، رافعاً رأسه يديره من جهة الى أخرى، كان يبدو كما لو كان هو وشعره فقط، ناسياً الجمهور أو كأنه خارج المكان والزمان. لاحظت بعض الطلبة يتهامسون مستغربين،ولكنهم كانوا يحسون بأنهم يسمعون شعراً عظيماً وأن داخل هذا الكيان الناحل الذي أمامهم لا بد أن تكون موهبة شعرية كبيرة. ذكرني منظر السياب هذا، بمنظر الشاعر الروسي المشاكس الشهير ‘يوجين يفتشينكو’ وهو يلقي قصائده بجامعة الجزائر عام 1981، حين جاء بدعوة من اتحاد الكتاب الجزائريين، سألته يومها: ‘لماذا تستخدم هذه الطريقة التمثيلية الغريبة في الإلقاء؟’ لماذا لا تقرأ بهدوء، فالشعر هدوء الروح ومناجاة الوجدان؟’ فأجاب: ‘نحن الروس لا نلقي الشعر، بل نمثله مثل شعراء الإغريق القدامى، فالشعر مسرح تراجيدي، هكذا علمنا مايكوفسكي الذي كان لا يمثل فقط حين يقرأ قصائده بل يكاد يرقص على المسرح، وأنا أرقص كذلك أحياناً حين أقرأ أشعاري. قاعتكم هذه صغيرة فأنا أعتدت قراءة أشعاري في الميادين العامة، وملاعب الرياضة حيث تتسع لمئات الألوف من العمال والطلبة لسماع قصائدي. وكنت أُمثّل شعري أمامهم وأنزل أحياناً من المنصة وأمشي بينهم وأنا أنشد أشعاري’ وفعلاً كان يفتشينكو ينزل عدة مرات من المنصة ويمشي بين ممرات القاعة بين الطلبة المستمعين، وهو يلوح بيديه ويتمايل بجسمه ويترنم بصوت عال بقصائده التي يحفظها عن ظهر قلب. حين انتهى السياب من القراءة، كان التعب بادياً عليه، يتصبب عرقاً وما زال منفعلاً، فقد بذل جهداً كبيراً كي يحتفظ بتوازنه، كنت مشفقاً عليه وهو يروح ويجيء على المنصة، وكأنه شجرة آيلة للسقوط. ربما لم يكن الطلبة يستوعبون فهم تلك الصور الشعرية العميقة المتداخلة والكنايات المركبة في ثنايا القصائد الحرة الجديدة، لكونها غير مألوفة لديهم أو هي فوق ما يسعفهم إطلاعهم المحدود على ماهية الشعر وأجوائه الداخلية، ولكنهم دون شك يحسون أنهم استمعوا إلى شعر ليس كالشعر، وأن خلف هذا الجسم المتهالك روحاً عبقرية قل نظيرها. فقد برز بجسمه النحيل أشبه بقصبة ريفية تهزها ريح النخيل فتعزف أعذب الألحان. كانت تلك الأمسية حدثاُ ثقافياً وتاريخياً نادراً، لم يتكرر طيلة حياة السياب، فقد حضرها جمهور غفير من أدباء ومثقفي بغداد، وجمع من الطلبة الذين حضروا من كليات أخرى إلى جانب قسم من أساتذة الكلية (لم تحضر نازك الملائكة التي كانت مدرسة معيدة لمادة النقد الأدبي المقارن والعروض في نفس الكلية، ولم تحضر الشاعرة عاتكة الخزرجي أستاذتي في قسم اللغة العربية) في نهاية الأمسية تقدم عميد الكلية الدكتور محمد ناصر وسلم على السياب، وكذلك أساتذتي: الدكتور علي جواد الطاهر، الدكتور الشاعر عبد الرزاق محيي الدين، والدكتور صفاء خلوصي. إضافة إلى بعض المدعوين. كان السياب يصافح الجميع ويسلم عليهم بأدب جم وبشيء من الخجل الظاهر، وهما الصفتان اللتان تميزان شخصيته العامة وتربيته الريفية. حين خرجنا من القاعة، كان هناك جمع من الطلبة والطالبات ينتظرون السياب لتحيته والتعرف عليه. إزداد ارتباكه حين وجد نفسه محاطاً بهذا العدد الذي لم يكن يتوقعه من طلبة الكلية. السياب فيه خجل خاص من المرأة لا سيما حين تكون قريبة منه، ربما يحبها بعيدة، حيث يحسن مناجاتها ومخاطبتها، وتستهويه مكاشفاتها بعواطفه والتغزل بها، لكنها حين تكون قريبة منه تثير فيه الارتباك وقد تفقده أحياناً قدراته البلاغية الكامنة في التجاوب وحسن المخاطبة. لاحظت فيه ذلك وهو يحاول بتواضع وحياء محاورة الطالبات اللواتي أقبلن عليه يسألنه عن الشعر الجديد، وبعضهن رومانسيات يسألنه بجرأة عن بعض قصائده الغزلية التي كانت شائعة بين الطلبة آنذاك، مثل قصيدته المعروفة التي مطلعها : ديوان شعري كله غزلُ بين العذارى بات ينتقلُ أدركت أن السياب بدأ يتعب والإعياء باد عليه بعد جهد الأمسية والأسئلة الكثيرة التي إنهالت عليه من الطلبة، فالتفت وحاولت تدارك الموقف قائلاً: ‘أرجوكم .. الأستاذ بدر متعب ولا بد أن يرتاح ويحتاج إلى فنجان قهوة ويرتاح قليلاً في النادي’ إرتاح للفكرة، وقال خذوني للنادي، فاصطحبناه أنا وحميد الهيتي ومحمود الريفي إلى نادي الكلية الذي كان يقع خارج المبنى، في الجهة اليسرى وراء السد الترابي الذي يخترقه خط سكة حديد قطار البصرة ـ بغداد. في هذا المكان كادت أن تقع حادثة خطيرة تودي بحياة السياب وحياتنا معه. لن أنسى تلك اللحظات المروعة التي حدثت كلمح البصر، بل ستظل تلازمني ما حييت. فحين تركنا الطلبة وأخذنا السياب معنا متجهين نحو النادي، مشينا وهو في وسطنا، كان على يميني وكنت ممسكاً بيده اليسرى، وكان هو على يسار كل من حميد الهيتي ومحمود الريفي، كان يمشي ببطء وكنا نسنده، حيث كان يعاني من ألم في رجليه. كنا مستغرقين في الحديث عن الأمسية، وهو مستغرق بشيء من الانشراح عن ذكرياته في الكلية. حادث بدأنا نمشي صعداً متسلقين درجات السد الترابي، هادئين مبتسمين مقتربين من السكة الحديد، وإذا بالقطار يندفع نحونا بلحظة جنونية خاطفة. كان على مسافة أمتار قليلة، لا ندري من أين جاء، كأنه بسرعة أسطورية خرج لنا من باطن الأرض دون أن ننتبه لصوت عجلاته أو صافرة إنذاره التي ربما أطلقها دون أن ننتبه لها حين يمر عادة. كان هذا القطار يمر مرة واحدة كل مساء في هذا الوقت قادماً من البصرة متجهاً إلى وسط بغداد، ودون وعي مني بلحظة غريزية، كمن يواجه الموت جذبت السياب بقوة الى الخلف، سحبته بشدة من يده النحيلة التي ما زال يمسك بها يدي، تدحرجنا الى الوراء وتدحرج أيضاً صاحباي: الريفي والهيتي وسقطنا متكومين تحت تراب السد. بعد لحظات التفت إلى السياب بعد أن عبر القطار فوجدته ممتقع الوجه، مصفر الملامح، والتراب يعفر وجهه، قلت له بقلق: أستاذ بدر هل أنت بخير؟ تمتم بصعوبة وهو يحدق في وجهي بذهول: ‘الحمد لله .. لقد أنقذت حياتي. شكراً لك، قلت له: ‘الله أنقذنا جميعاً .. ما حدث شيء لا يصدق، أقبل صاحباي على السياب ليطمئنا عليه، وصرنا نتساءل بذهول كيف حدث هذا؟ بعدها. سرنا الى النادي ونحن نسند السياب الذي كان يمشي بيننا بألم ظاهر، عبرنا السد الترابي مرة أخرى ودخلنا النادي. إخترنا طاولة في الزاوية اليسرى في نهاية النادي، جلسنا متحلقين ومنهكين، جلس السياب قبالتي، بدأ يهدأ ويلتقط أنفاسه، لاحظت بعض الغبار فوق شعره وسترته حين سقط على الأرض، مددت يدي لأنفضه،لكنه رد بمزاح: ‘لا عليك .. فهذا، كما قال الشاعر: غبار المعارك ‘وضحكنا. أدركت حب المرح وربما خفة الدم في شخصية السياب، فقلت له مداعباً: ‘الحمد لله إن معركتك مع الأمسية انتهت بنجاح’ فرد مبتسماً: إن معاركي لا تنتهي.. معاركي القادمة ستكون هي الأصعب ..’ لم أسأله عن معاركه القادمة لكنني فكرت في سري: تراه يقصد معاركه مع الحزب الشيوعي الذي بدأت خلافاته معه، وأدت به في ذلك الوقت إلى تغيير انتمائه السياسي ووقوف اليساريين ضده والذين لم يحضروا الأمسية؟ سألته ماذا يحب أن يشرب .. فقال : شاي بالحليب بدون سكر، قلت له: هل أطلب لك قطعة من (الكيك)؟ فقال: أنا ممنوع من أكل الحلويات بسبب السكري، فقلت له: كيف وضعك معه؟ قال: هو في بدايته كما يقول الطبيب وأنا أواصل العلاج وملتزم بنصائحه ‘ ذهبت لأجلب له الشاي بالحليب والقهوة لي ولصاحبي اللذين تركتهما يتحاوران معه حول ذكرياته في ‘العالية’. عندما عدت وجدته محاطاً بطلبة من قسم اللغة العربية من محبي الأدب،جاءوا يسألونه عن الشعر فكان ينصحهم قائلاً:’ عليكم بالتراث، ولا تنسوا الآداب الأجنبية (كان السياب خريج قسم اللغة الإنجليزية في العالية) انتهزت فرصة حديثه مع الطلبة وبدأت أتأمل ملامحه وهو يشرب الشاي ويتحدث، أتفرس في تفاصيل وجهه الطفولي الشاحب، وعينيه الغائرتين المتعبتين، بدا لي مهذباً متواضعاً، لا يشعر جليسه بحرج معه، ودوداً وعلى جانب شديد من الحياء الذي يزيده وقاراً، يتحدث وهو مطرق في الغالب، يكثر من استعمال يديه حين يهم بشرح فكرة ما،وقد أثار إنتباهي طول أصابعه المفرط، وهي تمسك بكوب الشاي، فقد بدت معروقة وبادية الزرقة بشكل ملحوظ وقلت مع نفسي : أهذه هي الأصابع التي تكتب كل تلك القصائد المدهشة؟ وهومن جانب آخر عاطفي مع أفكاره يتحمس ذاتياً للدفاع عن خواطره، حين يحدثك ينظر إليك ويبتسم في وجهك، فتحس نحوه بالإلفة وتجده قريباً من نفسك. حين تسأله لا يجيبك بسرعة، يفكر ملياً بما سيقول، وهذا جزء من الحذر والترقب في شخصيته، وربما إنعكس هذا على أسلوبه المتأني في كتابة القصيدة التي يقلبها ملياً ويتفحصها مراراً قبل أن يدفع بها الى النشر. حين تنظر الى السياب وهو هادئ النفس، متطامن المشاعر، مطرق، تحس أنك امام إنسان (خيرّ) بكل ما تحمل الكلمة من معان، تماماً مثلما كان يردد قول الشاعر ‘كن خيراً لا كاتباً وحسيبا’، فتعطف عليه وتتعاطف معه فهو عميق البراءة، لا يمكن أن يؤذي أحداً أو يقترف شراً، وقد كشفت الأحداث في السنوات اللاحقة أن هذه البراءة عند السياب، وربما الغفلة (غفلة المؤمن) كما يقال هي التي جعلت منه ضحية سهلة لأصحاب السوء والنوايا الخبيثة من زملائه الشعراء الذين يحسدونه ويكيدون له ويغارون من موهبته الكبيرة، فهو لم يعرف كيف يداور أو يتحايل أو يتزلف، ولم يعرف حتى كيف يكشف عن قدراته الشعرية الهائلة، أو يسوق قصائده بحثاً عن الأضواء والشهرة كما يفعل الآخرون. بادر السياب بسؤالنا عن الأمسية فهو بطبيعته شديد الحساسية إزاء شعره ورأي الآخرين فيه، وهو أيضاً كثير التوجس والخوف من وجود هؤلاء الآخرين، ويخشى النقد ولا يحتمل المجابهات لأنه إنسان مسالم، ولكنه قد يثور ويفقد صوابه حين يحس بالغبن أو ينتقص أحد من قيمته أو يستهين بقدراته، خطر لي أن أسأله عن البيت الذي ورد في قصيدته عن بورسعيد ومدح فيه جمال عبد الناصر: ‘يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبد الناصر القدرُ’ قلت له: أستاذ بدر .. أنت حورت هذا البيت ووضعت إسم عبد الناصر بدل (سيف الدولة) الذي كان موجوداً أصلاً في القصيدة المنشورة التي قرأناها سابقاً، حيث كان سياقه: ‘لا تيأسي إن سيف الدولة القدرُ’ .. فقال: هذا صحيح، أنا تعمدت إدخال هذا التضمين كي يتمشى مع السياق. قلت له: لماذا؟ قال: ‘أنا تجاوبت مع مشاعر المستمعين وعواطفهم الوطنية والقومية في هذه الظروف وكما تلاحظ أن الظرف السياسي الحالي يكاد يكون مشابهاً لظروف سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري كلاهما كان بطلاً قومياً يحارب أعداء الأمة العربية’. - أوافقك على ذلك، ولكن ملاحظتي كانت بخصوص أمانة النص الأدبي.. - ‘أنا أفهم ما تعنيه، ولكن على الشاعر أيضاً أن يكون أميناً على مصالح أمته، ولا يضيع أية فرصة لاستنهاض هممها القومية. والشاعر عليه مسؤولية تجاه مصير شعبه، وهذا لا يضير النص الأدبي، لا تظن هذا تزييفاً أو تلوناً، هذا جزء من التزام الأديب الذي هو في النهاية حر في نصه وأفكاره. هذه هي فلسفتي في الأدب والالتزام’.. لم أجادله بهذا الشأن حيث أخذ يتحدث عن فلسفة الالتزام في الأدب، ونظرية الفن للفن، والشعر في خدمة الجماهير.. الخ وهي الآراء التي قرأناها بعد ذلك في محاضرته التي القاها عام 1961 في روما حين ذهب للمشاركة في مؤتمر حول الأدب العربي المعاصر. بعض النقاد والجهات الأدبية انتقدت السياب حينها وأتهمته بالتناقض، والتذبذب في محاضرته عن ‘الإلتزام واللاإلتزام في الأدب العربي’ التي القاها في مؤتمر روما، والتي ذكر فيها أن تأثره هو وجيله من الشعراء العرب بالشاعر ت.س.اليوت، كان موضوعياً وفنياً، مخالفاً فيه رأيه المتداول والمعروف في المقابلات الأدبية، في أن تأثره كان فقط من ناحية الأسلوب، وخاصة في قصيدتيه ‘الأرض الخراب’ و’أغنية العاشق بروفروك’ الى آخر هذه الآراء المعروفة التي دُرست بإسهاب في كتاب ‘الأسطورة في شعر بدر شاكر السياب’ للناقد الدكتور عبد الرضا علي .. غير أن السياب دافع عن رأيه في ذلك الوقت، ولم يعبأ كثيراً بتلك الإنتقادات التي إعتبرها مغرضة وغير موضوعية، وعبر بوضوح عن موقفه إزاء إلتزام الشاعر بقضايا المجتمع ونظرته الفلسفية نحو موقف الإنسان في الفن والوجود .. كان السياب مرتاحاً لجلسته معنا في النادي، فقد طلب كوباً آخر من الحليب الساخن، قال إن ذلك يهدئ آلام القرحة التي تنتابه من حين لآخر. إلتفت إليّ يسألني: (هل قرأت المقالة أمس في مجلة ‘الفنون’ ؟ - نعم .. قرأتها. - كيف وجدتها؟ - وجدت فيها تهجماً على بعض الشعراء من زملائك. - أنا لم أتهجم. هم الذين تهجموا عليّ، وحاولوا الإساءة الى سمعتي لأنني اختلفت معهم في الرأي، أنا طرحت آرائي حول الواقعية والالتزام في الأدب،وضربت بعض الأمثلة، كما أنني حر في اختياراتي السياسية. - لك الحق في ذلك طبعاً، ولكنك قلت عن عبدالوهاب البياتي: (إنه عالة عليّ وعلى إليوت) - ‘ نعم أنا قلت ما أعتقد من الحقائق، إنهم يأخذون مني وينسبونه الى ‘إليوت’. أنا أقرأ ‘إليوت’ بلغته الأصلية، وهم يقرأونه مترجماً، وفي النهاية يلتبس عليهم الأمر، ويصبحون عالة على كلينا، أغلبهم حساد، بلا مواهب’ لاحظت لأول مرة نبرة غضب في لهجته نظراً لحساسية الموضوع. (كانت مجلة ‘الفنون’ البغدادية الأسبوعية قد نشرت في ذلك الوقت مقابلة مع السياب، تحدث فيها عن موضوعات شتى حول الأدب والشعر العراقي الحديث، وعلاقته بالشعراء العراقيين). أدركت تسرعي في إثارة هذه الموضوعات الحساسة حول خصوماته مع الآخرين التي تزعجه وتثير انفعاله فآثرت تغييرمجرى الحديث. في هذه الفترة كان السياب إختلف مع الحزب الشيوعي، وانسحب منه بعد أن تعرض لحملة معادية من الأدباء اليساريين، في الصحافة العراقية بسبب تغييره لانتمائه السياسي، مع أنه كان مفصولاً من وظيفته في موانئ البصرة ومحارباً في رزقه.