الرحلتـان الأخيرتـان إلـى المربـد

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
13/06/2008 06:00 AM
GMT



من بين كلّ الرحلات المعلنة على شاشة التلفزيون بأوقاتها المحدّدة تستوقفك رحلة طائرة الخطوط الجوية القطرية بإعلانها الفاقع عن تأجيل موعد إقلاعها ساعة ثمّ ساعة ونصفاً، ثمّ عشر دقائق أخرى.
كنتُ أفكّر بأصدقائي الذين سينتظرونني ساعاتٍ ايضاً. وإذا ما استمرّت الرحلة بتأخيرها المتواصل فقد أصل الحدود وهي مغلقة.
كان دخول الطائرة تخفيفاً من ضجر انتظار لا معنى له غير أن البشر حين يجتمعون على صمتهم تبدأ جوقة عزفهم المتنافر بضجيج لا يشبهه ضجيجٌ آخر. هناك من يعطس ولا يتوقف عن العطاس. وفي الطرف الآخر من صفّ المقاعد التي تبدأ بي ثمة مسافرة هندية كأنها قادمة من الأساطير إلهاً هنديّاً ضخماً وهي تشعّ، أو بالأحرى تبعث بشعاعها المتواصل وقد انعكس الضوء على أساورها المتراصة على يدها. تحاشيت الالتفات ناحيتها لئلاّ يبهرني الشعاع، ولا أدري لمَ لمْ تطفئ الضوء المنعكس على أساورها بضراوة. نامت والضوء مازال مفتوحاً، بينما انبعثت من خلفي صرخات طفل تشقّ الظلمة مرّةً بمرح، ومرّة ببكاء. وقد يتفنّن فيطيل موجة البكاء أو الفرح أو كليهما ولا تميّز من همهماته وصرخاته غير دادا ولكن حين يحتدّ صوته يبعث الموتى من قبورهم.
لم يتوقف صراخه حتى مطلع الفجر حين بدا نور الصباح ساطعاً يشعّ من نوافذ الطائرة المغلقة ليملأ داخلها بالضوء.
ما أبهج الوصول!
غير أنني ما زلت قلقاً، وماذا عن طريق الدوحة ـ الكويت؟ ماذا سيصادفني؟
مازلت في بداية الطريق. ساعة إلى الكويت ثمّ تعقبها رحلة أخرى هي رحلة الرحلات إلى البصرة عبر الطريق البريّ.
لم يدم قلقي وقد علت الضحكات المتلاحقة خلفي حتّى إنها لاطّرادها أسكتت الطفل وكأنّه أصابته الدهشة من اكتشافه مؤخّراً لمنافسين له.
لا لم تكن النهاية سيئة. لقد ابتدأت بابتسامات المضيفات من شرق آسيا رغم تقطيب المسافرين وانتهت بضحك المسافرين رغم تقطيب المضيفات وقد حلّ بهنّ التعب.
لا ادري لمّ تذكرت، والطائرة تهبط والضحكات تعلو، ذلك المنظر الذي فاجأني حين وصلت الكويت في طريقي إلى عدن قبل ثلاثين عاماً. كان المسافرون، عندما هبطت الطائرة، يردّدون بصوتٍ واحد أدهشني:«الله أكبر!» وكأنهم جوقة واحدة تدربت أشهراً لتؤدي هذا الدور في وقت واحد.
حين هبطت المطار متوجّهاً إلى البوابة التي يُفترض أنها ستؤدي بي إلى الطائرة التي ستقلع إلى الكويت فوجئت بأن طائرتي أقلعت. قلت للموظفة: وما العمل؟ قالت عليّ أن أتصل بمكتب التحويلات لتغيير موعد الإقلاع الذي سيكون بعد ست ساعات تقريباً.
ذهبت محموماً لأتصل بالكويت والعراق ولندن وأجريت من الاتصالات ما لم أجره في أسابيع، وحين اطمأنت نفسي أن لا أحد ينتظرني في هذا الوقت أخذت أجول في المطار على هواي متأملاً الناس والأشياء بأزيائهم الغريبة ولغاتهم الأشدّ غرابة وسهولة ما ينطقونه وما لا تستطيع أن تنطقه أنت حتى بمئات الأعوام كلما تخيلت الغرابة في مخارج الألفاظ ومداخلها.
