صلاح فائق: لا توجد قصيدة خارقة ولا تفكير مع الشعر |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات أقامت مجلة “الجديد” في إطار حفل انطلاقها بلندن يوم الـ12 من شهر فبراير، أمسية تكريمية للشاعر صلاح فائق صاحب “رهائن” و”تلك الأيام” و”رحيل”، بمناسبة بلوغه السبعين، وذلك إعلانا منها عن سعيها إلى الاحتفاء بعلامات رائدة ومؤثرة -وإن تكن مهمشة- في الثقافة العربية. وقد أصدرت مجلة “الجديد” ديوان صلاح فائق الجديد الموسوم بـ”غيمة في غرفة الضيوف” ليبلغ نتاجه الشعري مع هذا الديوان 23 عملا شعريا، يشكل مجموعها محطات في تجربة رائدة لشاعر لطالما كان فريدا بين أقرانه السابقين منهم، واللاحقين به من الشعراء الذين انضووا تحت لواء ما يسمى بـ”قصيدة النثر” أو “القصيدة الحديثة”. ثمّ قرأ صلاح فائق من دواوينه المختلفة، ومن ديوانه الجديد، وتحدث عن حياته وتجربته. وشارك في الاحتفاء بفائق بقصائدهم وقصائده الشعراء: العراقيان خزعل الماجدي وسلام سرحان والجزائري أزراج عمر والتونسية لمياء المقدم، وحيّاه فاروق يوسف بكلمة بديعة. لم تكن قاعة عادية، ولا لقاء عاديا كالذي يجمع الشعراء. كانت “غيمة في غرفة الضيوف”، لندن البيت الذي احتضن الشاعر العراقي الكبير صلاح فائق لمدة عشرين سنة، تستقبله اليوم زائرا، عابرا كغيمة في سمائها التي لا تصفو أبدا. سماؤها التي دفعته، كما قال، إلى التحليق بعيدا، مطاردا شمسا منفية وراء بحار، فالشاعر العراقي الذي فضّل العيش في قرية نائية، في جزيرة نائية، في بلد ناء هو الفلبين، يأتي اليوم ليلتقي أصدقاءه، ويقرأ شعره، ويستمع إليهم يقرؤون شعرهم احتفاء به، ويقدّم كلبه كقارئ وفيّ. في كلامه مع أصدقائه، يذكر صلاح فائق كلبه الذي تركه لدى جاره الفلبيني ليتسنى له القدوم إلى لندن ومشاركة الجميع احتفالهم به، الكلب بعيد وصاحب الكلب، الذي تعوّد أن يقرأ شعره على كلبه فقط، يقرأ اليوم لفصيلة أخرى من الحيوانات. فالعالم لدى صلاح فائق حيواني بالدرجة الأولى، وليس الإنسان سوى حيوان من نوع آخر، ليس أكثر أو أقل أهمية من كلب تركه عند جار. يقول صلاح فائق “عندما أقرأ شعري على كلبي يهز رأسه وينظر إليّ كأنه يفهمني”، هذه ليست وحدة بالمفهوم التقليدي، بل صداقة الأشياء، الحيوان، القرد والعقرب، كأنه منها، وكأنها منه، حتى أنك وأنت تنظر إليه ترى أحصنة وتماسيح وعقارب وثعابين وفراشات تعبره. لقد غادرنا الشاعر، الذي يعيش بيننا، ونراه يمشي ويتكلم ويفكر، إلى عالم خاص، الفعل فيه درجة من درجات السكون، الحياة فيه وجه آخر للموت، حقيقي جدا، ووهمي، قريب وبعيد في آن، بيننا وليس بيننا. كل ما يلمسه صلاح فائق يتحول إلى شعر، كل ما يمرّ به يتحول إلى شعر؛ يعبر بنهر، فإذا النهر عرس أو جنازة والأسماك نساء، ينظر إلى السماء فإذا بها تتحول إلى بقرة أو تمساح، يأتي بأكله وقبل أن يلمسه تأخذه المخيلة إلى بيت عراقي وأب وأم وأبناء وذئاب جائعة في مكان ما. يربط حذاءه فتغوص قدمه في صحراء حارة ودامية، مشاها ربما أو لم يمشها أبدا، إنه الشاعر الذي وجد الشعر ووجده. لا يفكر، يكتب ولا يعرف إلى أين يذهب، لا ينتظر القصيدة ولا يبحث عنها وهو القائل “أكتب كنحات أو رسام، أبدأ ولا أعرف ما سأنتهي إليه، الشعر اكتشاف”. أنا أقيم في الفلبين منذ عشرين سنة وليس في جزيرتي ولا في قريتي أيّ نشاط ثقافي أو شعري: إنهم سمّاكون، مزارعون وهناك قراصنة أيضا ومنهم أصدقاء لي صلاح فائق الذي طوى السبعين، ومازالت له روح طفل وعينا طفل، ليس بيننا حقا، لقد أخذه الشعر منذ زمن طويل إلى عالم لا يقاس بالزمن، ولا أحد فيه يحيا أو يموت. في ظل أجواء التكريم أجرت الشاعرة لمياء المقدم حوارا مع صلاح فائق حول الشعر والسفر والحب والحرية والحرب والانتفاضات والمنافي، ننشره في ملف تحت عنوان "هذا الشاعر"، مواصلين الاحتفاء بتجربة الشاعر الكركوكي الذي وصفته محاورته بأنه "شاعر كل ما يلمسه يتحول إلى شعر".