فليس غريباً إذاً وسط هذا الإحباط والوضع النفسي المتأزم الذي كان يعيشه، أن تخلق تلك المواقف العدائية مبرراً كافياً لديه، كي يصب جام غضبه على منافسيه، ويهاجمهم بلا هوادة في تلك المقابلة، ولا غرابة أيضاً أن تنفجر كل تلك الملابسات لاحقاً، في بيت الجواهري، بعد ثورة تموز 1958 لدى انتخاب الهيئة الإدارية لأول اتحاد أدباء في العراق. كانت الأجواء في ذلك الاجتماع مهيأة للانفجار، إذ كانت القوى اليسارية تخطط بوضوح لتهميش السياب وإزدرائه وإبعاده عن الهيئة الإدارية للإتحاد، وقد نجحت في ذلك، وأصيب السياب بأزمة نفسية قاتلة، دفعته لاحقاً إلى كتابة تلك السلسلة من مقالاته الغاضبة والمعروفة التي نشرها تحت عنوان : ‘كنت شيوعياً’ والتي أثارت جدلاً واسعاً في حينه، وقد تأكدت هذه الحملة ضد السياب، بشهادتين مهمتين من الناحية التاريخية والتوثيقية، لاثنين من الشعراء الرواد هما: لميعة عباس عمارة، وبلند الحيدري، آثرت إدراجهما كاملتين هنا نظراً لأهميتهما تاريخياًوأدبياً في تسجيل أحداث تلك المرحلة السياسية العصيبة من تاريخ العراق.
شيوعي عراقي يوصي رفاقه بالبصق على السياب عندما يصادفونه في الشارع!
الشهادة الأولى : الشاعرة لميعة عباس عمارة . قدمت عام 1996 من أمريكا في زيارة الى لندن.. وانتهز ‘ديوان الكوفة’ فرصة وجودها، فأقام لها أمسية شعرية وطلبت مني تقديمها للجمهور. كانت أمسية حافلة حضرها العديد من الأدباء والصحفيين ورجال الإعلام. قرأت فيها مجموعة من قصائدها الجديدة ومختارات من دواوينها السابقة. وبطلب من الحاضرين تحدثت عن جوانب من ذكرياتها مع السياب، مشيرة الى بعض المحطات في حياته، كاشفة ربما لأول مرة عن بعض الأمور الخاصة بحياته غير المعروفة من قبل .. ذكرت لي السيدة لميعة أنها تعد مذكرات أدبية موسعة، فيها جزء كبير لم يعرف من قبل عن حياة بدر، وأنها تعتزم طبعها في كتاب، ولكنها اتفقت مع جريدة ‘الشرق الأوسط’ بلندن على نشرها في حلقات قبل إصدارها في كتاب. وبالفعل لم تمض أشهر قليلة حتى بدأت تلك المذكرات تخرج على صفحات الجريدة بحلقات تحت عنوان ‘ من المذكرات’ في الحلقة الثامنة التي نشرت يوم الأربعاء 25/09/1996 في العدد 6511، تحدثت السيدة لميعة عن السياب من خلال الإجتماع الذي عقد في بيت الجواهري لانتخاب هيئة إدارية لاتحاد الأدباء في العراق. ولأهمية هذه الشهادة التاريخية، فإني أنقل حرفياً ما قالته خصوصاً كونها تكشف عن الكثير من تلك الملابسات التي أثرت لاحقاً، أدبياً وجسدياً ونفسياً على السياب :- (كان الاجتماع في بيت الجواهري لإنتخاب الهيئة الإدارية لأول اتحاد أدباء عراقي صيف 1958 في حديقة الدار الواسعة المطلة على شاطئ دجلة. عشرات الأدباء والشعراء التقوا بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية في بداية الثورة. كانت سيطرة الشيوعيين تبدو واضحة على الاجتماع الذي حضره بدر شاكر السياب. وأهمل فيه بدر بشكل واضح، فأصيب بمغص وغثيان وكاد أن يغمى عليه، فأسنده أحد الموجودين وأخرجه. بدر كان قد غير انتماءه من الحزب الشيوعي قبل ثورة 14 تموز 1958. كانت هذه ضربة لبدر الذي لحقه غُبن كثير وتهجُم، وهجاه شاعر ينافسه بقصيدة، وحاربه الحزب الذي تبنى هذا الشاعر على حساب السياب. حتى لقد أوصى أحد قادة الحزب الشيوعي (الذي خان الحزب وأسلم جماعته للإعدام قبل أن يصفع صفعة واحدة) أوصى الرفاق هذا القائد قبل براءته من الحزب: - على كل من يصادف بدر شاكر السياب بالطريق أو أي مكان أن يهينه ويبصق عليه ليعلم الجميع أن الحزب لا يتعاون مع الخونة.. والعجيب أن كلا من الشاعر والسياسي، صارا يدعيان أنهما كانا من أصدقاء بدر، بعد موته) .. ولعل السيدة لميعة تقصد بذلك الشاعر عبدالوهاب البياتي، الذي تبناه الحزب الشيوعي بعد انسحاب السياب منه، إذ كانت المنافسة الشعرية بينهما معروفة في الأوساط الثقافية والأدبية في بغداد. حيث عرف عن البياتي أنه لا يخشى غير السياب في المنافسة على زعامة الحركة الشعرية الجديدة في العراق، ولأنه يدرك خطورة موهبته الشعرية الكبيرة على موقعه الريادي في حركة الشعر الحر. وفي هذا المجال لا يمكن كذلك استبعاد عنصر ‘الغيرة’ لدى البياتي مما كان يتردد عن وجود علاقة بين لميعة والسياب وزياراتها له في قريته بالبصرة، مما جعل البياتي يدعّي في مجالسه الخاصة أن لميعة كانت تحبه هو، وأنها كانت ‘تجامل’ السياب فقط. علماً بأن لميعة كانت تنتقد البياتي كثيراً وتقول عنه إنه لم يدخل مكتبة الكلية ولا مرة واحدة طيلة فترة الدراسة التي جمعتهما معاً في صف واحد، وانه كان يغار من السياب. وما أعرفه أنا، أن البياتي كان يعتمد دائماً على مكتبته الخاصة ومراجعه في الأدب والبحث. وأذكر بهذا الصدد أنه أخبرني في آخر رسالة له من دمشق، بتاريخ 04/24/1998 أنه أهدى مكتبته الخاصة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، حيث كان ينوي العودة إلى بغداد، وهي آخر مكتبة له قبل رحيله. الشهادة الثانية : وهي تؤكد الموقف السلبي المتعمد الذي اتخذه الأدباء اليساريون من السياب، واستبعاده من الهيئة الإدارية وتهميش دوره في الاجتماع، من خلال ما ذكره صديقه الشاعر بلند الحيدري في محاضرة دعاه لإلقائها ديوان الكوفة بلندن بتاريخ 23/11/1993 لكي يتحدث عن سيرته الذاتية، وطلب مني تقديمه للجمهور. قال الحيدري عن إجتماع صيف 1958 لتأسيس الاتحاد، ما نصه : ‘إنني صُدِمت عند إجتماعنا الأول في دار الجواهري، عندما اُبعد اسم السياب الذي كنت قد إقترحته واحداً في الهيئة التأسيسية، فانسحبت بدوري معه من إتحاد الأدباء كله، وفي عام 1961 عدت اليه اثر انتخابي عضواً في الهيئة الإدارية ومن دون استشارتي’ .. المحاضرة مكتوبة بخط يده، وهي غير منشورة ونسختها الأصلية محفوظة لديّ. تؤكد هاتان الشهادتان ما كان يردده السياب بصفة دائمة، من أنه حورب بتعمد، وأن استبعاده من الهيئة الإدارية للاتحاد كان نتيجة ضغط شديد من الحزب الشيوعي الذي كان مسيطراً على الحياة السياسية والثقافية بعد سقوط النظام الملكي، إثر خلافه معه وانسحابه منه بسبب ما اعتبره ‘ تسلطاً ودكتاتورية قمعية تفشت في الحزب نتيجة سيطرة قادة لايؤمنون بالديمقراطية وحرية الفرد واختلاف الرأي’ على حد قوله لي في الكويت لاحقاً.. أعود إلى جلستنا في النادي، فبعد أحاديث عامة وبعض الأسئلة التي كان يطرحها محمود الريفي وحميد الهيتي على السياب حول السنوات التي قضاها في دار المعلمين العالية، إستأذن كلاهما بالانصراف وصافحاه معتذرين وبقيت وحدي معه. إقترحت عليه أن نطلب عشاءً لكنه إعتذر قائلاً: ‘أنا في حِمية بسبب المعدة، ولا أتعشى في الغالب، وأكتفي بالخبز والحساء الخفيف’ ثم نظر إليّ بإمعان وقال مبتسماً:’ أنت تذكرني بحماستي أيام كنت طالباً هنا’ أجبته ضاحكاً: ‘نحن امتداد لكم. تعلمنا منكم فأنتم قدوتنا’ فرد قائلاً: ‘أسلكوا طريقكم الذي تختارون، أنتم جيل مختلف ولا بد أن يكون إبداعكم كذلك’ قلت له: أنتم جيل رواد، هل تعتقد أن جيلكم كان جيلاً محظوظاً ؟ - ‘لا .. جيلنا لم يكن محظوظاً فقد ولد في زمن الغيرة والتباغض، وشعراؤه الذين يدعون تطويره هم آفته، يقتلونه بالحسد والمكائد، الشعر لا يزدهر إلا بالمحبة والنقاء، العداوة والغيرة تقتلان الشعر’. بدا لي وكأنه يعبر ضمنياً عن أزمته الداخلية ومرارة تجاربه مع أصدقائه الأدباء. سألته إن كان يعتقد أن جيل النهضة الشعرية الحديثة الذي سبقهم، جيل الرصافي، الزهاوي علي الشرقي، الصافي النجفي، والجواهري كان أكثر حظاً، فأجاب : - ‘نعم كانوا جيل نهضة شعرية وأكثر إحساساً بالمسؤولية الأدبية. كان التنافس بينهم أدبياً خالصاً، وعلى جانب كبير من القيم الأخلاقية’ لم يكن يبدو عليه الإرتياح وهو يخوض في هذا الموضوع، حاولت تحويل مجري الحديث لكنه فاجأني وهو ينظر إلى ساعته قائلاً : ‘لا بد أن أعود الآن الى البيت، فأنا أسكن حالياً في منطقة ‘الباب الشرقي’ ويمكنك أن تزورني في أي وقت ‘وأعطاني رقم تلفونه (وأظنه في ذلك الوقت كان يسكن في منطقة ‘السنك’ المتفرعة من شارع ‘الرشيد’ حيث سمعنا أن صديقه الشاعر ‘الفريد سمعان’ قد إستأجر له بيتاً ليقيم فيه مع زوجته السيدة ‘إقبال’ التي تزوجها حديثاً) شكرته بامتنان، كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة مساء، فغادرنا النادي متجهين نحو محطة الباص. خرجنا من الباب الخلفي للنادي المؤدي الى الجانب الأيمن لمنطقة ‘الوزيرية’ ثم انعطفنا يساراً الى الشارع العريض المؤدي الى محطة الباص رقم (7) الذي يسير بين منطقة ‘الوزيرية’ وباب ‘المعظم’، والذي ينقل يومياً مئات الطلبة والطالبات من وسط بغداد الى دار المعلمين العالية، ثم كلية الآداب في منطقة ‘الصليخ’. داخل هذا الباص الأحمر العتيد، كانت تنشأ يومياً شتى التعارفات والصداقات بين الركاب من الطلبة والطالبات، وتخفق آلاف القلوب، وتتغير شتى المصائر، وتتشعب دروب المستقبل. ونحن متجهان الى موقف الباص، التفت السياب يساراً وقال: هل ترى ذاك البيت الكبير أمامك الى اليسار؟ - نعم .. - ‘كان هذا قسماً داخلياً لطالبات العالية’. قلت له ‘أعرف هذا، وهو لا يزال كذلك’. قال: يوم كنت طالباً في الدار، كنا نسمع حكايات رومانسية لعشاق هائمين يذرفون دموعهم في آخر الليل ويناجون حبيباتهم على أعتابه. - لابد أنك تأثرت بها وهزتك هذه الحوادث شعرياً في حينها، الغريب أننا نسمع الآن نفس الحكايات الرومانسية من وقت لآخر ونفس القصص الدرامية التي يتناقلها الطلبة. - ‘هزتني في حينها، ولكنني لم أكتب عنها الا بعد فترة طويلة حين أستوحي الماضي فتأتي عفويا ً على ذهني في ثنايا القصائد التي يربط بينها الحس المأساوي، صور الماضي المختزنة في ذاكرتي هي دائماً أقوى محفزاتي الشعرية.الحاضر قلما يحركني في بعده الزمني الآني مع تأثري به نفسياً، ولكن الماضي الذي هو بلورة للحاضر هو عندي معين الشعر،وهذا ما ظهر في قصائدي عن ‘جيكور’ و’بويب’ وأجواء قريتي التي كنت أحن إليها حتى وأنا في بغداد’، ساعتها كنا قد وصلنا الى موقف الباص، لمحنا باص رقم (7) مقبلاً من بعيد، صافحني السياب بحرارة وهو يقول: - ‘أشكرك كثيراً وأرجو أن تتصل’ - سأفعل قلت له.. بعد أن شكرته على حضوره الأمسية، ساعدته على الصعود الى الباص، لوح لي بيديه الناحلتين .. ثم اختفى بين الركاب. أحسست ساعتها بحزن شديد، كما لو أن هاجساً بداخلي يشعرني بأنني لن أراه مرة أخرى، فقد شعرت حقاً بالإلفة إزاءه رغم قصر اللقاء. فهو من النوع الذي تألفه النفس سريعاً. وتعاطفت كثيراً مع وضعه النفسي والمادي، فهو لم يشر الى فصله من وظيفته وبقائه بلا عمل ولا مورد رزق، ولم يذكر أبداً حاجته الى المال. وهنا أستحضر ما كتبه المترجم والأديب نجيب المانع في سيرته الذاتية ‘ذكريات عمر أكلته الحروف’ عن السياب .. حين كانا يعملان معاً في شركة نفط البصرة، إبان العهد الملكي، وكان عملهما ينحصر في نقل أرقام صناديق البضائع وتدوينها في بطاقات خاصة، يستذكر المانع تلك الأحداث بألم ويقول: ‘شيء لا إنساني لشاعر مثل بدر شاكر السياب، أن يتصور المرء شاعراً ثري الإحساس، مفعماً بالجوع للدنيا، يقضي ثماني ساعات كل يوم في نقل أرقام صناديق إلى البطاقات مئات المرات كل يوم وكان المدير الإنجليزي يعامله بجفاء وينهره أحياناً بسبب تقصيره في العمل، وفي نهاية المطاف فصله نهائياً، بدعوى كثرة شرود ذهنه وتقصيره في العمل .. في الواقع كانت حياة السياب الوظيفية سلسلة متواصلة من الفصل والطرد من العمل لأسباب سياسية، في كل العهود العراقية بدأت منذ العهد الملكي حين بدأ حياته الوظيفية الأولى مدرساً للغة الإنجليزية في ثانوية الرمادي، حيث فصل منها عام 1949، وفي العهد الجمهوري فصله البعثيون حال استلامهم للسلطة عام 1963، ولم يشفع له تأييده لهم وهجاؤه لعدوهم عبد الكريم قاسم الذي ساعده بالمال كي يعالج في لبنان واوروبا، وهذه كانت إحدى تخبطات السياب ومصالحاته وتقلباته التي لم تنفعه في شيء، ولا تنم عن حصافة وعميق خبرة، والواقع أن السياب كان يبخس نفسه أحياناً، وكأنه يجهل قيمته الأدبية العالية فينخرط في مدح من هم دون قدره، ولا يستحقون منه ذلك، وكمثال على ذلك مدحه لمزهر الشاوي مدير الموانئ في البصرة الذي كان السياب يعمل محرراً أدبياً في مجلته (الموانئ) ثم سلسلة المدائح المجانية ليوسف الخال وأدونيس، وبقية شعراء مجلة ‘شعر ‘ وصغار الشعراء الآخرين الذين لا يستحقون منه ذلك، هذا التزلف والمواقف المداهنة لم تكن تصدر عن قناعة ذاتية،وإنما كان دافعها المسألة الشخصية، وتسهيل عملية النشر في بيروت، وقد أساءت إلى سمعة السياب، وجعلته يندم عليها لاحقاً. بعد هذا اللقاء، لم تتح لي،مع الأسف، فرصة الوفاء بوعدي للسياب في أن أهاتفه والتقيه ثانية، رغم توقي الشديد لذلك. فقد اضطربت الأوضاع السياسية في العراق واحتدم الصراع بين حكومة نوري السعيد