المقاله تحت باب قضايا في
07/01/2012 06:00 AM GMT
لم يتوقع مهدي صاحب العكيلي انه سيقف يوما على ذات الجدار الذي رسم فوقه أيقونة الحب الخاصة به، والتي تمثل صورة قلب مطعون بسهم ليخط فوقها رقمه الإنتخابي وشعار كتلته السياسية التي خاض بها سباق الإنتخابات للفوز بمقعد في البرلمان العراقي. فبعد عقود طويلة من النسيان، فوجئ العكيلي بوجود تلك الأيقونة، التي طالما تباهى بها أثناء صباه، وكان حينها يُحدِث شباب الحي الذي يقطنه في تلك المرحلة عن قصة غرامه بأحدى فتيات المحلة التي لم يتبق من بقايا أحرف اسمها على الجدار سوى خطوط مبهمة. والعكيلي هو احد المرشحين الذين خاضوا الانتخابات عن مدينة كربلاء ذات الطابع الديني المتشدد في الإنتخابات النيابية الماضية، وأمضى معظم أيام شبابه وصباه في محلة باب السلالمة وهي احدى اهم واقدم احياء كربلاء القديمة وسط المدينة في الوقت الحالي. اصدقاء العكيلي ساعدوه في توزيع الملصقات الجدارية الخاصة بالدعاية الإنتخابية وتعليقها في الشوارع والساحات العامة وجدران الأبنية العامة، ومن بينها ذلك الجدار الذي خط عليه كلمات حبه لتلك الفتاة، أثناء سعيه لحشد أصوات سكان الحي القديم الذي نشأ فيه للحصول على دعمهم في الإنتخابات. السياسي الحالي والعاشق القديم يتحدث مبتسما محاولا إخفاء حسرته على ذكريات لحظات السعادة التي أَفُلَت مع محبوبته. ويقول "الدنيا صغيرة كما يقولون، فها أنا أقف اليوم في المكان ذاته الذي قصدته قبل عقود لأعلن عن مشاعري لمحبوبتي، مع الإختلاف الجذري فيما افعله الآن وما فعلته سابقا". العكيلي لم يحظَ في نهاية الأمر بوصال محبوبته في صباه، مثلما أخفق في الحصول على اصوات كافية تؤهله للحصول على مقعد نيابي. جدران الأبنية العامة في كربلاء وواجهات الجدران التي تحيط الشوارع والأزقة، والتي طالما خط عليها الشباب ذكريات الحب في مراحل الصبا باتت اليوم مكانا لرسم الشعارات الدينية، واللافتات السياسية على الرغم من قيام بعض الجهات البلدية وأصحاب المساكن بمكافحتها، لما سببته من تشويه لواجهات المباني. انتشار التعليقات والعبارات ذات الطابع الشبابي الخفيف كان أمرا مألوفا لدى سكان المدينة قبل عام 2003، قبل ان تبدأ الأوضاع بالتغير التدريجي حتى وصلت الى اختفاء تلك التعليقات بالكامل. بعض التعليقات كانت تُجابَه بالسخرية وأخرى بالأستظراف، مثل "فلان يحب فلانة" و "الحب عذاب قاتل للشباب"، أو أبيات من الشعر لا يعرف القصد منها، وأحيانا تعليقات نقدية ساخرة، خصوصا على جدران المدارس مثل "جبر + هندسة = هروب من المدرسة". يقول علي معاش (مواطن، 24 عاما) "كانت تلك الكتابات تعكس واقعا أكثر براءة مما تمثله الشعارات المزكرشة التي تنشرها الأحزاب السياسية او الجماعات الدينية في الوقت الحالي". ويضيف معاش اثناء تمعنه باحدى جدران المدينة "اعتقد ان الأجواء السياسية المهيمنة على المشهد الإجتماعي صادرت بشكل غير مباشر العديد من المجالات الإنسانية الأخرى التي كانت متاحة امام الشباب وباقي شرائح المجتمع". ويعتقد هذا المواطن أنه وعلى الرغم من كون تصنيف كلا الممارستين بالسلوك السلبي، إلا