المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
16/12/2011 06:00 AM GMT
يختطّ الكاتب العراقي رشيد الخيّون المتفرّغ للأبحاث الدينية، لا سيما الفرق والنحل الإسلامية والشرق أوسطية نهجاً دقيقاً. ويقارب المفاهيم والتصورات الشائعة مقاربة عقلانية تجلو كل ما يشوبها من شوائب الخرافة والأسطورة. ويتميّز الخيّون بهذه السلاسة الأسلوبية في عرض أفكاره، أو مناقشة أفكار الآخرين. سلاسة تتواشج فيها المعلومة بالرواية التراثية، والتشريع بالتاريخ، والمصطلح العلمي بالملًح والطرائف. وفي كتاب جديد يحمل عنواناً موحياً «بعد إذن الفقيه» ـ دار مدارك ـ لا يخرج المؤلف عن سمت كتاباته المعروفة، السريعة التمثّل، النائية عن تقعّر الكلام، وتكلّف اللفظ، رغم غزارة استخدامه الاستشهادات الشعرية العربية القديمة، والمقاطع النثرية للكتّاب العرب الكلاسيكيين. العنوان على طرافته يثير سؤالاً عن مكانة الفقيه المسلم الذي يستأذنه الكاتب افتراضاً، باعتبار الأمور المثارة هي من صلاحية رجل الدين واختصاصه، وكنت أؤثر أن يطرح الخيّون هذه الصلاحية على بساط البحث كجزء جوهري من مقاربته. حيث إن موضوعاته التي يتطرّق إليها، مثل موضوعات النساء والطفولة، وتربية الأولاد، والحفاظ على حقوق المؤلفين، وقضايا التعليم والوظيفة، أمور لا تقتصر على مهام علماء الدين، إنما يشاركهم فيها، بل يتقدمهم علماء التربية والنفس وعلم الاجتماع. لكن استئذانه الفقيه، في معالجة هذه المسائل المشتركة، إنما جاء ثمرة استيلاء هذه الطبقة على الفضاء الإسلامي العام والخاص، بدءاً من تدبير السياسة والحكم، إلى حياة الأسرة، وحتى إلى اختلاء المرء مع نفسه. وقد توسّعت المظلة الدينية حتى غطّت في هذه الآونة كل الظواهر الأخرى غير الدينية بالأصل. وهو في استئذانه المفترض، يُقرّ ضمناً لرجال الدين بدور متزايد، ويحاول أن يُبعد عنه تهمة التطفّل على الحيّز الذي يهيمنون عليه، وإن كان يرى أنهم لا يُحسنون فهم المسائل على وجهها الصحيح، أو يتعسّفون الرأي فيها، فهو لا يحاول زحزحتهم عما وضعوا أيديهم عليه. ولا يرتاب مما ندبوا أنفسهم له، من مهام ومسؤوليات تتجاوز حدود الديني، إلى حدود الدنيوي. مع ما يستتبع هذا التجاوز من أحكام كثيرة، وعلى رأسها الأحكام الخاصة بالنساء، وهي جلّ متن هذا الكتاب. أحكام تُغتصب باسم الدين، ولا تقف عند حقوق المرأة، إنما تتدرّج إلى متعلقات أخرى، مثل مسائل الزواج والطلاق، وتنشئة الأطفال، وأحكام المصافحة، والاستمتاع، والعشق، والوطء، والختان، والخفض، والتعلّم والعمل، ومسألة الحجاب، والعديد من الموضوعات الحساسة والحاسمة التي تشكّل العمود الفقري لحركية المجتمعات العربية والإسلامية، وإطرادها المستمر.