في اليوم التالي غادرتُ الكويت في باص لم يكن فيه غير أربعة مسافرين أنا وثلاثة عراقيين. أدهشتني دقة وقت وصول الباص ومغادرته غير أن دهشتي سرعان ما تلاشت حين توقف الباص في الطريق بعد فترة قصيرة ليؤدي سائقه الصلاة في جامعٍ في الطريق. حين هبط من الباص دعانا معه إلى الصلاة فأجابه عراقيان من الحاضرين:«صلّينا». كان جوابهما لسرعته كأنه معدّ من قبل. كان ردّ فعله لا مبالياً وكأنه يتوقع ذلك من المسافرين أو كأن عبئاً انزاح عنه، أو واجباً كان عليه أن يؤديه، فسار خفيفا إلى الجامع. حوار سريع، ذكيّ يدلّ على أنّ الطرفين خبراه مرات في حياتهما. قلت ماذا لو حدث لي هذا فجأة! بمَ سأجيب؟ وحين عاد ومضى بنا الباص مسافة بزغ، لا أدري من اين، مفتش ليفحص بطاقاتنا الرخيصة رخص التراب. ثمة تنظيم إذن يستدعي الإعجاب في هذا القفر الواسع الممتد حيث لا يلوح أثرٌ لبشر أو حيوان إلاّ نادراً، ورغم أنني قطعته مرتين من قبل إلا أن ذاكرتي لم تحتفظ بأيّ من هذه الآثار التي لا تستوقف مسافراً. أرض خلاء وشواهد لا حياة فيها ولكن ثمة تنظيم ما...!
فجأة توجّه العراقيّان إليّ بالسؤال: أين رأيناك ؟ ثمّ: أ أنت الشاعر؟ قلت لهما: أظنّ ذلك، وبعد حديث قصير أبديا رغبتهما في دعوتي إلى منزل أحدهما، لا سيّما إنهما يقيمان في سفوان المدينة الحدودية، غير أني أبديت لهما شكري واعتذاري لأن هناك من ينتظرني في سفوان. ومن خلال الحديث الذي أصبح حميماً شارك المسافر الرابع الذي اكتشفت أنه مهندس وفنان تشكيليّ في آن ولكي يكون التعبير عن هذه الحميمية ملموساً بادرا إلى دفع أجرة السيارة الأخرى التي استقللناها بعد الباص من دون أن نشعر بذلك أنا والمسافر الآخر.
كانت سفوان تبدو خالية تماما ليس من مستقبليّ وإنما من الناس. ليس هناك سوى مدرعات وسيارات جيش في استنفارٍ وكأننا في حرب كتلك التي نشاهدها في الأفلام.
فكرت أن ثمة التباس في الموعد لدى الأهل والأصدقاء، لذا قررت أن أستأجر تاكسيا ولكن أين أجد التاكسي؟. كانت هذه الخواطر تمرّ بسرعة البرق حين تقدّم مني صاحباي اللذان التقيتهما في الباص مصرين على اصطحابي إلى بيت أحدهما لأنهما لا يطمئنان على تركي وحيداً ولا يثقان بأحدٍ حتى لو توفرلي التاكسي. ذهبت مع أحدهما وحين وصلنا بيته استقبلنا أطفاله في جوّ عائليّ حميميّ. كان من حسن الحظ أن لديّ ما أهبه إلى الأطفال مما اشتريته في الدوحة. كانت هداياي البسيطة مفتتح صداقة مع الأطفال وهم يتحلقون حولي حاملين شهادات نجاحهم وسط رزانة الأب وفرحه الحييّ وخدمته المتواضعة في بيت عامر ومضافة واسعة تدل على ذوق بسيط مرهف وسعة عيش لا مبالغة فيها، ومعرفة بالناس لا تخلو من الحبّ متى اهتدت هذه المعرفة إلى مواضعها.
بعد ساعةٍ وصل الأهل والأصدقاء فرافقتهم رحلة العودة وقد أخفوا أسلحتهم خشية ما قد يحدث لهم من مخاطر في الطريق. هكذا إذن نحن في غابة كثيفة لا تبدو أشجارها وإن بدت وحوشها هنا وهناك في هيئة بشر، غير أننا لم نأبه لهذه المخاطر بل لم تطرأ على بالنا وقد علت التعليقات الممزوجة بالمرارة والضحكات على واقع ليس حيّاً ولا ميّتاً... يعبره الناس غير مبالين وإن توقفوا لتشييعٍ أو تضميد جرح.
المنازل ذاتها... الشوارع ذاتها والأوساخ ذاتها ربما...
ماذا يفعل البشر؟
وأين تذهب تلك الملايين التي تصدح أرقاماً في إحصاءات المسؤولين؟
مدينة لاتراها إلا وقد تملكتك رغبة في الرجوع.
