المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
08/04/2009 06:00 AM GMT
لم يكن المشهد غريباً في باحة المسرح الوطني عندما بكى معلمو المسرح العراقي الفقيد الكبير قاسم محمد.. ذلك أن سيرة الراحل الطويلة، أكثر من خمسين عاماً في العمل المسرحي المتواصل، قد أشرته معلماً لأجيال وأجيال من فناني المسرح الذين كانت دروسه لهم في الأكاديمية قد دفعتهم ليكونا فيما بعد أساتذة أقسام المسرح في الكليات والمعاهد المتخصصة.. في مشهد التشييع المهيب وقفت إلى جوار عدد من أساتذة المسرح الذين أبدوا أسفهم لغياب قاسم محمد لأنه غياب يترك وراءه فراغاً لا يسد، وهذا ما يفعله المعلمون وهم يغادرون بصمت وبلا ضجيج.. الألم الذي رافق المعلم في السنوات الأخيرة، كان مزدوجاً إذ أجبرته سياسات العهد السابق على الهجرة والنفي الاختياري، ثم وقع فجأة بين يدي المرض القاتل..
هكذا عاش المعلم يصارع بين ألمين ومحنتين وبين هذه وتلك بقي وفياً لمشروعه المسرحي الذي عده النقاد مشروعاً تأسيسياً في المسرح العراقي والعربي.. لقد خرج قاسم محمد من معطف الحارة البغدادية ليجد نفسه في أغلب الأحيان منحازاً ومجسداً لإيماءات الحارة وإشاراتها على خشبات المسارح ابتداءً من مسرحيته الذائعة: النخلة والجيران عام 1969.. ولعل في دراسته للمسرح في موسكو أثراً في صياغة علاقة حيوية وجديدة بين مشروعه الفكري والجمهور العراقي، خاصة وأن المسرح الروسي عرف على الدوام باهتمامه بالانسان وهمومه المباشرة.... مشهد التشييع الذي انطلق من بناية المسرح الوطني كان مهيباً مهابة تليق بمعلم كبير ومؤثر.. وقاسم محمد، الحكيم الذي قرأ التراث والحداثة فمازج بينهما جدير بمثل هذه المهابة.. صفوف طويلة من زملاء وطلاب قاسم محمد ساروا خلف نعشه بإحساس الفقدان الذي لا يعوض.. يتقدم هذا الحشد الفنان الكبير سامي عبد الحميد الذي كان صوت نحيبه يقطع أوصال الحشد الكبير.. لقد ظل الراحل على الدوام وفياً لنخبة الفن الحديث، تلك النخبة التي علمتنا وتعلمنا منها الكثير من المعرفة والمهارات ، ولم نكن لنتعلم لولا قاسم محمد، فارس الفن الحديث تماشياً مع الجيل المؤسس في الرسم والموسيقى والرواية والشعر والقصة والنقد.. هذه هي ميزة قاسم محمد الأساسية.. في الريادة والحضور.. في التأثير والمشاركة.. في إثارة الجدل والحوار.. وفي قدرته على أن يكون المعلم الذي يبكي المعلمين.. وبالرغم من اشتغال قاسم محمد المحدود في التمثيل التلفزيوني والسينمائي ظل مشروعه المسرحي هو الأبرز في سيرته الطويلة، كما أن وفاءه الأخاذ لهذا المشروع ظل لافتاً للنظر حتى وهو يعيش سنواته الأخيرة مع وحشة المرض القاتل بعيداً عن وطنه وجمهوره ومحبيه الكثر.. ولقد عوض عدم قدرته على الاشتغال المباشر على الخشبة بعمل طويل لا ينقطع في حقل التنظير للمسرح، فأصدر في هذا الخصوص عدداً من البحوث الطويلة والممتعة في محل إقامته في دولة الإمارات العربية المتحدة.. وكان الراحل حريصاً على إيصال تلك الكتب إلى أصدقائه ومحبيه في العراق.. حتى في وصيته التي وصلتنا قبل رحيله بساعات عن طريق بعض الأصدقاء الذين رافقوه في الساعات الأخيرة كانت تؤكد رغبته في أن يدفن جسده الطاهر في ثرى البلاد التي أحب وعمل وناضل من أجلها.. وهنا كان تشييع المعلم مهيباً.. كبيراً.. مؤثراً وحزيناً.. وكل ذلك يليق بقاسم محمد.. المعلم الذي غادر العراق مضطراً ذات يوم وهو يحكي عن عقوق الأبناء في مسرحية: أب للبيع أو للإيجار.. وهنا بكاه اليوم حشد ضخم من أبنائه ومريديه.. لقد كان أباً ولاشك.. ويا لهول فقدان الأب.. غادرنا قاسم محمد وهو يتحمل شجاعة الألم.. وبقيت ترن في أذني كلمة الدكتور صلاح القصب ونحن نلوح للنعش: في ميناء موحش نحن، ننتظر مراكبنا التي ستأخذنا إلى قارة المجهول.
|