هذا لأنّ لي تاريخا مع الشعر، النحات يحوّل الطين إلى عمل فني، وكذا الشاعر، يتكلم مع الصخر كالنحات، ويستمع لكل شيء. تحتاجين للوصول إلى هذه الحالة زمنا طويلا.
أعتقد أنني وصلت إلى المجرة أو المكان أو فضاء أو أفق ما، هو الشعر. نحن لا نذهب إلى الشعر، هو الذي يأتي إلينا. هناك أعمال قمت بها في ماضي، لا احتملها الآن، حسب تجربتي الحالية. في وقتها كانت شيئا جديدا ومختلفا، هكذا يتم التطور والانتقال إلى شكل جديد. لا يوجد نص خارق، النص دائما منقوص، وكماله في نقصانه. لست راضيا عن شعري إلى الآن، لا يوجد رضا، هناك عملية مستمرة، ربما في العام القادم أكتب شيئا أفضل، أو ربما أصمت، هذه هي الحياة، الشعر والحياة شيء واحد. لا أكره أعمالي، وليس من الصحي أن نكره عملا أنجزناه، ثم اعتبرناه ناقصا، كل نص هو توثيق مهمّ للتجربة وللحالة الذهنية التي يمر بها الشاعر في مراحله.
لا أعرف عنهم الكثير، لا أقرأ لهم. ربما لواحد أو اثنين، لكن للأسف لا أرى أملا كبيرا في الكثير من الشعر. كأنه لا يزال في ماض بعيد. ما ينقص التجارب الحالية أن الشعراء لا يكتبون عن أنفسهم بل عن موضوعات. الموضوعات غير مهمة، لا أريدها، أنا أريد أن أعرفك أنت. كيف مخيلتك؟ كيف حياتك؟ كيف طفولتك؟ كيف تنظرين إلى الأشياء؟ يجب أن نكتب عن أنفسنا فقط، ومنها تطلع الأشياء ويتشكل العالم من حولنا. الشعر لا يأتي دفعة واحدة، لكنه يتربّى لدينا، فلا بد من تجارب كثيرة. نماذج قليلة فاجأها الشعر مرة واحدة لكنها لم تحتمل وفرت منه، مثل رامبو أو لوترمايون، لأنهم شباب لم يحتملوا انفتاح الشعر المفاجئ أمامهم. هربوا. الشعر إذا لم يتطور تطورا طبيعيا يصبح مخيفا، شيئا خارقا، مثل الإلهام، شيئا نبويا. فجأة يكتشف الشخص الشعر بداخله وبسبب صعوبة الاستمرار في هذا مع جسده وعمره يهرب ويترك كل شيء. رامبو هرب وصار بائع أسلحة في أفريقيا، لكي يتخلص من الشعر. ولوتريامون نفس الشيء، هذا الشاعر مذهل، خارق وأحبه أكثر من رامبو. خلق عالم خاص بك من خلال اللغة يحتاج زمنا طويلا، وليس كتابا أو كتابين. جلال الدين الرومي لديه كتاب واحد عبارة عن 10 مجلدات وفي النهاية لديه جملة مدمرة يقول “توقف، فقد جف القلم”. انتهى بعدها، ولم يكتب بعدها أبدا. استغرق كتابه 20 سنة، في علاقة مع نفسه وماضيه واللغة. ووصل إلى مرحلة قال لنفسه “اذهب، فقد جف القلم”. الرسام مثلا أو النحات، قد يصل إلى مرحلة الحديث مع الحجر وسماعه يتألم أو يتأوه تحت أصابعه. وهكذا الشاعر في علاقته بالأشياء. ◄ هل لديك عادات مرتبطة بالكتابة؟ في السابق نعم، كنت أدخن وأنا أكتب، وهذه عادة تعلمتها من الصحافة، لكن لا أقترح على أحد أن يدخن أو يشرب وهو يكتب، لأن في ذلك تشتيتا للتركيز. أنا أحبّ مثلا أن أسمع موسيقى وأنا أكتب فقط، لا أشرب أو أدخن. لا أعرف متى سأكتب، أبدا، الروائي يعرف ويلتزم ببرنامج طويل، الشعر ليس هكذا. لا أنتظر الشعر، لكن معي دائما ورقة وقلم، وكلما أحسست أنني أريد أن أكتب أكتب، لكن لا أفرض على نفسي شيئا، لأنه سيكون مفتعلا. ومشاعره ليست حقيقية.