والقوى الوطنية المعارضة التي توصلت لاحقاً الى اتفاق بتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمت كافة الأحزاب العراقية المعارضة يومذاك. ولم تمض أشهر قليلة حتى انفجرت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي أسقطت النظام الملكي وأقامت الجمهورية، حيث دخل العراق بعدها في دوامة الصراعات الحزبية الدموية والاحتراب السياسي العنيف بين شتى الفئات الوطنية، والذي انتهى باغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة، واستيلاء حزب البعث على الحكم عام 1963، واعتقالي في سجن (خان الهنود) بمدينة النجف حيث كنت مدرساً في متوسطة ‘الخورنق’. من يومها دخلت حياتي في مسار مختلف، وكانت بداية لغربتي الطويلة التي بدأت بالرحيل إلى الكويت، مروراً بمدن العالم، مورشيوس (في المحيط الهندي) والجزائر في شمال أفريقيا وانتهت ببريطانيا. أذكر أنه في اليوم التالي لأمسية السياب، إلتقيت في ‘المقهى البرازيلي’ الكائن في نهاية شارع الرشيد، قرب الباب الشرقي والذي كان يومها ملتقى مفضلاً للشعراء والأدباء، إلتقيت بالشاعر عبد القادر رشيد الناصري (إبن مدينتي) جالساً مع القاص عبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي والقاص نزار عباس. كان الناصري من أكثر الشعراء العراقيين شهرة في العراق والعالم العربي في ذلك الوقت، وكانوا يشبهونه بالشاعر الإنجليزي ‘أوسكار وايلد’، لوسامته وبوهيميته ورقة شعره. كان الناصري قد حضر الأمسية في حينها، وكان يحترم السياب ويقدر مكانته الأدبية، رغم الاختلاف في الفكر والسلوك الاجتماعي. قال لي إنه جاء لتوه من الإذاعة العراقية حيث سجل قصيدة جديدة، (كان الناصري محسوباً على النظام الملكي) انه التقى هناك بالسيدة (سميرة عزام) وأصطدم معها وعنفها لأنها رفضت إذاعة التغطية الصحفية التي كتبها الصحفي والكاتب الإذاعي جميل الجبوري لأمسية السياب، مدعية أن الإدارة هي التي تدخلت ورفضت إدخالها في البرنامج. (سميرة عزام أديبة فلسطينية كانت تقدم برامج إذاعية أدبية من إذاعة بغداد إبان العهد الملكي) .. بعد أشهر قليلة سقط النظام الملكي في تموز 1958، وبدأت أعمل في الإذاعة مقدماً لبعض البرامج الأدبية وأنا لم أزل طالباً بالجامعة. قدمت برنامج (الركن الأدبي) ثم برنامج (كتاب الأسبوع) الذي استمر لعدة سنوات. حين دخلت الإذاعة سألت عن سميرة عزام، فقيل لي إنها تركت العمل أو ربما فصلت من الوظيفة. وقد سمعنا بعد ذلك أنها توفيت في حادث سير. كانت أديبة لها عِدة مجموعات قصصية أشهرها ‘أشياء صغيرة’. في حلقة من برنامجي (كتاب الأسبوع) قدمت ديوان السياب ‘أزهار ذابلة’ الذي نشر أواخر عام 1947م. تحدثت فيه عن مكانته الشعرية وقرأت نماذج من قصائده، رغم اعتراض بعض الجهات الإدارية، وكان ذلك بفضل الشاعر الكبير كاظم السماوي (الذي كان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون) وصديقاً مقرباً من الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث أعطى فسحة من الحرية والتعبير عن الرأي الشخصي. ويبدو أن السياب إستمع إلى البرنامج حين إذاعته وفرح به، واعتبره إنصافاً لحقه المهضوم من قبل حساده ومنافسيه ،حتى إنه ذكرني به حين إلتقيته لآخر مرة في الكويت. في الكويت كنت أعمل مدرساً للغة العربية في الكلية الصناعية بمنطقة (الشويخ)، وأسكن بضيافة صديقي وإبن مدينتي الشاعر العراقي- الكويتي ‘محمد الفايز′ .. صاحب كتاب (مذكرات بحار) الشهيرة في الكويت، وكانت تربطه صلة قرابة بالسياب، فهو من عائلة ذات أصول نجدية يطلق عليهم (نجادة البصرة) إستوطنوا في الناصرية والكويت وأبي الخصيب، وهو القضاء الذي كانت قرية ‘جيكور’ مسقط رأس السياب، تابعة له. جاء الفايز ليخبرني أن السياب يرقد مريضاً في المستشفى الأميري منذ ثلاثة أيام. صدمت للمفاجأة ورجوته أن نذهب فوراً لزيارته، أخذني بسيارته وانطلقنا مسرعين نحو المستشفى. حدثني ونحن في الطريق كيف أن الشاعر الكويتي النبيل ‘علي السبتي’ هو الذي تولى رعايته وتكفل بحمله من المطار وهو غير قادر على المشي، ومُصاب بأمراض عديدة . وصلنا المستشفى وسألنا عن غرفة السياب،فدلنا ممرض عراقي هناك بإشارة من يده فاتجهنا مباشرة إلى غرفته، قاطعين الممر الطويل الذي تفوح منه رائحة العمليات والأدوية النفاذة ووجوه المرضى المصفرة الراقدين في الغرف المتراصة. دخلنا الغرفة الصغيرة فوجدنا علي السبتي هناك، ولم أكن قد تعرفت عليه شخصياً، ولكن بعد أن قدمني إليه صديقي محمد الفايز، صافحني بحرارة مُتذكراً بعض القصائد التي كنت أنشرها في جريدة ‘صوت الخليج’ ثم التفت داخل الغرفة وقال: ‘ها هو بدر أدخلا وسلمّا عليه’، ألقيت نظرة خاطفة على السرير، فهالني ذلك الجسد المنكمش المحطم الذي تحول إلى جسد شيخ عجوز تداخلت عظامه، وتقلص حجمه ربما بفعل انتشار السرطان الذي بدأ يأكل أعضاءه، فلم يبق منه غير رأس صغير وعينين منكمشتين تحدقان ببطء شمالاً ويميناً، يتفحصان المكان ووجوه الزائرين، إنحنيت وسلمت عليه وهو ممدد على السرير ويتحرك بصعوبة، بل هو غير قادر على الحركة في الواقع. وسلم عليه كذلك صديقي الفايز. قلت له: كيف حالك أستاذ بدر؟ هل تذكرني أنا فلان (وذكرت إسمي)؟ فرد وهو يبتسم: أذكرك طبعاً أهلاً بك، كيف حالك ؟ بدا صوته واهناً، ولكن ذاكرته ما زالت حية وكان دمثاً في ترحابه. قلت له: الحمد لله أنا سعيد برؤيتك مرة أخرى . فابتسم قائلاً : ‘أنا ما زلت أذكر أمسية دار المعلمين العالية وجلسة النادي، ونجاتي من هجوم قطار السدة الترابية’، إبتسمت بدهشة وقلت له: أنت ما زلت تذكرها؟ قال: نعم وكيف لي أن أنساها ثم واصل ‘تراني أنجو هذه المرة من هجوم الأمراض’ ؟ قلت له مواسياً: ستنجو إن شاء الله .. إنها شدة وكل شدة إلى زوال، أومأ برأسه وهو يبتسم . ثم دخل فجأة طبيب وممرضة يفحصانه ويقيسان ضغطه. التفت علي السبتي نحوي وهمس في أذني: ‘بدر أجريت له عملية مساء أمس وهو متعب، علينا ألا نُطيل الجلوس معه اليوم’.. بعد خروج الطبيب والممرضة قلت له: كيف تشعر الآن ؟ – أنا متعب قليلاً بعد عملية الأمس. – إذن أنت بحاجة إلى الراحة اليوم، سـأزورك غداً. شد على يدي هامساً: ‘لا بد أن أراك غدا، اليوم لم يسمح لنا الوقت بالحديث’ طمأنته بأني سأزوره غداً. صافحنا علي السبتي الذي بقي معه، وخرجنا أنا والفايز. في اليوم التالي زرته بمفردي بعد الظهر، فوجدت عنده مجموعة من الأدباء الكويتيين جاءوا للاطمئنان عليه، أذكر منهم الأديب عبدالله خلف (رئيس القسم الثقافي بإذاعة الكويت)، وبعد أن سلموا عليه مودعين سألته عن حاله، فقال إنه ما زال يشعر بآلام في الظهر وأوجاع في المعدة بعد العملية. ـ أين علي السبتي؟ - كان هنا صباحاً، وقال إنه سيعود في المساء بعد أن ينهي عمله في الجريدة (صوت الخليج) وبدأ يثني عليه .. ـ ‘كم هو نبيل هذا الرجل، إنه نادر المثال بين الرجال، لا أدري كيف سيكون حالي لو لم يكن علي بجانبي’ .. ثم سحب نُسخة من (صوت الخليج) من تحت وسادته وقدمها لي: جلب علي هذه الجريدة، هل قرأت قصيدتي فيها ؟ - نعم قرأتها في مكتب محمد الفايز (الذي كان يعمل بدائرة الكهرباء) وهي في الحقيقة تثير حيرتي. ـ ماذا تعني ؟ - صحيح هي شفافة ومؤثرة لكنها لا تصور آلامك وأوجاعك، مثلما يتوقع القارئ وإنما تصور أحلامك وكأنك لست في مستشفى،هي قصيدة حالمة لا علاقة لها بالواقع. - قال :صدقت، الشعر هو تصوير الأحلام، وأنا شاعر حالم بطبيعتي.. أنا من ناحية أخرى أحاول نسيان واقعي الموجع، فأكتب عن أحلامي. كرهت مستشفيات بيروت وباريس ودرم ببريطانيا، لا أريد أن أكتب عنها فهي واقع لا أريد تصويره في قصائدي، لهذا تجدني اتجه نحو الحلم فهو الذي يخفف أوجاعي وينسيني آلام مرضي..’ ـ ولكن كيف تستطيع نسيان مرضك وأنت بين الأطباء والممرضين وقناني الأدوية وغرف المرضى الراقدين جوارك؟ وكيف تجد الوقت لكتابة الشعر وغرفتك تعج بالداخلين والخارجين؟ .. أطرق السياب برهة، وأغمض عينيه وخلته ذهب في غيبوبة، وضعت يدي على كتفه وقلت له: أستاذ بدر هل سمعت ما قلت ؟ رد قائلاً: آسف سرحت قليلاً، أعد عليّ ما قلت، أعدت عليه سؤالي فبادرني بقوله: – صحيح ما قلته عن ضوضاء المستشفى والزائرين، ولكنني انتهز دائماً بعض سويعات الفجر، فأنا لا أنام جيداً بسبب أوجاع جسدي. أنا أكتب عند الفجر، حين يكون السكون شاملاً مخيماً فوق ردهات المستشفى، في تلك اللحظات أحاول إدخال كياني وأحاسيسي في عالم آخر، فأحس بنفسي شفافاً، وأن أوجاعي هدأت قليلاً وابتعدت عن مسارب جسدي، تلك اللحظات هي لحظات إحساسي بالشعر، هي لحظات نسياني لواقعي وآلامي والكتابة عن أحلامي’.. بدا تعليل السياب هذا وكأنه رد على تساؤلاتنا المحيرة حول قدرته على كتابة الشعر وهو في حالته البائسة هذه، مريضاً مشلول الحركة. فقد كنا نندهش أنا وعلي السبتي وأصدقاؤنا الآخرون، من روعة تلك القصائد التي يكتبها شاعر مشرف على الموت، كيف استطاع أن يسيطر على لغته وأفكاره وهو يكتب بيد مرتعشة لا تقوى على الإمساك بالقلم، وعيناه متعبتان لا تدركان مواضع الأسطر على الورق؟ كان علي السبتي أول من يقرأ قصائد السياب التي يستلمها حارة مثل رغيف الخبز الخارج لتوه من التنور.كان يكتب في الليل وينشر في النهار بشكل يومي تقريباً، يسلم السبتي قصيدة كل صباح لتطبع في الليل في مطابع (صوت الخليج) وتظهر صباح اليوم التالي ليقرأها الناس طازجة مثل القهوة العربية الممزوجة بالحليب وأنفاس الهال ولكنها ممزوجة كذلك بالمرارة والمأساة وطعم الموت الوشيك.
لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم! كنا نتساءل كيف إستطاع السياب نسيان أوجاعه وأمراضه العديدة التي بدأت تأكل أشلاءه شلواً شلواً، وكيف نسي موته الوشيك وإنصرف لكتابة الشعر؟ لقد كان ذلك حقاً جزءاً من عبقريته وتفرده، ليس في الشعر وحده بل في الصبر والتحمل وتقبل المصير كذلك،كما أننا يمكن أن نجد نوعاً من الإجابة، على هذا التساؤل أيضاً فيما كتبه الشاعر ت.س. اليوت في مقالة عن ‘باسكال’ عام 1931، وهو يعاني من مرض عضال في احد مستشفيات لوزان’ إن حدة المرض في بعض الحالات المرضية تكون مواتية للإبداع الأدبي والخلق الفني، حيث تكون الفرصة مهيأة لانطلاق مفاجئ في التعبير عن فكرة طال الأمد عليها وهي حبيسة في ذهن الشاعر.’ كان السياب مستسلماً لقدره ولم أسمعه يتذمر وهو على فراش المرض، ولم يجأر بشكوى أو تبرم أو ينحو باللائمة على الزمن أو الحظ أو سوء المصير، بل كان هادئاً مؤمناً بالله وقدره فهو تماماً مثلما عبر عن نفسه، في حالة فريدة هي أشبه ما تكون بحالة متصوف قانط، أو ولي من أولياء الله الصالحين، يخاطب ربه بكل خشوع واستسلام : ‘لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما إستبد الألم لك الحمد إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم لك الحمد يا رامياً بالقدر ويا كاتباً بعد ذاك الشفاء’ ولهذا لم يكن الموت يخيفه أو يهمه كثيراً، وإنما كان الشعر هو همه الأول طيلة حياته، يكتبه بإناة ولا يتحمس للحديث عنه، حتى وهو مع أصدقائه الشعراء. كان يزوره الأدباء والأصدقاء، يرحب بهم وهو مبتسم، يناديهم بأسمائهم ويشارك في الحديث وهو بكامل وعيه، وذاكرته ما زالت حية متيقظة، يصغي بانتباه ويرد على الأسئلة ولا يحب الإطراء (وكان هذا طبع السياب) وحينما كانت تبدر ملاحظة مديح من أحد الحاضرين، حتى لو كانت صادقة دون مجاملة يحاول أن يتجاهلها أو يغير وجهة الحديث، فالمديح يخجله كثيراً. ومع أن السياب كان مؤمناً بقدره، كما ذكرت مستسلماً لمصيره، إلا أنني كنت ألحظ في تلك الآونة أن حالة من الزهد واللامبالاة إزاء العالم كله كانت تغشاه أحياناً، حالة صوفية تلبست تفكيره وانعكست على تصرفاته، بأن لا شيء في هذا العالم يستحق الاهتمام، وأن وجود الإنسان ليس إلا عبثاً لا طائل من ورائه. ومن هنا كما أعتقد جاء إستسلامه لمصيره وتقبله اليائس لكل ما تخبئه له الأيام القادمة، ولهذا السبب كان يستسلم للعلاج بشكل آلي غير عابئ بالنتيجة، وقليل الأمل في الشفاء .. لم أشاهده يقرأ كتباً تلك الأيام مع أن ‘السبتي’ جلب له بعض الكتب شاهدتها موضوعة قرب سريره، وكان يكتفي بقراءة الصحف، ربما لأن الكتب تحتاج إلى صفاء الذهن وتركيز التفكير، وأنى له ذلك وهو المريض المشتت الذهن، اليائس والعاجز عن تجميع شتات نفسه.؟ في إحدي زياراتي له وهو ما زال تحت تأثير تلك الحالة النفسية، التي جعلته أقرب إلى كائن روحاني غير راغب في شيء، متسامحاً، غير عاتب على أحد، ولا يحمل حقداً على إنسان. في تلك الحالة حدثته عن أوضاع الأدباء العراقيين المأساوية بعد الانقلاب البعثي عام 1963، حيث كانت الأوضاع ما زالت متأزمة وتنذر بالمخاطر. فقد أعتقل يومها وعذب العديد منهم، وحكم على بعضهم بالإعدام مثل الشاعر بلند الحيدري الذي نجا بعد ذلك بأعجوبة من الموت، وهرب الكثيرون إلى خارج العراق ،ناهيك عمن هرب قبل ذلك كالجواهري والبياتي ولميعة عباس عمارة … الخ طرحتّ عليه بعض التساؤلات التي كانت تدور في ذهني منذ فترة، حول ما كانت تنشره الصحافة العراقية عن خصومات السياب الأدبية والسياسية مع بعض زملائه من الأدباء، والانتماءات الحزبية التي ولدت كثيراً من العداوات في حينه، وجعلت السياب نفسه ضحية من ضحاياها. ولهذا وجدت من المناسب الآن أن أسمع منه كيف ينظر إليها بعد كل هذه السنين، ولا أزعم أن إجابات السياب التي سجلتها في تلك المحاورة، كما في بقية المحاورات السابقة، كانت حرفية تماماً وإنما حاولت قدر استطاعتي أن أجعلها أقرب ما تكون إلى حقيقتها أو معناها العام، وذلك نظراً لبعد الزمن وارتباك الذاكرة أحياناً. حين سألته عن ذلك أجاب بأسى وهو مطرق : – أنا شديد الأسى لما يحدث في العراق، لماذا أوصلوا الأمور لهذا الحد؟ أنا متألم لما يحدث لأصدقائي من الأدباء من اضطهاد، ولكن الكل يتحمل المسؤولية. ـ ماذا تعني ؟ - أعني أن الأدباء مثل الحزبيين والأحزاب السياسية لم يضعوا مصلحة الوطن في أولى حساباتهم، إنشغلوا بالتناحر والمكائد والمنافع الشخصية. ـ من تقصد ؟ - أقصد الجميع، لا أستثني أحداً ـ ولكن ما ذنب الأدباء وهم لا يملكون سلطة؟ - الأدباء صاروا واجهة للسياسيين وللأحزاب السياسية، أغلبهم للأسف صاروا أبواقاً حزبية وكتاب دعاية، نسوا مهمتهم كأدباء، فبدلاً من أن يمجدوا الحرية ويدعوا لحرية الرأي، صاروا يدعون للانتقام واضطهاد الآخرين بحجة مبادئ الأحزاب.. ـ هل أنت حاقد عليهم؟ - لا.. أنا لا أحقد على أحد، رغم ما أصابني منهم، ما فائدة الحقد الآن؟ ـ ولكن كانت لك أيضاً خصومات ومعارك حتى مع رفاق الأمس. ـ نعم .. ما كان عليهم أن يفعلوا ذلك معي، فقد أساءوا الي ظلماً لأنني دعوت للحرية واحترام الرأي، وكان عليّ أن أترفع عن الرد عليهم ولا أرد الإساءة بالإساءة، كانت تلك تجربة مريرة. ـ هل تقصد تلك المقالات الغاضبة في جريدة ‘الحرية ‘ حلقات ـ كنت شيوعياً ‘؟ - كانت تلك وليدة الاضطهاد والأذى النفسي الذي تعرضت له في ظروف نفسية ومرضية صعبة، ومع ذلك كنت أتمنى لو أنها لم تحدث، لأنها أساءت للجميع، كان علينا جميعاً أن نترفع عن تلك الخصومات والمهاترات، لأن الناس ينظرون إلينا كنخبة مستنيرة من مثقفي البلد. ـ تعني زملاءك الأدباء ؟ - ليس الأدباء فقط بل والسياسيين وكل العاملين في الأحزاب المختلفة. ـ ذكرت الصحافة أنك تعرضت للجواهري والبياتي، هل كانت بينكم خصومة أدبية؟ - أنا لم أكن خصماً لأحد، أنا ضد الخصومات الأدبية لأنها لا تليق بالأدب، بعض دعاة السوء روجوا للنميمة والكذب، أنا أحترم الجواهري فهو أستاذنا وشاعر كبير، ومكانته الأدبية في العراق لا يمكن أن ينال منها أحد، ولم أسمع أن الجواهري قال عني شيئاً سيئاً، فهو أكبر من ذلك. ـ والبياتي ؟ - البياتي فكر بمصلحته الشخصية من أجل الشهرة، وانضم إلى أولئك الذين حاربوني لفكري الحر، وحاولوا إهمالي وتجاهل مكانتي الشعرية، وظهر ذلك جلياً في الإجتماع الذي حضرته في بيت الجواهري لإنتخاب الهيئة الإدارية لإتحاد الأدباء، لقد شاهدت بعيني مؤامرة ضدي (وهذا يؤكد شهادة بلند الحيدري ولميعة عباس عمارة، اللتين أشرت لهما سابقاً.) ـ هل أنت حاقد عليه؟ - لا .. هو أخطأ بحقي وهاجمني ووقف ضدي ومع هذا، فأنا لست حاقداً عليه ولا حقد لي على أحد، لأنه في الحقيقة أساء لنفسه، وأنا في النهاية أفكر بموضوعية وبلا تعصب ضد أحد، فهو من شعرائنا المعروفين، وله مكانته في أدبنا الحديث .. أكبرت في السياب هذه الروح العالية، وهذا التسامي الخلقي الرفيع الذي هو شيمة المبدعين الكبار ذوي القلوب الصافية التي تترفع عن الحقد، وتعلو بكبريائها وأصالتها عن الصغائر، وتظل دائماً في الذرى العالية من إبداعها الخلاق. (هذه الشهادة نقلتها للصديق عبدالوهاب البياتي في جلسة خاصة في شقتي بالجزائر، حين زارها عام 1982 بدعوة من اتحاد الأدباء والكتاب الجزائريين. وقد أدرجها البياتي في كتابه عن تجربته الشعرية الذي صدر بعد ذلك بسنوات في بيروت، وقد اعتبرها إشادة بمكانته الأدبية يفخر بها..) قد يكون ما لقيه السياب من عسف وجحود وتجاهل لموهبته الشعرية الكبيرة، هو الذي جعل منه إنساناً عصبياً قليل التروي في تصرفاته، متسرعاً في اتخاذ قراراته، لا يحسب كثيراً للعواقب، أضف إلى ذلك ما جُبلت عليه طبيعته من حساسية مفرطة وطبع حاد صار جزءاً من تكوينه النفسي والبايولوجي، هذا كله جعله كثير الأخطاء وكثير الندم عليها حيث لم يكسب من ورائها شيئاً، إن لم نقل في الواقع إنها سببت له أذى وضرراً بالغاً في كثير من الأحيان. في عام 1981 إلتقيت الجواهري في الجزائر، بشقة صديقي الأديب الدكتور محمد حسين الأعرجي الذي كان يعمل معي بجامعة الجزائر العاصمة. الجواهري قدم من براغ بدعوة خاصة من صديقه الأعرجي، ونزل ضيفاً عنده بشقته في منطقة (بن عكنون). وانتهزنا فرصة وجوده بالجزائر فأقامت له الجامعة أمسية شعرية، قدمته فيها للجمهور الغفير من الطلبة والأدباء ورجال الإعلام الذين حضروا لرؤيته وسماع قصائده، ولا سيما قصائده الشهيرة التي مجد فيها ثورة الجزائر العظيمة وشهداءها الخالدين. في سهرة عشاء بشقة الأعرجي، حدثت الجواهري عن لقائي بالسياب في الكويت، وزياراتي له في المستشفى وهو يقضي أيامه الأخيرة هناك، ذكرت له ما قاله عن الأدباء العراقيين وخصوماتهم الأدبية، وسط الصراعات الحزبية التي عصفت بالعراق في تلك الأيام، وذكرت له بالتحديد ما قاله فيه وإشادته بمكانته الشعرية، كان الجواهري يصغي بانتباه مطرقاً وكأنه يسبح مع ذكريات الماضي، وهو يمسك بمسبحته الكهرمانية الخرز .. رفع رأسه وقال: - ‘الله يرحمه.. لم تكن بيني وبينه خصومة أبدا’، ما ذكرته يوماً بسوء .. ولم أسمع أنه ذكرني بإساءة، كانت هناك نميمة ودعاة عداوة، وحتى ما ذكرته الصحافة لم يكن إلا من باب التهويل والإثارة، أنا في الحقيقة تألمت كثيراً لما أصابه من غبن وتجاهل، فهو شاعر مقتدر دون شك، وهو أفضل شعراء جيله..لم ينصفه أحد، لا الحكومات ولا أصدقاؤه الأدباء، لقد كان موته خسارة للأدب العراقي، ولا شك أن الذين ناصبوه العداء، من الأدباء والأحزاب سيندمون على ذلك’، في الأيام الأخيرة التي تلت ذلك بدأت صحة السياب بالتدهور، وأجريت له عدة عمليات جراحية، قال الأطباء إن جسمه المتهالك والضعيف جداً، لم يستطع تحمل مضاعفاتها. حينما كنا نزوره كانت تنتابنا حالة من الفزع ونحن نرى هذا التدهور السريع في صحته حيث كان جسمه يتضاءل تدريجياً، وتغيرت ملامح وجهه الذي صارت تعلوه صفرة كالحة توحي بصفرة الموت، وكان يتحرك بصعوبة ويتعبه الكلام وأحياناً يكتفي بالإشارة من يديه الناحلتين أو عينيه الذابلتين، اللتين انكمشتا وضعف بصره بسبب داء السكري .. ولم تمض أيام قليلة حتى انطفأ قنديل الشعر المتوهج الذي كان يضيء سماء الشعر العربية بأبهى القصائد وأسماها، في ذلك اليوم الشتائي الممطر،لا بد أن تكون أظلمت سماء العراق، وخيم فوق ربوعه حزن دامع قل نظيره. في ذلك اليوم لابد أن تكون بساتين (جيكور) وصفصافها الشجي، قد ناح حزناً عليه، ولابد موجات من اللوعة غطت صفحات مياه (بويب) حيث لم يعد أحد بعد اليوم يناغيه بحنان الطفولة: (بويب .. يا بويب .. يا بويب ..) أما قريته ‘جيكور’ التي طالما ناجاها في قصائده، فهو يفتقدها الآن، ويبحث عنها حين أدرك نهايته المحتومة، فيناديها للمرة الأخيرة، بصوت مخنوق لن يصل إليها أبداً : أين جيكور ؟ جيكور ديوان شعري موعد بين ألواح نعشي وقبري أما الحدث المفجع الذي ختمت به حياة السياب (وكلها سلسلة من الفجائع )، انه في يوم وصول جثمانه إلى البصرة وتشييعه إلى مثواه الأخير ليدفن في مقبرة ‘الحسن البصري’، بدأت السلطات بتهجير عائلته وطردها من البيت الذي أعطته له دائرة الموانئ في البصرة بعد فصله من عمله. ويذكر صديقه الوفي علي السبتي الذي حمل جثمانه من الكويت أن سلطات الحدود في ‘صفوان’ رفضت حتى استلام جثمانه وكان السبتي يصرخ بذهول في وجه المسؤولين ‘يا ناس .. يا عالم .. هذا شاعركم خذوه، أسمحوا له أن يدفن في بلده .. ‘ ومن مفارقات الزمن أن الحكومة تتذكر الشاعر بعد ذلك وتقيم له تمثالاً يطل على شط العرب مرتدياً تلك البدلة الرمادية الفضفاضة ذاتها التي شاهدته فيها حين وقف على المنصة ينشد قصائده في ‘العالية’ وكأني به وهو في قبره يتمثل بسخرية مريرة بقول الشاعر العباسي دعبل الخزاعي : إني رأيتك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي بعد وفاة السياب كتبت حديثاً أدبياً لإذاعة الكويت، تحدثت فيه عن حياته ومكانته الشعرية في العالم العربي، مركزاً على انطباعاتي الشخصية عنه خلال الأيام الأخيرة التي قضاها في المستشفى الأميري، وكنت يومها أكتب أحاديث وأعد مسلسلات درامية مقتبسة من روايات عالمية، يقوم بإخراجها صديقي المخرج العراقي المبدع مهند الأنصاري الذي كنت أسكن وإياه في شقة واحدة بمنطقة (حولي) وكان معنا الفنان حكمت القيسي، بعد إذاعة الحديث تحمس الأنصاري لإخراج مسلسل إذاعي عن حياة السياب، واستشارني في كتابة سيناريو الحلقات، رحبت بالفكرة وعرضتها على عبدالله خلف رئيس القسم الثقافي بإذاعة الكويت، فاستجاب لها مشجعاً على البدء في الكتابة. كتبت عشر حلقات على شكل سيناريو تمثيلي موزع على عدة شخصيات رجالية ونسائية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحياة السياب. إستعنت بأصدقائي وبمن أعرفهم وعلى رأسهم علي السبتي في توثيق بعض المعلومات التاريخية حول حياته، ورجعت إلى بعض الكتب والدواوين المتوفرة آنذاك. أكملت الحلقات وسلمتها إلى عبدالله خلف، الذي سعد بها وطلب من مهند الأنصاري أن يبدأ العمل فوراً. إتفق مهند مع بعض الفنانين المصريين العاملين هناك في ذلك الوقت مثل إسلام فارس وزهرة العلا وعبدالله الطوخي .. على الإشتراك في تمثيل أدوار المسلسل، ولسوء الحظ مرض مهند فجأة وسافر إلى العراق، فتوقف مشروع هذا العمل الأدبي التوثيقي الذي تركت مسودات حلقاته في أرشيف الإذاعة الكويتية، ولم تفلح محاولات تجديد العمل فيه مع مخرج آخر حتى تاريخ مغادرتي الكويت عام1969. في عام 1966 زار الكويت الشاعر العراقي حسين مردان، بدعوة من صديقه علي السبتي الذي حجز له إقامة ‘بفندق دمشق’ لمدة أسبوع وكنت أزوره يومياً هناك. ثم أقام له السبتي دعوة عشاء في بيته، دُعيت لها مع بعض الأصدقاء العراقيين المقيمين في الكويت آنذاك، أذكر منهم الصحفي يوسف سلمان، وأستاذي في الجامعة الأديب والمترجم أمجد حسين (الذي ترجم رائعة شولوخوف ‘الدون الهادئ’ مع علي الشوك وغانم حمدون). تذكرنا السياب ومأساة موته وغربته وما صاحب ذلك من المتاعب التي تحملها بشهامة علي السبتي من بدايتها في البصرة حتى وصوله مريضاً إلى مطار الكويت ثم علاجه في المستشفى وعودته مرة أخرى إلى البصرة لكي يتم دفنه هناك. جددنا ذكراه وقرأنا بعض قصائده، وخاصة تلك التي كتبها في أيامه الأخيرة ونشرتها صحيفة (صوت الخليج). فجأة نهض علي السبتي وقال : الآن سأريكم شيئاً مهماً، ثم دلف داخل المنزل، وبعد دقائق عاد وهو يحمل مظروفاً كبيراً وضعه على الطاولة قائلاً: – ‘جمعت في هذا المظروف قصائد السياب التي نشرتها له في ‘صوت الخليج ‘ وهي بخط يده، مع بعض الأوراق والرسائل التي تخصه ‘.. قلنا بدهشة: هذه أوراق تاريخية مهمة، واندفع حسين مردان ماداً يده لأخذ المظروف، قائلاً للسبتي: ‘أعطني هذه الأوراق، وسأكتب عنها في صحف بغداد حين عودتي.وسوف أشير إليها في ديواني المعد للطبع – (حسين مردان جاء لجمع تبرعات من أصدقائه لطبع ديوانه ‘طراز خاص ‘ الذي ينتظر الطبع في بغداد حسبما قال لي وقد جمعنا له فعلاً في تلك الليلة مبلغاً لا بأس به )،ولكن علي السبتي رفض بشدة، قائلاً: - سأعد كتاباً خاصاً عن السياب، وهذه الأوراق هي مادتي التوثيقية. باركنا الفكرة وقلنا له إننا مستعدون للتعاون.. قال باهتمام: ‘علينا أن ننهض جميعاً لتدوين إرث السياب، إنها مسؤولية أصدقائه الأدباء’ ثم التفت إلي وكأنه تذكر شيئاً وقال : - ولكن ما مصير الحلقات الإذاعية التي كتبتها عن السياب؟ وهنا كان عليّ أن أروي قصة المسلسل الإذاعي منذ البداية، وعلى مسمع من أصدقاء الجلسة .. لم أعرف حتى هذه اللحظة (وأنا مقيم في بريطانيا منذ سنين، وغادرت الكويت قبل أكثر من أربعين عاماً) إن كان علي السبتي قد أنجز كتابه عن السياب أو جزءاً من ذكرياته معه، وإذا كان قد فعل، فلا شك أنه سيكون من أصدق وأشمل ما كتب عن الراحل الكبير، نظراً لأمانة علي السبتي ومعايشته الفعلية لتلك الظروف المروعة التي رافقت مرضه ورحيله الفاجع. هذا بعض مما أسعفتني به الذاكرة عما تبقى من ذكرياتي الخاصة مع السياب، وعساني أستطيع مستقبلاً أن أستكمل بها ما قد تسعفني به ذاكرتي لأجمع ما تناثر من شتات الماضي، وذكريات تلك الأيام التي فاتت . ولابد من القول في آخر المطاف، بأن السياب رغم كل أخطائه، وظلمه لنفسه، وتجاوزاته البريئة، سيظل واحداً من كبار المبدعين، إنساناً عظيماً وشاعراً كبيراً قل نظيره في تاريخ الشعر العربي الحديث. أما أنا، فحين أنظر إلى نفسي، مسترجعاً تلك الأحداث، متذكراً ملامح تلك الوجوه النادرة في ذلك الزمن الاستثنائي، لا بد أن أقول: كم كنت محظوظاً أنني عشت في زمن الجواهري والسياب والبياتي والحيدري ونازك الملائكة. وكم كنت محظوظاً أكثر أني قابلتهم شخصياً وتحدثت إليهم، وجمعتني مع بعضهم صداقة حميمة، ستظل أبداً مصدر فخري واعتزازي، فهي عندي من أغلى ذكريات العمر عن ذاك الزمن الذي لن يتكرر ولن يعود !
------------------------------------ * شاعر من العراق يقيم في لندن عن (القدس العربي)
|