لم المجيء إذن؟
من أجل ماذا؟
أمن أجل الشعر وقد أصبحت الكلمات حتّى أجملها مكسوّة بالغبار وسط هذا الخراب اللعين الذي ورث ديمومته من خلود أمة تشهد احتضارها مراتٍ كل يوم... خلود عابر يحمل سلطته ومؤسساته وبشره ويقبع هناك مرميّا في حروف أهملها تاريخ هو مهمل أيضاً وقد امتلأ بالأكاذيب فلا أحد هناك يصدّقه حتى سماسرته الذين تقدموه كالأبطال.
ها أنا ألتقي بأصدقائي قبل التقائي بالأهل في فندق مسافراً عابراً ؟ ولكن أنّى لي أن أكون عابراً وهذه المدينة اللامبالية، الراكدة في الشمس، الملتحفة بغبارها كما يلتحف بدويّ بعباءته هي محطتي الأخيرة... محطتي التي سأنتظر فيها قطاري العائد السائر في صحراء أبداً بلا بشر غير ظلال تلوح هناك وهناك. أ هي ظلالي؟ قطار لا يتوقف إلا ليطل عبر زجاج نوافذه وجهٌ ليتفحص أوراقك طويلاً فتكتشف فيما بعد أنه لا يعرف القراءة أصلاً وحين لا تبدي ضجراً أو معرفة بجهله يعتذر ليرحل هو وتبقى أنت وحيداً في بريةٍ تقطعها سائراً الآن وقد رحل قطارك بركابه جميعاً.
مغادر أم عائد؟ لا أعرف وقد اختلطت التسميات، وتبادلت الأوطان الأدوار، وعاد الناس بلا ملامح وقد امحّت في سنوات تقف كالشحاذين في الأسواق.
شعر... شعر... وفوضى في كل شيء : الأشياء، البشر، البيوت التي تدخلها من أبواب بيوت أخرى، الشوارع التي ضلّت طريقها، الكتب الباحثة عن رفوفها، الكتب المفقودة والكتب المخفية خلف طلاسم الكتب، والصور التي استحالت لحىً، لا تبصرخلفها وجهاً وقد غدت هي الوجوه... أين أنا؟
وفي وسط هذه الفوضى هناك من يصبغ شِعره أو شَعره بصبغ حذائه ( يعلّق أحدهم بخبث) وفي وسط هذه الفوضى من الشمس وحرّها المتشظي القاتل هناك من يتأرجح في ربطة عنقه ويسير مسروراً ليلقي كلمة نعيه.
لكن من يصغي؟ وقد أدار الجميع ظهورهم إلى الواقع علّهم يجدونه هناك في الكلمات التي بدت أكثر إبهاماً منه ومنهم.
صامتون إذن؟ في حفل ضجيج سرعان ما يصمت لتحل أبدية لا نهاية لها تلتهم كلّ شيء كالوحش.
انقضى المربد
وفي ليلته الأخيرة إذ عدنا منه مشيعين جائعين لم نجد طعاماً، ويبدو أن لا ابتساماتنا ولا مبالاتنا تأثيرها على الندل الذين اقترحوا ان يبتكروا لنا (مخلمة) . فانتظرنا بين مصدقين ومكذبين لنكتشف بعد قليل أن المخلمة ليست سوى بيض مقليّ يخلو من كل ما يجعل المخلمة مخلمة ببستانها المزهربالطماطم واللحم والأعشاب الأخرى. صعدنا إلى الغرف مستعيضين عن المخلمة بما هو أفضل منها: العرق العراقيّ في علب كعلب الكوكاكولا، التي لها القدرة على السريان في الأرواح قبل أجسادها فلا موطن أسرار هناك ولا إشارات وقوف، بل ذهاب لا رجعة فيه بين صحبة نادرة من الشعراء والكتاب وقد شحذوا عقولهم بمبرد الجنون.
ظلّت رائحة العرق لاصقة في الممرات حتى صباح اليوم الثاني الذي غادرنا فيه الفندق ولعلها ظلت قائمة زمناً.
كانت غرف الممرات جميعاً تعلن أعراسها وسط مآتم تقيم عزاءها في الخارج وتنصب حراسها الذين استحالوا حجراً يحرسون الابواب.
في الشارع أنت الآن بلا حرس تريد أن ترى السماء والارض معا في لمح الطائر مستقبلا هذا ومودعاً ذلك معبئا سنواتك في علبة يوم واحد أو يومين على رحيلك القادم كتلك العلب التي شربتها ليلة أمس.