الفلبين مجتمع ومتنوع وحيّ، بها 9 لغات. لا علاقة لها ببعضها، هناك 7200 جزيرة في الفلبين. وعبر التاريخ هذه الجزر كانت منعزلة فطورت لغاتها الخاصة. هناك 200 لهجة وكل الأديان موجودة، من البوذية إلى الإسلام، والإسبانية تُتَكلم هناك إلى الآن. يوجد تنوع مذهل، لغوي وديني وثقافي. ◄ لم نسمع عن أسماء كبيرة في الشعر أو الفن هناك؟ لديهم شعراء كبار يعيشون في أميركا ويكتبون بالإنكليزية، لكن داخل الفلبين يكتبون بلغات محلية لا أفهمها. للأسف لا توجد ترجمات وهم ليسوا متقدمين في هذا المجال، تكلمت مع الكثيرين، وقلت لهم لا بد من إيجاد مركز ثقافي في كل جزيرة للتوثيق، لكن لا يوجد. الآن تغير الأمر بسبب الإنترنت وبدأ يظهر شيء منها. الدولة لديهم غير مهتمة بالثقافة، هناك دور نشر، وصحف ومجلات لكن الدولة لا تهتم بالثقافة. أعيش هناك منذ 20 سنة وأحيانا أشعر أن إقامتي طالت أكثر من اللازم. بقيت في لندن 20 عاما قبلها، ولا أرتاح في لندن لأنني أكره الشتاء، أينما يصلني الشتاء أهرب، لديّ رعب من الشتاء، في الفلبين لا يوجد شتاء نهائيا، لديهم موسم أمطار لكن الحرارة لا تنخفض تحت العشرين أبدا. خلال هذه الأيام في لندن، لم أخرج من الفندق، لا أحب طقس لندن، لأنه يحدد لي أين أذهب، لكن في الشمس أنا حر وأختار المكان والوقت الذي يناسبني. في الصيف أحب أن آتي إلى لندن لبضعة أسابيع أو أشهر لكن سرعان ما أهرب.أحيانا وأنا أستقل الطائرة عائدا إلى الفلبين، أتساءل، ما الذي يرجعني إلى هناك؟ لكن لا أجد الجواب. اخترت هذا المكان بنفسي، أحببت هذا البلد حبا عجيبا، بلد رائع ذو طبيعة مذهلة، كل جزيرة مختلفة عن الثانية. في البدء كنت أنتقل من مكان إلى مكان، الآن استقريت في مكان. جئت إلى هنا زائرا، وقلت في ذهني إنني إذا تقاعدت يوما فسأعيش هنا، بعد ثلاث سنوات فقط أفلست شركتي واستقريت هنا. أعيش هناك مع كلبي تشيري (فاكهة). ولديّ ابنة في لندن اسمها هلا، من هيفاء زنكنة، التي كانت شيوعية بالجبل ومقاتلة وسجنّا معا. تزوجتها سنوات طويلة. هيفاء وهلا تعيشان الآن في لندن، كلتاهما متزوجة ولها حياة جديدة. ◄ هل تتابعُ أحداث العالم العربي، ما حدث في المنطقة وماذا ينتظرها في المستقبل؟ حين كنتُ في بداية شبابي، في الشهر الثاني من 1963 وقع انقلاب عسكري في بغداد وقعت على إثره مجازر رهيبة ضد اليساريين، وفيما يعد شملت الكورد أيضا في حرب وحشية لإبادة الفلاحين في قراهم. كما قام الانقلابيون بإعدام أعدائهم في ساحات عامة في مشاهد احتفالية. في الثمانينات اعترف مسؤول حزب البعث قائد ذلك الانقلاب الدموي بأنهم “جئنا إلى السلطة في قطار أميركي، وكان اسمه علي صالح السعدي، أنا بسبب خوفي من الاعتقال والتعذيب، التحقتُ بقاعدة قتالية قرب مدينتي كركوك، وكنت من مؤيدي الحزب الشيوعي آنذاك. بقيتُ أطول من سنة ورأيت فضائع الحرب هناك أيضا. منذ تلك البدايات لم يتغير الكثير في