مكانة الكهنوت
اكتفى رشيد الخيون بالاستئذان من فقهاء العصر، بنيّة مجادلتهم، وتصويب آرائهم لتراعي روح الأزمنة الحديثة، وإظهار قصورهم عن مواكبة جريان الحياة، ودحض أقوالهم وفتاويهم في أمور أساسية، وعلى رأسها قضية المرأة، والتشكيك أو الطعن في بعض اجتهاداتهم، وكان حرياً به أن يوطّئ لكتابه بمقدمة وافية، عن وضعية هؤلاء الذين يساجلهم، والذين يصادرون آراء الآخرين، ويُضفون على آرائهم القدسية والمهابة والتعظيم. ويمارسون سلطة معنوية على الناس، ويراقبون سلوكهم، ويلتمسون منهم الطاعة والانقياد باسم المطلقات. وأن يبحث في كيفية رسوخ مكانة الكهنوت الإسلامي في النفوس، الى درجة جعلته يستأذن بنفسه الفقهاء، لولوج قلعتهم التي شيّدتها التربية العربية الإسلامية التقليدية فوطّدت سمعتهم، وعزّزَت استئثارهم بسلطة التأويل، والحجر على كل رأي خارج عن قواعدهم المتوارثة والمنضبطة تحت سقف المؤسسة الدينية الواحدة. المؤسسة المتضامنة رغم تباين مذاهبها، في المنافحة عن منزلتها ومصالحها وضمان استمرارها، حسب عبارة المفكر عبد المجيد الشرفي. والقضية ليست ناجمة عن احتكار هذه الطبقة الحقيقة المطلقة فحسب، إنما اعتبار آرائها الفقهية أراءً ملزمة وسارية ومطاعة، وهو ما يذهب اليه الخيّون ذاته، مع أن عوامل التحوّل التي طرأت في العصر الحديث في حقول المعرفة الإنسانية والطبيعية، بدّلت المنظورات وأدوات القراءة، وحوّلت المادة الدينية إلى مادة دراسية يضطلع بها علماء الاجتماع والإناسة وعلماء النفس. فيفككون الجذور النفسية اللاواعية، والجذور الميتولوجية للتحريمات الدينية، وهو ما سعى اليه الكاتب، واعتمد عليه في شرحه لأحكام الطعام، وارتباط التحريم بفكرة المسخية والطوطمية، وفكرة تقديم القرابين الحيوانية. المتتبّع لفصول الكتاب يتبين له أن رجال الدين وقفوا بالمرصاد لكل محاولة لإضعاف سلطانهم. وأسطع مثال على ذلك موقفهم من قوانين الأحوال الشخصية، حيث يرفض جميع الفقهاء المسلمين، على اختلاف مذاهبهم ومللهم أي مسّ أو حدّ من سلطتهم الرقابية على القوانين، لا سيما قانون الأحوال الشخصية. بل اتهم هؤلاء الفقهاء شيعةً وسنةً الدولة العراقية التي أصدرت قانون 188 لعام 1959 الخاص بتوحيد سن الزواج، وتقييد تعدّد الزوجات، والمساواة في الإرث بين الذكور والإناث، اتهموها بأنها تخالف الشريعة الإسلامية. ومع أنه غالباً ما كان بين الدولة العربية والمرجعية الدينية تجاذب وتنازع على سنّ القوانين أو إبرامها، إلا أن الدولة في معظم الأحيان كانت تعمد إلى التسوية أو الرضوخ لآراء الفقهاء. ومن المضحكات المبكيات التي ينقلها المؤلف، أن تسوية حصلت بين السلطة العراقية ورجال الدين أناطت، حسب قرار صدر عن مجلس قيادة الثورة، رقمه 1708 عام 1981، الطلاق بين الرجل وزوجته، على أساس الموقف السياسي، فمُنحت الزوجة الحق في طلب الطلاق من زوجها بجرم خيانة الوطن، أو التهرّب من الخدمة العسكرية. وقد قرأتُ مؤخراً فتوى مماثلة لأحد المشايخ المصريين، هو الشيخ عمر السطوحي، تُحرّم الزواج من فلول نظام مبارك وأعضاء حزبه الوطني. وتوجب على الزوجة المتزوجة من رجل من الحزب الحاكم سابقاً ألا تعاشر زوجها. ورغم خطورة دور رجال الدين، وتوسّع نفوذهم، وتغلغلهم بين الناس، وانطوائهم على مسلماتهم وتقاليدهم وأعرافهم المتوارثة. إلا أنهم في بعض الأحيان كانوا مضطرين إلى الانصياع إلى متطلبات المرحلة التاريخية، أو التحوّل الاقتصادي، وإلى مراعاة التقدم العلمي والتقني. وبوطأة هذا التقدم، تبدّلت نظرة الفقهاء المعاصرين إلى إباحة أكل اللحوم أو تحريمها، فقدّموا الدواعي أو الأغراض الصحية والوقائية التي شاعت لإضفاء الطابع العقلاني على أحكامهم. في حين حفلت كتب التفسير القديمة بالتصورات الميتولوجية والأسطورية، لا سيما اعتبار بعض الحيوانات تحوّلات مسخية لبعض البشر العاصين الذين خالفوا الشرائع الدينية. حيث وُصفت بعض الحيوانات بأنها مطايا الجن، أو أنها كانت قبلاً أجساداً بشرية لأناس اقترفوا الأفعال الشنيعة واللاأخلاقية، فتحولوا إلى حيوانات، كالفيل الذي يُحرّم أكله، وكان في الأصل شاباً جميلاً ينكح البهائم من البقر والغنم. كذلك الدعموص الذي كان يجامع النساء من دون أن يغتسل من الجنابة.