أكان المربد احتفاء بالشعر أم بالناس وقد اكتظت بهم القاعة؟، فرحين بلقاء بعضهم بعضاً في نزهة ندُرت، وكأنهم أدركوا أخيراً أنهم بشر كالآخرين لهم مباهجهم أيضاً، وأجنحتهم التي سرعان ما تنتشر ثانية عند أقلّ لمسة هواء... قصائد جميلة قرئت فضاعت وسط قاعة مصممة للخطب ورداءة مايكروفونات تضج وتخفت بلا سبب، وصحفيين يقيسون القصيدة بالتصفيق ولا يجيدون حتى الإصغاء متصورين أن ضجيج المايكرفون هو القصيدة، و نقيقهم هو النقد، وفوضى التنظيم هو فوضى النظم، فلم يلتفتوا لشعرٍ جميلٍ قرئ، ولم يقرأوا النصوص مكتوبة كما يفترض بالنقد أسوة بمهرجانات المربد السابقة على رداءتها؟، بل اكتفوا بترديد ما أصبح شائعاً في الإعلام وكأنّ المربد مهرجان سلطة لا مهرجان أدباء أرادوا أن تكون لاحتفالاتهم سلطتها التي لا يمكن أن تنتهك أبداً.
قلت لاقتسم ما تبقى لي من أيام بين أحبة ومعارف: يوم لأهلي ويوم لاصدقائي والثالث للرحيل.
كنت أمرّ على الناس طائراً ناثراً ريشه هنا وريشة هناك وإذ أتوقف لا أجد لديّ القدرة على التغريد فأكتفي صامتاً وانا أرى ريشتي وهي تحط بعيداً عنّي.
متى نراك؟ وكأنه لا يراني الآن. متى تعود؟ وكأنني لم أعد. ليت الإنسان جملاً يخزن ما يريد أن يجتره في ما بعد ملتذاً وسط صحرائه التي يخوضها بلا أخفاف. ولكن أية لذة هذه وقد ارتدى الجميع ثياب الحداد. لمَ؟ كان واقفاً مع رفقة له في الساحة حين حدث التفجير. والآخر؟ بسبب القصف؟ والثالث؟... والرابع؟... والخامس؟...
انتابتني في هذا اليوم الذي ساسميه يوم الأهل رغبة في النوم على السطح لأستعيد طفولة طالما استيقظتْ على صياح ديك عند حافة سرير، ورائحة حشائش في عربات تمر بمحاذاة السطح، وصيحات أخوة، ورائحة حليب، وجلوس يضيق بالشمس عند طرف سلم يصرّ كلما هبطناه... ولكن هيهات... لقد أحال القصف الليل ساحة حرب لم تتوقف إلا عند الفجر حين علت أصوات المؤذنين وكأنها تعلن القيامة فحملت غطائي وهبطت ليبدأ ليلي بعد الرابعة صباحاً.
متى يبتدئ نهاري إذن؟
كان اليوم الثاني، يوم الأصدقاء، جولة في الأماكن والروح معا. تدخل المكان وفجأة تستيقظ أرواحٌ، روحك بينها، فلا تعرف من أنت؟ أو أين؟.
دخلت مكتبة في المدينة ففاجأني هناك من يعرفني بل من يتذكرني ويبكي؟ أحقّا غدت ذاكرتي خلاء وهي التي تعج بالأحداث والبشر. لقاء آخر مع صديقة... لقاء سريع في مقهى على الشط وقد انشطر المقهى نصفين: شطر لرواده وآخر لحفل نقابيّ أو رسميّ حاشد بالخطب والمداخلات يتسلل منه صوت نسائي واثق. ألحت الصديقة أن نبقى غير أنني اعتذرت بموعد آخر وحين تأخرت عنه قدم أصدقائي أنفسهم ليعتذروا للصديقة ونذهب إلى ضفة قريباً من منعطف النهر حيث التنانير مهيأة لشواء السمك جوار مقاعد خشبية تحت عريشة مظللة كخيمة، مطلين على الضفة الأخرى ونخلها البعيد وسفائنها وكأنّ لنهار البصرة ليل آخر.
أ ما زال العالم جميلاً خيراً؟
ليكن ولو للحظة أو جلسة أو...
لتكن كالناس يعيشون يومهم ويبتهجون وسط مآتمهم الماضية ومآتمهم الآتية!
لتكن!
