حوار مع رضا الظاهر: تيار الثقافة السائد يؤبد مشروعية السلطة |
المقاله تحت باب منتخبات يقف الباحث والكاتب والمترجم العراقي، رضا الظاهر، في منطقة مغايرة بالنسبة للمشتغلين في حقل الثقافة؛ ربما هو من القلائل الذين اجتهدوا في البحث عن الصلة بين المنهج الماركسي والحياة المتجددة، أعادته من "الصقيع الجامد الى دفء الحياة".. الظاهر ناقد نشيط ضد "الثقافة السائدة وتأبيدها". ويكون بذلك قد خلق لنفسه، على مدى سنوات، علامة فارقة في سجل المشتغلين في حقل الفكر والثقافة. الأمر الآخر الذي تميز به الظاهر، هو اشتغاله الدؤوب على اعادة قراءة الأدب، اذ ينظر إليه الظاهر على انه "إعادة اكتشاف القيم الجمالية، ورؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نص قديم من وجهة نظر نقدية جديدة". وكان هذا واضحا في كتبه الأخيرة :"غرفة فرجينيا وولف" و"الأمير المطرود" و"أمير آخر مطرود"، وفيها يلتقط الظاهر صورة المرأة المعزولة، المشوشة والمقيدة. ليفتح الباحث، عبر ذلك، مواجهة مغرية مع "البطرياركية".عن اشتغاله في حقل الثقافة كباحث وناقد يسلط الضوء على الوظيفة الحقيقية للأدب، باحثا عن شيء آخر، غير تلك الوظيفة الجمالية فيه، كان هذا الحوار: * يجتهد الباحث والكاتب رضا الظاهر في إعادة قراءة الأدب واستخراج الإيقونات المعرفية منه. هل هذه محاولة لتغيير وظيفة الأدب، أو إعادة توجيه مساراته ؟
- ليست محاولة لتغيير وظيفة الأدب وإنما إضاءة هذه الوظيفة. فهناك من يرى أن للأدب (والفن عموماً) وظيفة واحدة هي الوظيفة الجمالية، وهذه نظرة محدودة وقاصرة. للأدب وظائف عدة ارتباطاً بالمتلقين وعملية الاستقبال. وبوسعنا القول، في هذا السياق، إن هناك وظيفة التواصل متمثلة في العلاقة بين الأديب والمتلقين، والوظيفة المعرفية متمثلة في توسيع المعارف عن الانسان والعالم، والوظيفة الفكرية متمثلة في صياغة آراء الناس ومشاعرهم، والوظيفة السياسية الأخلاقية متمثلة في تكوين القيم والمثل السياسية والأخلاقية، وأخيراً الوظيفة الجمالية متمثلة في تكوين الوعي الجمالي والحاجة الى الأدب والفن والإبداع.وقد يبدو أحياناً أن هناك تناقضاً ظاهرياً بين مهمة الأدب الأخلاقية ومهمته الجمالية. غير أن هناك علاقة وثيقة بين المهمتين، ذلك أن طبيعة البشر، ككائنات اجتماعية مفكرة، طبيعة أخلاقية أساساً. وعلى الرغم من وجود بشر الأخلاقيين، فان الأدب يظهر جمال الانسان ككائن اخلاقي. وحتى عندما يوغل الكاتب في استخدام وتكثيف الرمز يصعب تجاوز الحاجز الوجودي بين الأخلاقي والجمالي. ويعيدنا سؤال العلاقة بين الأدب والسياسة الى العلاقة بين الوظيفة النقدية والوظيفة السياسية للأدب. فوجود الأدب، وهو المتخيَّل، نقد لوجود المجتمع، وهو الواقع. وفي سياق وظيفة الأدب التغييرية لا يمكن أن يتصالح المتخيل مع الواقع. وترى الوظيفة السياسية للأدب أن دورها يتمثل في تحرير الخيال كي يتمرد على واقعه باتجاه تغييره. وبالتالي فان الوظيفة السياسية للأدب لا تلبي رغبة ومصلحة المؤسسة السياسية، وإنما تسعى الى التغيير. ويتعين القول إن إعادة قراءة الأدب هي إعادة اكتشاف القيم الجمالية، إعادة نظر، رؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نص قديم من وجهة نظر نقدية جديدة. البطرياركية في الأدب * في (غرفة فرجينيا وولف) و(الأمير المطرود) و(أمير آخر مطرود) هناك التقاط واضح لصورة المرأة المعزولة، المشوشة والمقيدة. أترى أن الأدب تمكن من تقليص دائرة الأبوية ونجح في مواجهته البطرياركية ؟ - ليست مهمة الأدب تقليص دائرة الأبوية، أو خوض معركة ضد البطرياركية. فهذه المهمة تنهض بها قوى التغيير الاجتماعي المضادة للبطرياركية. ولا ريب أن للأدب دوراً هنا ارتباطاً بالوعي الجمالي والسياسي.إضاءة صورة المرأة المعزولة، المشوشة والمقيدة، هو إضاءة لوضع المرأة في الثقافة البطرياركية. ففعل وعيها الأولي هو الإحساس بالضياع. لكن ماهو أسوأ من الضياع هو تشوش الوعي الذي يجعل طبيعة الضياع، بل وحقيقة الضياع نفسها، غائمة. إنها، وهي مطوقة بالأساطير والصور والعقائد الجامدة والتعريفات والقوانين والقيود والخوف، مضللة بالاعتقاد بالنظريات المنسوجة حولها، التي تؤبد تبعيتها، وتمنعها من معرفة ما هي محرومة منه.البطرياركية نظام من المعتقدات والقيم والمؤسسات يجعل افتراضاته تبدو نتاجاً لطبيعة إنسانية شاملة، وليس مصالح سياسية مكتسبة. وآيديولوجيا البطرياركية وسيلة فعالة لتأبيد الواقع من خلال إقناع البشر بأن التقسيم الراهن للسلطة طبيعي وحتمي. وهكذا فان الرجال، الذين منحتهم البطرياركية حق تمثيلها، لا يحتكرون السلطة فقط، وإنما يقومون بذلك على أساس الحق الطبيعي المزعوم بعجز النساء، وهو حق امتد عبر تاريخ كل المجتمعات البشرية.غير أن اتساع مساهمة النساء في مجالات المعرفة المختلفة دليل على المدى الذي تتحرك فيه النساء خارج حدود إرغامهن على الصمت، وقدرتهن على التعبير عن واقع. لكن العوائق ماتزال جدية، فالواقع المهيمن الذي يجري فيه الانتقاص من قيمة النساء والابقاء على إسكاتهن وإقصائهن عن الفعل مازال هو الواقع السائد، المعترف به والمقبول عموماً. وهذا الواقع المهيمن يريد من النساء قبول "حقيقة" أنه من الصعب عليهن القيام بفعل لأنهن "تابعات" وليس لأنهن نساء حرمن من التعبير عن أنفسهن، وأنهن بلا صوت ومرغمات على الصمت. * مع ذلك يتهم النقاد المرأة الأديبة باستسلامها لمعايير البطرياركية. نصوصهن تتماهى مع الواقع الأبوي. يحدث هذا، على الأقل، في النتاج الأدبي العربي. - يحدث هذا في كل نتاج أدبي، لكنه أكثر شيوعاً في النتاج الأدبي العربي لأسباب مرتبطة بالتخلف الثقافي والاجتماعي. لا يمكن لأحد أن يبقى محصناً من تأثير الواقع البطرياركي رغم أن كثيراً من النساء يرفضن مقدماته المنطقية، ويصارعن من أجل التحرر من قيوده. غير أن الواقع المهيمن يبقى مرجعاً حتى بالنسبة لأولئك اللواتي يسعين الى تغييره.وما هو أكثر خطورة في تصوير النساء هو أنه بسبب هيمنة العقل البطرياركي يجري إدراك مواقف الرجال باعتبارها المواقف الإنسانية الشاملة، وهو ما يؤبد النسخ الذكورية للأنوثة. وهكذا فان النساء، في الغالب، ينظرن الى النساء كما ينظر الرجال، متقبلات نسخ الرجال عن الأنثوي باعتبارها نسخهن. فالنساء مازلن يحلمن عبر أحلام الرجال كما تقول سيمون دي بوفوار. وهذا سبب رئيسي للحاجة الملحة لإعادة قراءة قراءات الرجال للنساء لا في إطار الأدب حسب، وإنما في إطار أشمل.