العراق وغيره، انقلابات في كل مكان: اليمن ودخول الجيش المصري لدعم السلطة الجديدة، ودامت تلك الحرب لسنوات، ثم انقلاب القذافي، انقلابات أخرى في العراق وسوريا، الجزائر والصومال، مصر وغيرها. ثم كانت هناك حروب كبيرة، فاشلة، مع إسرائيل، إيران. وهكذا ما أقصده من هذه المقدمة المملة هو أنني لم أنعم بسنوات هانئة ومريحة في هذه الحياة، حتى هربتُ من وطني وبلا عودة منذ أربعين عاما. معنى هذا أني عشتُ معظم حياتي في بلدان أخرى، لذا فإني لا أستطيع أن أتبجّح بمشاعر وطنية، إلى جانب أني قانونياً مواطن بلد آخر. كان لي أمل أخير قبل أعوام وأثناء ما سمّي بالربيع العربي، لكنه انتهى إلى نقيض بشع بل حتى أسوأ من الأنظمة التي ثارت عليها جماعات وجماهير ذلك الربيع الفاشل: انظروا ما حدث لليبيا، العراق، سوريا، اليمن وغيرها من البلدان العربية البائسة.لقد تم إنهاك هذه الشعوب تماماً ولم يعد القتال الدائر في هذا البلد أو ذاك إلا بين مجموعات تنفذ مخططات لصالح هذا النظام أو ذاك لهذه الجهة الدولية أو تلك. ما سينتهي إليه الوضع الحالي في هذه البلدان هو الأسوأ بعد. ◄ ما هو موقفك من حريق المشرق العربي؟ ماذا يمكن أن يكون موقفي سوى الأسف والحزن. لست في عمر ملائم للانخراط في أي نشاط معارض أو ثوري. إلى جانب أني بعيد جدا عن هذا المشرق، وقناعتي أن الكتابة الصحفية وأيّ نشاط إعلامي آخر، لا يمكنهما تعديل أو تغيير أي شيء ذلك لأن إنهاك الناس في حروب وصراعات أدى إلى يأس تام. ما كان مشهدا مليونيا انتهى إلى بضعة آلاف من المقاتلين المحترفين هنا وهناك وتحت شعارات طائفية أو دينية لا تمت بأيّ صلة إلى المطالب الجماهيرية السابقة. ◄ كيف تقيّمُ وضع إيران وعلاقتها بما يجري في المنطقة؟ إيران مثل أيّ دولة كبرى لها مصالح وطموحات في التوسع والهيمنة على أرض ونفوس جاراتها العربيات، تساعدها في ذلك هيمنتها العنيفة على الشعوب الإيرانية، أموالها الطائلة وامتداداتها الطائفية في هذا البلد أو غيره. إنها عملياً تحتلّ مناطق وجزرا عربية، هي تحتل العراق تماما ولها دورها الفعال قتالياً واقتصادياً وسياسياً في سوريا ولبنان. ما نراه في العراق هو أن الأحزاب الطائفية وحكوماتها تابعة تماماً لإيران. كما أن إيران تملك قوة عسكرية كبرى لدعم الحكومة العراقية، الفاشلة على كل مستوى وصعيد، وهي أيضا تشارك في القتال الدائر في العراق لحماية التركيبة السياسية والطائفية لهذه الحكومة. ◄ وماذا عما يجري في سوريا، ما المخرج في نظرك؟ المخرج هناك هو في إزالة هذه الطغمة الحاكمة، والتي تسببت حتى الآن في قتل مئات الآلاف من أبناء هذا الشعب وتشريد الملايين منه في كل أنحاء العالم كانت بداية ثورة الشعب السوري سلمية واحتفالية، حوّلهما النظام إلى مجازر يومية منذ سنوات ولا تبدو نهايتها قريبة في ظل الصمت الدولي أو في الحقيقة في مجرى تواطئه مع هذا النظام ورموزه في كل المجالات.