ولكن أنى لك وهذه البقعة ذاتها يجاورها ما يشغل روحك حتى وأنت في منأى عنها.
على بعد أمتار من مكان الشواء هذا، كان ثمة طفل (اختفى) وحديقة (هي منبت أشواك الآن) ودراجة يسندها الطفل إلى شجرة (أين هي؟) وكتبٌ أغلفتها لامعة يضعها الطفل جواره على المصطبة ويقلبها مفتوناً... كتب تطالعك على امتداد السوق التي تبدأ بساحة أم البروم وتنتهي عند الجسر ولا تنتهي عند روحك أبداً.
فجأة وقد أشرفت الوليمة على الانتهاء يقترح أحدهم الذهاب إلى بيته لنحتسي القهوة أين؟
في الزبير؟
أ لا تبدو المسافة بعيدة؟
دقائق ونكون فيها. هل تقلصت المسافات في ذاكرتي أم اتسعت؟
حين اقترح صديقي الفنان خالد أن نزور أبي الخصيب وجيكور. لم أكن متحمساً وقد زرتهما السنة الماضية أما الزبير فكم تمنيت زيارتها لأرى قبري السياب والبريكان هناك.
ما أجمل هذا العرض. كم تمنيته فلنذهب إذن إلى الزبير!
ما أقرب الزبير وما أبعدها!
طريق أسلكه كلما قدمت إلى البصرة أو غادرتها... صحراء تمتد عارية لا تسترها بيوت تتناثر مرمية هنا وهناك مهما ازدحمت. تكاد للونها الحائل تتشابه حتى وإن اختلفت، لا تترك أثراً في ذاكرة غير تداخلها وعزلتها، ورغم الفضاءات الرحبة التي تحوطها تبدو وكأنها تلتصق ببعضها خائفة تحدق فيها سماء غاضبة...
رافقتنا البيوت وكأنها بيت واحد يتعثر خلفنا ليختفي بعدئذ وينكشف عن مساحة يلوح فيها مسجد بعيد أو مسجدان وطرق تتفرع بعيداً، ليعود ثانية وهو ينطلق خلفنا ويتعثر ليقف أخيراً عند بيت الصديق. بيتٌ أليف مظللٌ باردٌ. ما أبعدنا الآن عن عالم الهجير!
في المساء دخلنا المدينة، ربما دخلناها قبل ذلك، لا أطراف ولامركز... بل تكــرار مبانٍ في صحراء. فجأة قال مضيّفي: انظر! مشيراً إلى زقـاق أو طريق جانبيّ: «ها هو بيت البريكان»
«أحقا هو البيت الذي كنت أزوره قبل أكثر من ثلاثين سنة بمدخله المظـلم الشبيه بالكهف»، وبإطلالته الشاهقة كالقلعة.
كان للزبير حدودها: مدخلها ومخارجها، ومسالكها إلى ساحة المدينة، أما الآن فهي تكاد تكون متاهة لا توصل إلا إلى المقبرة التي بدت في المساء خالية إلا من شمس تنزف قادمة من جهة الصحراء وجامع يفجؤك بواجهته البيضاء وأحجاره الشبيهة بخلايا نحل وما من أحد سوى بواب لم يسمع بالبريكان أو يعرف قبرالسياب حين سألناه عنهما، وغيردفان يجوب المقبرة بدراجته معتمراً كوفية بيضاء ليدلنا على القبرين وهو يفضي لنا بغرائبه خفيفاً وكأنه شاب في مقتبل العمر وليس ذلك الشيخ الذي دفن السياب قبل ما يقرب من نصف قرن:
زيارة إلى قبر البريكان
قلتُ
وقد طالعني شبحٌ:
«كفنٌ أم ثوبٌ ابيضُ ما تلبسُ يامحمود؟ »
كان هنالك غيمٌ
(مع أنّ الفصل هو الصيف)
وظلالٌ تجلسُ مطرقةً
كنساء يندبنَ
وتاجٌ من شوكٍ
تصبغه شمسُك
كم تنزف!
كم ينزف هذا الشبح الواقف
هل أدعوه لندخل ذاك المَغسَل عند البوّابة ؟
(ما أشبهه بخلية نحل!)
ليزيل اللطخة عن ثوبه،
يصحبنا الدفّان بدرّاجته المدفوعة بين الأشجار
وكوفيته البيضاء
«دفنتُ السيّاب»
يقولْ
ويشير إلى قبرهِ...
حين وصلنا طرف المقبرة استيقظت الصحراء
ومضت تحمل فوق ظهور الإبل
مقابرها
(البصرة)