(الـتّـيـْــه) .. عهد الشاعر حمــيد الـعـقــابـي.. |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات حميد العقابي..شاعر وروائي مختلف.. أديب يتحرك كالبندول بين الشعر والسرد الروائي..يصل في كل جهة منهما إلى الحدود القصوى. أعرفه منذ عشرات السنين..صديقي في المكان الأول..مدينتنا الأم (الكوت).. وصديق الخطوات الأولى في عالم الشعر والكتابة..والسير في متاهة الفكر والسياسة التي ألقت بنا في براري "التيه" ومنعطفاته الصخرية المسننة. نتواصل برغم تفرق الجهات والجغرافيا..نبوح لبعضا بأفكارنا وتقويماتنا التي لا يستوعبها العلن..نقرأ لبعضنا أول كتاباتنا قبل أن تنشر..وكل مرة يثير دهشتي.. سواء على مستوى الرواية أو مستوى الشعر..أو محاولات التجنيس الأدبي والتجديد في الكتابة. منذ ضربتة الأدبية المتميزة والمبهرة في " أصغي إلى رمادي" جّرب حميد الكتابة خارج التجنيس والتوصيف الأدبي التقليدي.فما كتبه حينها في ذلك الكتاب - السيرة لم يكن رواية بالمعنى التقليدي ولا شعراً..ولا سرداً شعريا..ولا نصا مفتوحا تقليديا ونموذجيا..بل هو كل هذه الأجناس مجتمعة.. وبرغم إصداره لروايات ومجموعات شعرية عديدة بعد "أصغي إلى رمادي"، إلّا أنه ما عاد لمثل تلك التجربة إلا في كتابه الأخير " التيـه" الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد. "التيه" تجربة روحية ومعرفية وتجليات وجدانية وشطحات صوفية جليلة قبل أن يكون مشروعاً أدبيا كنص مكتوب ومقروء..تجليات العزلة الروحية الحقيقة، وليست العزلة كقناع أدبي كما نراها لدى العشرات من الشعراء.. وقد كان هو مدركا لهذا الوضع لذى وضع إشارة لنصه قال فيها: ( يستيقظ الوحيد، والذي يطلق على نفسه "الأعزل"، جامعا مفردتين في مفردة واحدة لتدل على تجرده من أي سلاح وكذلك عزلته التي اختارها لنفسه بعد أن أكمل الخمسين من عمره لا هرباً من الآخرين بل لأنه أدرك أن لا متعةَ تضاهي متهة التطلع من نافذة برجه نحو الساحة المليئة بالناس اللاهثين وراء مبررٍ يجعل حيواتهم ذات جدوى..). لكن من هو هذا الأعزل..؟ يقدم حميد العقابي نفسه في قصيدة يفتتح بها كتاب "التيه" يعنونها (صورة الكاتب في شبابه)..فيكتب: ما كنتُ الضائعَ في الطرقاتِ، فقرأتٌ الأدبَ الصوفيَّ، هكذا هو التائه الأعزل إذن.. لكني وأنا أتيه في "تيه" حميد وجدته قريبا من النفريّ في دمواقفه ومخاطباته..قريبا من نيتشه، وجبران، وبورخيس وكبار الوجوديين الروحانيين والملاحدة. مائة نص، موقف ومخاطبة..قصيدة وقطعة أدبية..ومضة شعرية..قصة قصير جداً..لا تخضع في مجموعها ككتاب لأي تجنيس أدبي، فلا هي رواية، ولا مجموعة شعرية..ليست نصا مفتوحاً وإنما على العكس نص مغلق على فكرة أساسية هو مخاطبة ذات الكاتب للذات المطلقة..! بل يزيدنا حميد العقابي حيرة حينما كتب على غلاف الكتاب (عهـدُ الشاعر)..فهو نفسه يدرك أن كتابه لا ينتمي للشعر ولا الرواية ولا القصة القصيرة جدا..ولا النص المفتوح وفق التنظيرات الأكاديمية..!..لكن لماذا أختار الشاعر هنا مفردة " العهد" ، لاسيما وأن حميد هنا هو يعرف نفسه كشاعر..؟ (ـ العهد: (صيغة يعاهد فيها المؤمن ربه على الالتزام بفعل شيء أو تركه)؛ وهو أشبه باليمين في كونه لإشهاد الله تعالى على الالتزام بالعمل دون أن يكون بذاته طاعة لله تعالى، وإن اختلفا في كون الالتزام في العهد مرتكزاً ومُبرَزاً بلفظ عاهدت وما أشبهه، فيما الالتزام في اليمين مرتكز على القسم بالله تعالى، حتى كأن العهد نوع من الترقي في تشديد الالتزام من كون المؤمن معتمداً في اليمين على مجرد ذكر الإسم الأعظم إلى كونه في العهد ينشىء عقداً مع الله تعالى ليشهد على الالتزام ويحاسب عليه، فهو أوثق في الإرتباط وأعلى في الالتزام. أما ما يختلف به عن النذر فهو أن النذر بنفسه طاعة لله تعالى ولو لم يكن المنذور طاعة، فيما العهد بنفسه ليس طاعة حتى لو كان المعاهَد عليه طاعة، وهو نفس الفرق الذي سبق ذكره بين اليمين والنذر. (أنظر المسألة: 478). ـ لا ينعقد العهد بمجرد النية، بل لا بد فيه من اللفظ، ويكفي فيه كل ما يدل على التعاهد مع الله تعالى شأنه، مثل أن يقول: «عاهدت الله على أن أفعل كذا» أو: «علي عهد الله...»