ومن ناحية أخرى فان وجهة نظر السرد ذكورية عادة، فهي تدفع القارئة الى التوافق مع قيم وافتراضات النص، وتظهر بنية الحبكة التقليدية مصير المرأة باعتباره القبول السلبي بالخيار الذي يقيدها. وهكذا فان ممارسة إعادة القراءة تحتاج الى مقاومة الدلالات الآيديولوجية لبنى الحبكة الكلاسيكية بما يمنح فضاءات بديلة منفتحة من حرية النساء في إطار النص. وعلى النساء أن يقاومن السلطة الاستجوابية لوجهة نظر السرد التي تدفعهن الى الخضوع لقيم النص السائدة، ويسعين، بدلاً من ذلك، الى موقف المقاومة حيث الكتابة تستجوب نفسها. ويتعين على تحليل القراءة للغة والمجاز أن يشتمل على رد فعل على التناقض والازدواجية لكي تستطيع أن تعيد صياغة لا سلطة النصوص البطرياركية حسب، وإنما، أيضاً، الخوف والقلق الذي تعبر عنه، ضمناً، في رد فعل على سلطة النساء المضادة.إن شعور المرأة في مرحلة مبكرة من الوعي بسطوة الثقافة الذكورية السائدة يضطرها الى استخدام أساليب هذه الثقافة ومحاكاة نتاجاتها في مواجهة هيمنتها. وتكتشف المرأة، بتطور وعيها عبر الصراع، أن الثقافة السائدة تتعامل معها كموضوع. وفي مرحلة نضج الوعي تتحدى كتابة النساء الأفكار الجاهزة والمسلمات، ويؤدي اتساع مشاركة المرأة في الفضاء الثقافي الى ظهور صوت مغاير لصوت الثقافة السائدة. ومن الطبيعي أن تشعر الثقافة السائدة بخطر هذا الصوت القادم، الجديد، المختلف. * قلت في حوار سابق أنك درست في فصول كتاب (غرفة فرجينيا وولف) العوائق التي تواجهها الكاتبة، وأسباب اتجاهها الى الرواية أكثر من غيرها من فنون الأدب. برأيك لماذا الرواية دون غيرها ؟ - في (غرفة فرجينيا وولف) درست الأسباب التي جعلت كل كاتبات القرن التاسع عشر روائيات على الرغم من اختلافهن البين في المزاج والحساسية. وأنا أتحدث على وجه التحديد عن الرواية الانجليزية، وبالذات عن "الأربع الكبيرات"، وهن جين أوستن وتشارلوت برونتي وإميلي برونتي وجورج إليوت. فعلى الرغم من أن الخطر على الكتابة أزيل في ذلك العصر، فقد كان مايزال هناك، على ما يبدو، ضغط شديد على النساء للتوجه الى كتابة روايات. ولم تكن هناك نساء أكثر اختلافاً في الميول والشخصية من أولئك الكاتبات الأربع. فلم يكن هناك ما يجمع بين جين أوستن وجورج إليوت. وكانت جورج إليوت النقيض المباشر لإميلي برونتي. ورغم ذلك كانت الكاتبات الأربع يمارسن المهنة ذاتها.كانت الرواية و ماتزال الشيء الأسهل كتابة بالنسبة للمرأة، وليس من الصعب علينا أن نعثر على الأسباب. فالرواية هي الشكل الفني الأقل تطلباً للتركيز إذ يمكن التوقف عن كتابتها أو الشروع بها بطريقة أسهل مما هو الحال مع المسرحية أو القصيدة. فقد كانت جورج إليوت تترك كتابتها لتعتني بوالدها. وكانت تشارلوت برونتي تركن قلمها جانباً لتقشر البطاطا. وإذ تعيش المرأة في غرفة الجلوس المشتركة محاطة بالآخرين، فأنها مدربة على مراقبة الشخصية وتحليل المشاعر. لقد تدربت المرأة على أن تكون روائية لا أن تكون شاعرة. وتأثرت روايات القرن التاسع عشر، التي كانت روايات رائعة، تأثراً عميقاً بحقيقة أن النساء اللواتي كتبنها أبعدن، بسبب جنسهن، عن أنماط معينة من التجربة التي هي ذات تأثير عظيم على الرواية.ومن ناحية أخرى فقد جاءت النساء الى مشهد الرواية متأخرات، كما جئن متأخرات الى التعليم. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الدخول الى هذا العالم، كانت كل الأشكال القديمة للأدب قد تحددت وأصبحت صلدة، وكانت الرواية، وحدها، فتية بما يكفي لأن تكون طيعة بأيديهن حسب فرجينيا وولف. * هل تعارض مقولة أن إعادة قراءة الماركسية في اللحظة الراهنة تنطوي على الكثير من الايهام بحداثة ما ؟ كل ما يجري، بحسب تلك المقولة، هو تأكيد على أهمية التقليد الماركسي، دون خلق صلة مع عناصر الحياة المعاصرة. - إعادة قراءة الماركسية تعني، في الجوهر، من بين أمور أخرى، الصلة بالحياة المتجددة، ذلك أنها نظرية لنقد الرأسمالية، نقد الواقع القائم، ومنهجية ضد الثقافة السائدة وتأبيدها.لسنا بحاجة الى أمثلة كثيرة على عودة ماركس الحالية بعد أن تنبأ كثيرون بموت "المناهج" الماركسية. ومن بليغ الدلالة أن خصوم ماركس الفكريين وصفوه في أواسط تسعينات القرن الماضي بأنه "المفكر الأعظم المقبل". واليوم يشكل ماركس، الذي اختير فيلسوف الألفية الثالثة، موضوع مؤتمرات وحلقات بحث.والحق أن العودة الراهنة الى ماركس هي نتاج أحداث متداخلة متفاعلة. ومما له دلالة أن الماركسي البريطاني المرموق إريك هو بسباوم قال إن "العالم الذي حولته الرأسمالية والذي وصفه ماركس ببلاغة عام 1848 هو، في الواقع، العالم الذي نعيش فيه بعد 150 عاماً".غير أن هذا الانبعاث يشتمل على عدد من نقاط الضعف لابد من التغلب عليها إذا ما أردنا له أن يتعزز. فالعودة الى ماركس هي، أولاً، جزئية وانتقائية. ومن ناحية ثانية فان هذه العودة ليست عودة الى ماركس بمعنى التقليد الماركسي الثوري. فالاهتمام المتجدد اهتمام واقعي على الرغم من أنه قد يكون اتجاه أقلية حتى الآن. غير أنه بدون الاعتراف بأن الماركسية تقليد فان أولئك الذين يرغبون في رؤية انبعاثها سيكونون عاجزين. وأخيراً فان الاهتمام المتجدد بماركس يواجه عائق افتقار أنصاره الى صلة مباشرة مع الحياة. فهذا الاهتمام مايزال، الى حد كبير، ظاهرة مقصورة على جيل أقدم من المثقفين، وفي الغالب أولئك الذين حفزتهم أحداث عام 1968 وما أعقبها. وعلى الرغم من توفر بعض الدلائل على وجود جيل جديد تواق الى إعادة الكتشاف التقليد الماركسي، فانه ما يزال يتعين عليهم أن يعبروا عن أنفسهم بصورة أوضح وأشمل. وعلى أية حال فانه إذا ما أردنا لماركس أن يبقى حياً، أي أن نعيده من الصقيع الجامد الى دفء الحياة، فعلينا أن نفعل كما فعل هو مع ديالكتيك هيغل، أي أن نوقف ماركس على قدميه بعد أن أوقفناه طويلاً على رأسه. * كثيراً ما تحدثت عن الإرث الجمالي في الثقافة الماركسية، لكن ألا تعتقد أن "القليل" الذي قاله ماركس نفسه عن "الجمال" أمر يدفع الى البحث مجدداً حول قدرة النظرية على التجدد، خصوصاً في مجال فلسفة الفن ؟ - الأمر يتعلق بالمنهجية، لا بـ "القليل" أو "الكثير". من الطبيعي القول إن ما نجده في أعمال ماركس من تحليلات وإشارات الى أعمال أو ظواهر فنية لا يصل، على الرغم من أهميته الفائقة، الى نظرية جمالية منظومة. فهذه النظرية تبلورت ملامحها لاحقاً على يد طائفة من الفلاسفة والباحثين والنقاد الماركسيين الذين ساهموا مساهمة كبرى في بلورة وإغناء الجماليات الماركسية.ويتعين، في هذا السياق، إضاءة عدد من القضايا الإشكالية فالسعي الى التنوير من نصوص الماضي ممارسة مثيرة للمفارقة، ذلك أن أحداث وأفكار الماضي لم تعد، في إطار التعريف، موجودة في الحاضر فعلياً. فالعيش في الماضي ليس ثناء على العموم، وأخذ النصيحة من أولئك الذين لا صلة لهم بالظروف الحاضرة لا يبدو فكرة جيدة. غير أن قليلاً من التأمل سيشير الى أن تجاهل الماضي ليس طريقة مقبولة لتدقيق الحاضر، كما أن تجاهل التاريخ ليس وصفة لنعيم الحاضر. فالحاضر ليس تعاقب لحظات حية نستطيع أن ندخل فيها وجهات نظرنا وأفعالنا كما نحب، بل إنه بالأحرى، الماضي بقدر ما يتقدم. وهكذا فان سؤال ماهية الحاضر سؤال تاريخي وليس منفصلاً عن سرد أفكار وأحداث الماضي. والحق أنه ليست هناك معرفة بالحاضر لا تتشكل من أفكار ناشئة في الماضي. وبالتالي فان أية دراسة لمشكلات الحاضر هي، بحد ذاتها، دراسة لأفكار وأحداث الماضي.