قصائد |
المقاله تحت باب نصوص شعرية عند باب بغداد ، هناك ، جلسنا وضحكنا لا جديدَ هنا كالذي يصفونْ لا جديدَ سوى غزوةٍ ، صورةٍ من تقاليدِ تأريخِنا ولوازمِ رحلتِهِ في العصورِ ، وما نحنُ نشهدُهُ اليومَ كنّا شهدناهُ من قبلُ .. كمْ مرَّةً ؟! لستُ أذكرُها كلَّها .. أهْيَ عشرٌ ؟ أقلُّ من العشرِ ؟ أكثرُ ؟ لا لستُ أذكرُ إلاّ الشهيرةَ منها ، الأليمةَ ، أعني التي هيَ أكثرُها ألماً ، غزواتُ وقتلٌ ونهبُ وسبيٌ .. وما تعرفونْ . لا جديدَ إذنْ ، فالغزاةُ يجيئونَنا حقبةً بعدَ أخرى ، وقدْ يحبسونَ الهواءَ ، إذا قَدِروا ، في قواريرَ ، أو يجرحونَ السماءَ بما ملكوا منْ صواريخَ ، لكنَّهمْ يرحلونْ . دائماً يرحلونَ ، ونحنُ هنا ، نحنُ والنخلُ والنهرُ والعشبُ والطينُ ، نحنُ وآباؤنا ، وقبورُ ذوينا ، هنا ، منذُ بدءِ الخليقةِ ، منذُ انبثاقِ الحقيقةِ ، نحنُ هنا ، نحنُ واللهُ ، نحنُ هنا راسخونْ .. حينما داهمتْ جندُ « عيلامَ » أسوارَ « أورْ » .. حينما هدموا دورَها واستباحوا معابدَها وازدرَوْها ، جلسنا معاً وبكينا ، بكينا طويلاً ، بكى مُتْرَفوها وكُهّانُها وبنوها ، بكينا بفيضٍ من الدمِ والدمعِ ، ضِقْنا بآلهةٍ لمْ تصنْها ولمْ تحمِ أسوارَها ، وكتبنا مراثيَ فيها على رُقُمٍ من قلوبِ العذارى ، ولكنَّنا بعدَ حينٍ نهضنا معاً ، وطردنا الغزاةَ ، وشِدنا المدينةَ ثانيةً ، دورَها وجنائنَها ومعابدَها ، وبنينا لها ألفَ سورٍ وسورْ . ثمَّ حينَ غدتْ بابلٌ درَّةَ الأرضِ ، وازَّيَّنَتْ بجنائنِها وعلتْ ، وتباهى الملوكُ بها وبأسوارِها ، جاءَها ذاتَ يومٍ غلامٌ منَ الغربِ يلبسُ ثوبَ أرِسْطو ، وما هوَ إلاّ غلامٌ دَعِيٌّ غريرْ .. صارَ أسطورةً في الأساطيرِ ، أحْجِيَةً في الأحاجي ، ولكنَّه ، بعدَ حينٍ ، قَضَى دونما وارثٍ من بنينَ ، وخلَّفَ ملكاً تقاسمَه منكَرٌ و نكيرْ .. لا جديدَ إذنْ ، فنواميسُنا قُلَّبٌ ، هِيَ حيناً لنا وهْيَ حيناً علينا ، مصائرُ يصنعُها صانِعٌ ، ومفاتيحُ يُرْخِصُها بائعٌ ، ومغولٌ يجيئونَنا حقبةً بعدَ أخرى ، فبابلُ من بعدِ أورٍ ، ومنْ بعدِها نينوى ، أو سواها ، وبغدادُ .. بغدادُ ، جوهرةُ اللهِ ، آهٍ لها دارَ نخلٍ وماءٍ نميرْ .. وعيونٍ من الإنسِ والجنِّ ترنو إليها وتحسدُها ، ومغولٌ من الشرقِ والغربِ يحصونَ أنفاسَها ، وذئابٌ ، وأغربةٌ ، ونسورْ . قلتُ : بغدادُ ، ولْنَنْظُرِ الآنَ كمْ مرَّةً دهمتْها المغولُ ، وكمْ مرَّةً باعَهمْ عَلْقَمِيٌّ مفاتيحَها ، وجلسنا على ضفَّةِ النهرِ نبكي ، ونندبُها بمراثيَ من حسراتٍ ودمعٍ ، وما من مواسٍ لنا أو مجيرْ ، غيرُنا نحنُ ، أبناءَها الأوَّلينَ ، ولا أعرفُ الآنَ من نَسِيَ الدرسَ ، نحنُ نسيناهُ أمْ همْ نَسَوْهُ ، ولكنَّهمْ رحلوا ، كلَّهم ، وبقينا ، ونبقى ، وهم دائماً يرحلونْ . .................................... عندَ بابِ المدينةِ أوقفني ، اليومَ ، عِلْجٌ من الرومِ يسألني مَنْ أكون ! فما قلتُ شيئاً ، ولكنَّه ظلَّ يسألني ويُحَدِّقُ في سحنتي وأساريرِ وجهي ، فقلتُ له : أنا مِنْ ها هنا ، من ترابِ مدينتِنا هذه ، فقلْ أنتَ لي مَنْ تكونْ ؟! قلتُها وسَكَتُّ ، ولكنَّه هاجَ كالثورِ ، بَرْطَمَ ، واقتادني من ذراعي إلى حيثُ يجلسُ خمسونَ مثلي ، حُزانى ، يكادونَ يبكونَ من وحشةِ الروحِ ، أو همْ ، كما كنتُ أحسبُ ، يبكونَ داخلَ أنفسِهم ، دمعُهم دمُهم ، يَتَقَطَّرُ في مُستدِقِّ شرايينِهم شرراً لا تراهُ العيون .. فقلتُ لنفسي : إذنْ هذه ساعةٌ للبكاءِ ، ولي حصًّتي منه ، فلأبكِ بغدادَ كالأوَّلينَ ، بكاءً يليقُ بها وبما ضاعَ منها . وفتَّشتُ في مقلتيَّ عن الدمعِ ، لكنَّني لم أجد منه شيئاً ، ولا دمعةً ، نَضُبَ الدمعُ ، في ما بدا ، فرطَ ما فاضَ منه وما غاضَ عبرَ القرونْ .. عندها لم أجدْ ما أقولُ لنفسي ، ولا ما أقولُ لِمَنْ جلسوا مجلسي ، فضحكتُ ، ضحكتْ طويلاً ، وراحوا معي يضحكونْ ! من ديوان "اينانا"
|