قدح شاي

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
14/07/2008 06:00 AM
GMT



أمضيت تلك الليلة أفكر بجدية بأصعب قرار في حياتي. وكان دافع الفرار مزيجا من فعل حقيقي ناتج عن قناعة تامة بالتواصل مع الحياة ومحاولة ((إيجادها)) أولا!! ورد فعل تجاه أزمات خاصة وتفسخ عام في كل شيء..
وحين استيقظت، كان القرار قد حُسِمَ واكتملت تفاصيله التي بدأت تنتظر التنفيذ.
هيأت طعام الفطور لوالدي، والشاي الذي هو أهم فقرات فطوره وكل فقرات فطوري!
كان والدي كئيبا ذلك الصباح ربما لان حدسه كان ينتظر حدثا سيئا. وبدأ بتناول فطوره، وحال إكماله اللقمة الأولى بصعوبة قال:
- لا أملك شهية للطعام وكأن هنالك شيئا ما يغلق فتحة المريء. أريد شايا فقط.
صببتُ له الشاي ولي أيضا، وكنت ما أزال أفكر بطريقة لأبدأ معه حواري، ولم أشعر يوما بعجزي عن إيجاد وسيلة ما للحوار الا تلك اللحظات، ليس لعدم مقدرتي على استحضار المفردات ، بل لأنني كنت أحاول تقليل ألمه قدر المستطاع.
بدأت اكلمه عن(واقعيات) مؤلمة يعرفها لأنزلق منها الى النقطة التي أبتغي الوصول اليها، ثم عن معاناتي كفتاة في هذا الزمن الحرج.. وكان هو يكلمني عن نضاله السياسي وعن أول مظاهرة خرج بها ضد الإنكليز حين كان عمره عشر سنوات وكيف بكى أثناء مراسيم رفع العلم العراقي حين تكلم مدير المدرسة بسوء عن العرب، فصرخ بأعلى صوته امام الجميع(( أنا لا أسمح لك يا أستاذ، فالعرب هم أفضل شعوب الأرض)) واعتذر له المدير ضاحكا بسخرية وحاول تهدئته ومسح له دموعه بيديه بتعجب.
كان أبي لا يزال هناك.. مع أحداث ثورة مايس و 14 تموز وحرب تشرين..
كنت أشعر بأنه كلما أراد أن يبكي وهو يتذكر أمرا ما، بادر بشرب الشاي كي يخفي دموع، كان لا يرغب في الإقرار بنزولها!
ثمّ تكلّم عن ذكرياته مع أمي الراحلة.. وكيف تحملت أعباء ومشقة حياة ليست بالعادية، وكيف كان منتسبو الأمن يعاملونها أثناء تفتيش المنزل للبحث عن منشورات وكتب او لغرض استعراض امكاناتهم((الرجولية)) في تحطيم أثاث منزلنا البسيط. وكم كانت قوية كالجبل حين قالت إنها على استعداد لأن تضحي بأعز ما تملك بابنتها الوحيدة من أجل مباديء آمنت بها برغم محدودية ثقافتها.
وكان يرغب بالحديث أكثر عن تفاصيل أهم، لكن قدح الشاي لم يسعفه فقبل ان يصل الى فمه كانت الدموع تتساقط بغزارة.
لقد زاد ذلك من حيرتي ، فحالة أبي النفسية كانت سيئة ذلك الصباح ولم أره من قبل بهذا الحزن فكيف ان أبلغته بقراري؟!
ولكني لم أستطع الانتظار أكثر وربما في لحظة أنانية صارحته كي انهي صراعي المؤلم، فقلت له بهدوء وأنا اطرق نظري للأسفل في قدح الشاي الممتليء:
- أبي.. قررتُ ان أسافر!
لم يُبدِ والدي أي رد فعل واضح- كعادته- ولكني استطعت ان أستقرئ أبجدية تجاعيده التي تغيرت فجأة!
وبعد دقائق صمت كانت أطول من دهر قال:
- والوطن؟
كان وقع الكلمة كالصاعقة.. فاجأني بالمفردة التي تخدش كل مشاعري لتصل الى لب أعماقي بسهولة متناهية.
لم اعرف بماذا أجيبه، وأخيرا استجمعتُ قواي وتكلمت:
- الوطن يبقى هنا(وأشرت الى قلبي).. ومن شدة حبي له سأرحل، لأنني لن أحتمل ان أراه وجراحه تنزف وأنا عاجزة عن تقديم أي شيء له..
- لن تحتملي فراقه يا ابنتي.. أنا أعرفك. ولكن الخيار لك وأنت تستطيعين تقدير الأمور.
ثمَّ نهض وفي يده قدح الشاي، وجلس على كرسيه الخاص المطل على حديقتنا الصغيرة.. الذي اعتاد أن يمارس كل طقوسه من عليه.. سماع الأخبار.. تأمل الطبيعة والسفر الى الماضي الحقيقي.. والحنين لرائحة أمي العبقة..
سحبَ مسبحته من على المنضدة.. وبدأ بالعد.. عد الأيام الأليمة والخيبات والأصدقاء الراحلين..
نظرتُ اليه من بعيد.. وبكيت. شعرتُ بالغربة قبل رحيلي.. وارتشفت آخر رشفة من قدح الشاي ومعها حبة هيل صغيرة مستقرة في قاعه وتساءلت(( هل هناك ألذ من شاي الصباح مع صوت أبي وحبة الهيل ورائحة أمي التي ما تزال تعطر كل الفضاءات؟!)).

missiraq2002@hotmail.com

بغداد – 2004