لقد انتهى الماضي ولا يمكن أن يعاش في إطار شروطه الخاصة. ومن الحتمي أننا نقاربه من "حواضرنا" المعينة نفسها المبنية من "مواضٍ" معينة. وفي الماضي نجد (أو نخفق في أن نجد) أنماطاً معينة من الأشياء التي نعرف أننا نبحث عنها حتى إذا لم نعرف بالتفصيل ما ستكون عليه نتائج قراءتنا وأشكال بحثنا الأخرى. إن تفحص الماضي لا يمكن أن يكون صحيحاً (أو غير صحيح) وفقاً لمعايير مؤلفي الماضي. فماركس كما كان هو ليس الحكم على البحث الراهن حوله أو حول أي شيء آخر. إننا نتحدث عن المنهج الماركسي ولا نتوقف عند حدود ما حققه ماركس. * يرى باحثون في مجال الثقافة أنه في مقابل النظرة الدونية للنخب السياسية للمثقف، يعجز هذا الأخير عن تعريف دوره "العضوي" في إعادة صياغة عراق ما بعد صدام حسين. كيف ترى ذلك؟ - ليس دقيقاً القول إن المثقف يعجز عن تعريف دوره في إعادة صياغة الحياة الجديدة. هناك جملة من العوامل المرتبطة بهذا "العجز" المزعوم. من زاوية معينة هناك "غياب" لدور المثقفين يعكس الخلل في موقف النخب السياسية من المثقف. وإذا ما تحدثنا عن واقع ملموس يتعين علينا أن نشخص الظروف التي تتحكم بالثقافة ومبدعيها. فهناك عواقب الدكتاتورية الفاشية وحروبها واستبدادها، وآثار الاحتلال وسياساته المتخبطة والفوضى التي خلقها، ويأس المثقفين من السياسيين الذين لا تحتل الثقافة مكانتها اللائقة في أنماط تفكيرهم وبرامجهم، بل تأتي، بالنسبة لهم، في نهاية المطاف. وهناك معاناة المثقفين المريرة من تأثير ثقافة الإعلام الزائفة وإحساس المثقفين بالتهميش على يد حكومات المحاصصات، واستمرار نظرتها الأحادية التبسيطية للثقافة الإبداعية وتصوراتها الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته. المثقف ينسحق تحت وطأة الاحساس بالإحباط والعزلة، وطاحونة اللهاث وراء لقمة العيش في عمل يومي يستنزفه ويستهلك طاقته الإبداعية، ويغرقه في هموم حياة لا تتوفر فيها أدنى شروط الإبداع.وسط هذه المأساة الطاحنة يواجه المثقف التحديات ويواصل المقاومة ليبرهن، مرة أخرى، على أنه قادر على تعريف دوره وتجسيد هذا الدور في مواقف وأفعال "سياسية" وإبداعية. إن الانجازات الهائلة في مختلف ميادين النشاط الثقافي والابداعي دليل حقيقي آخر على استعداد المثقف للتأثير في الحركة الاجتماعية سواء من خلال المشروع الإبداعي الفردي، أو من خلال المنظمات المدنية الثقافية. وفي هذا السياق يمكن النظر الى الاحتجاجات المميزة التي شهدها العام الماضي، سواء في شارع المتنبي أو مواقع أخرى، باعتبارها دليلاً على عدم عجز المثقفين وعدم غيابهم. بل إن هذه النشاطات المتنوعة تسهم في إعادة صياغة الحياة الجديدة وتعكس جوهر التحول الاجتماعي. * الجدل يُبذَل في عراق اليوم حول طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة. وما بينهما سؤال عن إمكانية قيام نهضة ثقافية عراقية. ما أفق هذه النهضة ؟ وما عوامل تحققها؟ - يقف المثقف الحقيقي ضد السلطة "السياسية" التي تسعى الى "كسبه"، بمعنى احتوائه وإلحاقه، ودمجه بتيار الثقافة السائدة التي تؤبد "مشروعية" السلطة مقابل لامشروعية العقل النقدي الذي تخشاه السلطة أيما خشية. إن بلادنا تشهد حالياً مخاضاً عسيراً يكشف، من بين حقائق أخرى، أن وجهة التطور الاجتماعي والثقافي لم تحسم، بل لم تتحدد ملامحها الواضحة بعد. ويسهم هذا الالتباس في إعاقة خلق الفضاءات التي يحتاجها الإبداع الأدبي والفني ومنتجوه. ولا ريب أن الديمقراطية الحقيقية هي الفضاء الأرحب والشرط الأساس لازدهار الثقافة الإبداعية. وبهذا المعنى فان التساهل في وضع المثل الديمقراطية موضع التطبيق يمكن أن يكون مقدمة لنمط من الاستبداد يحول الثقافة الى أداة إعلامية لتبرير نهج السلطة السياسية، وهو نهج لا يُستبعَد أن يجد مثقفين "بارعين" في "بزنس الأفكار" القابض على كل الحقائق المطلقة.ويتعين علينا أن ندرك حقيقة أن بؤس الفكر السلطوي يمهد لنتائج سلبية في العمل السياسي قد تكون مدمرة. ويمكن القول، بشكل عام، إن سياسة خاطئة في حقل الثقافة تعكس خطأ ما في مفهوم السياسة ككل، ذلك أنه لا يمكن، من وجهة نظر واقعية، فصل الفعل السياسي عن الفعل الثقافي.إن التحول العاصف الذي يجري في الإطار الثقافي، رغم كل التباساته وانعطافاته، يعكس آفاق نهضة ثقافية يمكن، إذا ما توفرت لها الشروط الصحية، أن تعيد الاعتبار للعقلانية والتنوير، وتخلق فضاء ازدهار الثقافة الإبداعية. وفي هذا السياق يتعين، قبل كل شيء، التوجه الى المثقفين أنفسهم، فهم، وحدهم، القادرون، وبأدواتهم الثقافية، على تشخيص تعقيدات الواقع وإمكانيات المستقبل. ومن أجل حصول ذلك لابد من تغيير ذهنية النظر الى الثقافة، وايلائها حقها من الاهتمام باعتبارها إحدى الوسائل الأساسية لمعالجة الأزمة الروحية التي يعاني منها مجتمعنا، ووضع الأسس السليمة للتوجه الى خلق نمط جديد من التفكير يعد شرطاً لإشاعة الديمقراطية والثقافة.ويتعين أن يرتبط هذا التوجه بإجراءات عملية تجسد الدور الحاسم الذي ينبغي أن تلعبه الدولة ومؤسساتها المدنية في خلق الأسس المادية والروحية لنهضة ثقافية حقيقية وتحقيق متطلبات الحياة اللائقة لمنتجيها. لقد أثبتت التجربة أن المثقفين قادرون، رغم الآثار المدمرة لمعاداة الثقافة والديمقراطية، على المقاومة والدفاع عن القيم الإنسانية السامية، وخلق مناخ تزدهر فيه المنابر الحرة الطليقة، ويصل فيه نتاج المبدعين الأصيل والجميل حقاً الى الناس.والحق إن وضع الثقافة والمثقفين يستحق أن يكون موضع نقاش على نطاق واسع في أجهزة الإعلام ومراكز الأبحاث والمعاهد والجامعات وندوات وحلقات النقاش وفرق العمل الإبداعية. ولابد أن يبادر المثقفون أنفسهم في النشاط الفاعل والمثمر، ويجسدوا دورهم التنويري المنتظر خصوصاً في المنعطفات. في الظرف الحالي تمس الحاجة الى مشاركة المثقفين في صياغة القرار السياسي من خلال حوار مفتوح باتجاهين، بحيث يرتفع اهتمام السياسيين بالثقافة كقيمة بذاتها، لتطوير الوعي الفردي والجماعي، وتغتني رؤيتهم السياسية بالوعي الجمالي الذي يتوفر للمثقفين المبدعين. وما من إطار لإعطاء هذا السجال حيويته إلا بإشاعة الديمقراطية.لا يمكن لأزمة الثقافة أن تجد حلها إلا عبر تحرير ودمقرطة وأنسنة الثقافة والسياسة معاً. وعندما توجه الدعوة الى المثقف لممارسة النشاط السياسي بالمعنى الإبداعي الرفيع، يتعين أن توجه الدعوة، في الوقت ذاته، الى السياسي أيضاً، لممارسة السياسة كفن، أي التفكير، شأن المثقف المبدع، لا بلغة الواقع حسب، وإنما، أيضاً، بلغة الصور والتداعيات. |