، أو: «عاهدتك يا رب..»؛ وهو كما يصح بلفظ: (عاهدت) ومشتقاتها، وبلفظ إسم الجلالة، فإنه ينعقد بما يرادف لفظ العهد، كالعقد والميثاق والذمة، كأن يقول: «عليَّ ميثاق الله تعالى...»، أو: «عليَّ ذمة الله تعالى...»، أو: «عاقدتُ الله تعالى...»، ونحو ذلك..). إذن يبقى هنا توصيف حميد العقابي لنصوصه " عهد الشاعر" ناقصا..فمن يعهاد حميد هنا.زأيعاهد نفسه، أم المطلق.زأم الآخرين..!!. لكن بعيدا عن كل التفسيرات لوصف الكتاب بأنه " عهد الشاعر" فهو نص متوهج يذكر بمخاطبات المتصوفة وشطحاتهم وتجديفهم أحيانا..نص مبني على قصائد وحكايات قصيرة ، حكايات تدور في ذات الموقف بتجليات مختلفة، تخاطب الرجل الجالس في وسط هالة ضوئية في عمق المغارة.!!.. وهذا ما ندركه من القطعة المرقمة (4) حيث يكتب: ( رفعَ ذبالةَ الفانوسِ قليلاً فأضيئتِ المغارةُ بنور ذهبي ساطع. عندها رأيتُ الرجلَ وسط هالةٍ ضوئيةٍ وقد أحنى رأسه يقرأ في كتابٍ كبيرٍ حتى لامستْ لحيتهُ البيضاء صفحةَ الكتاب. تراجعتُ خائفاً، فقد كان منظره المتوحشُ يوحي بأنه رجل نسيَه التأريخُ ليبيقعِ شاهداً من العصور البدائية. أطبقَ الكتابَ ورفعَ رأسه باتجاهي، فلاحتْ لي عيناه الغائرتان في محجريهما وجبهته المجعدة. لم يفاجئه وجودي ولم أتفاجأ بذلك، فهو كما يبدو رجلٌ ماتتْ عنده المفاجأة لكثرة ما رأى. تطلعَ إليّ وارتسمتْ على فمهِ المغطى بالشعرِ ابتسامة ثم قال بصوتٍ واطئ وهو يهزّ رأسه: " كنتُ حسبتكَ قد هلكتَ مع الذين طواهم البحر." تلفتُّ حولي فلم أجد أحداً غيري في المكان. ارتفعت ضحكته وهو يشير إليّ بسبابته: " وهل تعتقد بقيَ أحد يدفعه الجنونُ إليّ غيرك؟" قلت بلطفٍ فارتفعتْ ضحكته ثانيةً وهو يمسكُ طرفَ لحيتهِ الهاطلةِ على صدره العاري. توقفَ عن الضحكِ واتخذَ هيةً وقورةً لا تخلو من مسحةِ حزنٍ. " ألم تذكرُ؟ كنا معاً علة ظهر السفينةِ التي أوشكتْ على الغرق ثم نجونا بمعجزةٍ.زلا ليست معجزةً بل هي فطنةُ الشرِ التي دفعتنا إلى ركلِ كلَ المبحرين معنا ثم قدنا السفينة وحدنا.." اوقفتَ قليلاً وقبل أن أعترضَ كلامه لتوضيحِ الالتباس استأنفَ حديثه بثقةٍ ويقين: " كنتَ..أنتَ.. واقفاً خلف الدفّة.. وانا كنتُ أقف عند القيدم.. أطوّح بذراعيَ كي أحرِفَ مسارَ العاصفة." ارتفعتْ ضحكته التي تشبه زئيراً وبلهجةٍ لا تخلو من السخرية خاطبني" " حدّق في الماء..ترني." لكن الروح المتمردة والقلقة لدى الشاعر تواجه الخالق بنزق بشري وتمرد واضح حين يقول: أنا صلصالكَ المتمردُ وأعتقد أن حميد هنا قد تجاوز كل شطحات الصوفيين والوجوديين الملاحدة والوجوديين الروحانيين في مناجاتهم وتمردهم على الوجود والخلق. بينما نجده في نصوص أخرى يناجي الخالق بعشق عظيم..بل نراه في النص المرقم 45 يحاول سرقة النار الآلهية وسر الخلق فيكتب: ( في غفلةٍ منه، تسللتُ إلى مكتبتهِ الضخمة لعليّ أكتشفُ السرَّ. رفوفٌ تحملُ كتباً غطّاها الغبارُ وأخرى بألوان لم أرها من قبل. لفتَ انتباهي كتابُ ضخم، عنوانه مكتوبٌ بخطّ الثلث (كنْ). سحبتهُ بحذرٍ ورهبة. نفضتُ الغبارَ عنه فسمعتُ خفقَ أجنحةٍ وحفيفَ غاباتٍ بعيدة. قلبتُ الأوراقَ فلم أرَ غيرَ البياض. أعدتُ الكتابَ إلى محلّه ولذتُ بالفرار). وللحقيقة فأن كل نص وقصيدة ومقطوعة في كتاب " التّيْه" لحميد العقابي الذي انحاز للشاعر الذي في أعماقه يحتاج لوقفة تأمل وتحليل وكشف لجماليته. شكراً لك صديقي حميد العقابي.. صديق التيه..والذاكرة. التّـيْه (عهــدُ الشاعر) |