أن ما يكتبه المراهقون على الجدران اقل إزعاجا مما تخطه الأحزاب أو بعض الجهات الدينية. ويقول "صحيح بعض ما كان يكتبه الشباب والمراهقين لا يخلو من المشاكسة، إلا أنها بكل الأحوال لا تخلو من الطرافة أيضا، فما نراه اليوم عند تجولنا في شوارع المدينة أشبه مايكون بـ(توجيهات وضوابط) التي يُفرَض على الجميع الخضوع لها مرغما". الملصقات واللافتات السياسية والدينية يتسع انتشارها أثناء بعض المواسم والمناسبات الخاصة مثل الإنتخابات البلدية أو البرلمانية أو المناسبات الإسلامية التي تتنوع بين حزينة ومفرحة مثل ذكرى وفاة الأئمة والشخصيات الإسلامية المعروفة ومراجع الدين والعلماء، أو مفرحة مثل الولادات والأعياد. وغالبا ما تشير تلك اللافتات إلى نصائح تربوية أو دينية أو اجتماعية، ويشرف على نشرها هيئات ومنظمات شبه رسمية وشعبية، ولا تغيب أحيانا لافتات التأييد والشكر التي ترفعها بعض الجهات كتعبير للإمتنان لبعض الشخصيات الرسمية الرفيعة، إبتداءا من رئيس الوزراء أو المحافظ وغيرهم الى نهاية القائمة. وتبقى بعض اللافتات لمدة أطول من عمرها حتى تتحول لاحقا الى ذكرى منسية على الجدران وتتمزق بفعل حرارة الصيف اللاهبة او الأمطار والرياح الشتوية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، احدى اللافتات المتروكة منذ أكثر من خمس سنوات مضت على احد الجدران، كُتِبَ عليها عبارة "انتخبوا القوي الأمين"، التي كانت تروج لإعادة التصويت لرئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، فيما صمدت بالقرب منها لافتة أخرى حملت شعار "البعث والإرهاب وجهان لعملة واحدة". عبارات أخرى انتشرت على بعض الجدران والحواجز القريبة من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش خُطت عليها عبارات كثيرة من بينها "نحن من الوطن والمواطن" و "احترم تحترم" و"القانون فوق الجميع". والملفت هو انتشار بعض عبارات الإستهجان على جدران الشوارع الرئيسة، ومنها عبارة "الغناء يورث النفاق" التي تنهى السكان عن الاستماع الى الأغاني باعتبارها أمر مكروه دينيا ويُحَرِمه الكثيرون. الشاعر والأديب العراقي لطيف القصاب يرى ان العبارات الشبابية التي كانت تنتشر بين جدران الأقة والشوارع هي عبارات جميلة تتسم بالشفافية، وتؤرخ لـ"عهد وردي" لم يُكتَب له الإستمرار. ويقول انه "مع اختفاء تلك العبارات من شوارعنا تم إسدال الستار على حقبة رومانسية طالما تغنى العراقيون بها، فتلك العبارات كانت مانعة وجامعة تُبدي من العاطفة شيئا كثيرا خصوصا في طبيعة العلاقة الفطرية بين الرجل بالمرأة على الرغم من بساطتها وعفويتها". عودة عبارات الحب والغزل الى جدران كربلاء مرهونة بالإستقرار الإجتماعي والسياسي في البلاد وانحسار التشدد الديني في المدينة، وهو أمر قد يطول انتظاره في الوقت الحالي . لكن القصاب يبدو متفائلا في هذا الجانب أكثر من غيره رغم تزايد ظاهرة كبت الحريات الشخصية ومنها كتابة عبارات الحب واعتبارها نوعا من الخروج على الدين وتعاليم المذهب الشيعي. "مهما طال أمد اختفائها عن شواهد الجدران لابد أن تعود يوما" يبتسم القصاب. عن "نقاش"
|