الأعراف القبلية
وإذ يتطرق رشيد الخيّون إلى قضية الحجاب، فإنه يعيد النظر في السجال حول هذا الموضوع الكلاسيكي، ويسترسل في المحاججات والتفاسير المتباينة، ويقف عند نظيرة زين الدين في كتابها «السفور والحجاب». والمعارك الكلامية بين الإصلاحيين والمحافظين، والمشاحنات التي زامنت فتح مدارس البنات في بلده العراق. ويردّ الخيّون معظم المواقف المنحازة إلى الذكورة على حساب الأنوثة، إلى هيمنة الأعراف البدوية والقبلية في حياتنا. ويحسب معاملة الفقهاء اللقيط وابن الزنا بهذه القسوة، معاملة لا تناسب هذا العصر القائم على الحريات والمساواة وحقوق الإنسان، وتناقض مفهوم العدالة التي لا يمكن أن تحاسب المرء على جريرة أهله، أوعلى ذنب لم يقترفه. ويتطرّق إلى فرض الزواج المبكر على الفتاة، وإلى الاستمتاع بالطفلة قبل البلوغ، وتفخيذها عند بعض فقهاء الشيعة المحدثين، فيعدّه أمراَ منافياً لحقوق الطفولة، وهتكاً لها بوصفه نوعاً من الاغتصاب. ولأن مركز الثقل في الكتاب هو مسألة المرأة، فإن المؤلف يتطرّق إلى جوانب عديدة من هذه القضية الملحّة والأساسية في البناء الأسري والاستقرار النفسي والعائلي، مستقصياً الأحكام والفتاوى التي كرّسها الفقهاء لمفاقمة الإجحاف والظلم بحق المرأة طفلة وزوجة ووالدة. ويعجب كيف أن درجة التمـــييز بين المرأة والرجل، بلغت عند هؤلاء حدّ التفرقة بين بول الأنـــثى النجس، وبول الذكر الأقل نجاسة، حيث يُكتــفى بنضـــح ثوب الصبي إذا ما بال فيه. ووجوب غـسل ثوب الصغـــيرة الذي أصابه البول. ويتناول الخيّون موضوعاً محدثاً، هو السرقة الفكرية والأدبية وموقف الفقهاء منها. وهو أمر شكا منه المؤلف من قبل، بعد أن اكتشف من سطا على نصوصه ونحلها لنفسه. وقد استفتى الخيّون علماء مسلمين من مختلف المذاهب حول موضوع السرقات الأدبية، وكان منهم آية الله خامنئي، وعلماء من الأزهر، وآية الله محمد حسين فضل الله، وغيرهم. فكان جواب الأخير أكثرهم صراحة. جازماً بأن لصوصية الكتابة محرّمة شرعاً، لأنها معتبرة من المُلكية الفكرية. في حين نفى آخرون أية مماثلة أو قياس بين سارق الأفكار، وسارق المال. أو طابقوا بينهما مُلتمسين للمنتحل الأعذار. إن كتاب الخيّون يشكّل حقاً أدبياً ومعنوياً وفكرياً من حقوق المثقف المعاصر، الذي يحاول أن يحتلّ دوراً أساسياً في إدارة مسائل الخلاف الفكري والديني والاجتماعي، في ضوء تطور الحقول المعرفية وتحوّلات المعقولية الحديثة، التي لا مناص من انعكاسها على كل القطاعات والفضاءات، وعلى رأسها الفضاء الديني، لما له من تأثير عميق في تشكيل البنية الذهنية لدى قطاع أساسي من جماهير المسلمين. ولا يمكن أن يبقى الميدان الديني الذي تمثله المؤسسة الدينية بمنأى عن هذه المؤثرات. فإن إغماض عينيها عن هذه المعطيات الجديدة، يجعل سلوكها، على ما يقول عبد المجيد الشرفي سلوكاً انتحارياً.
|