لم يبق لهذا الشعب ما يخسره في نضاله ضد الظلم والقتل اليومي والقصف ببراميل البنزين وأمام أنظار كل المجتمع الدولي، الذي لا يريد إيقاف هذه المجزرة. ◄ هل ساعدتك المسافة أن ترى الأشياء بشكل أفضل؟ صار سهلاً أينما كنت أن ترى ما يجري في هذا العالم إذا توفر لك الإنترنت أو الفيسبوك. ما يساعد أيضا هو البعد عن مركز الأحداث، مما يجعل فهم الأحداث موضوعياً وليس عاطفيا. أنا بلا تلفزيون أو راديو أو صحف هنا لأني أقيم منذ زمن طويل في جزيرة بعيدة وفي أبعد قرية فيها. لكنّي منذ سنوات قليلة أملك كومبيوتراً صغيراً يوفر لي كل ما أحتاجه من حيث الاتصالات أو المعلومات. بهذه الأجهزة العجيبة صار العالم صغيراً ولم يعد فيه أيّ مجهول. ◄ تكتبُ كثيرا وكأنك في سباق مع الزمن، ما السبب؟ ليس الأمر كذلك. كتبتُ لحوالي عشر سنوات ولم أنشر حرفا واحدا. أنا أقيم في الفلبين منذ عشرين سنة وليس في جزيرتي ولا في قريتي أيّ نشاط ثقافي أو شعري: إنهم سمّاكون، مزارعون وهناك قراصنة أيضا ومنهم أصدقاء لي. ثم إن النشر في الوطن العربي مثير للاشمئزاز. لخمسين سنة لم ينشروا لي إلا ثلاث مجموعات: رهائن، أعوام ورحيل، والأخيرة كانت معبأة بالأخطاء الطباعية وهذا أرغمني أن أعيد طبعها على حسابي في لندن في أواسط الثمانينات. من حسن حظي أني احتفظت ببعض الصداقات المتميزة والوفية وكنت ألتقي هؤلاء الأصدقاء كلما زرت لندن كل عدة سنوات. في العام 2011، استطاع صديقي الشاعر نوري الجراح وصديقي الآخر، الشاعر صالح دياب، من ترتيب دعوة احتفائية لي في مدينة سيت في مناسبة مهرجانها السنوي للشعر. وفي هذه المناسبة طبعوا لي كتاباً بترجمة مختارات من قصائدي القصيرة إلى الفرنسية. هناك فوجئت باستمرار الاهتمام بي وبشعري خلال كل تلك السنوات التي كنت أعيش فيها حياة منعزلة. هكذا توفرت لي الفرصة لأعيد النظر في كومة كتابات وقصائد كانت ملقاة تحت سريري. وقد قام صديقي الشاعر خالد المعالي بنشر وإعادة نشر عدة مجموعات، كما نشرت دار صافي في واشنطن مختارات من مجموعاتي مترجمة إلى الإنكليزية، ودعتني الدار إلى هناك لقراءات شعرية قمت بها.
لنفسي وأحيانا لكلبي ويبدو المحيط مسروراً حين أقرأ عنده، فيرش عليّ بعضاَ من مياهه المالحة! لم أقرا في حياتي إلا أربع مرات، آخرها كان في لندن قبل أسبوعين.
نعم. كنت في حاجة ماسة إلى هذه الوسيلة لتوثيق كتاباتي، تعلّم ترتيبها في نسخ الكترونية وإرسالها إلى أصدقائي، ولقاء أصدقاء قدامى وجدداً. إنها توفّر إمكانية التعامل مع الكتابة المستمرة بشكل أكثر جدية، كما أنها تحرر الشاعر والكاتب من عذاب انتظار نشر كتبه ورقياً، ولها منافع أخرى.
من المؤسف أن معظمهم رحل إلى الأبدية، دون حتى إخباري. ربما السبب هو بعدي وعدم توفر عنواني عندهم أثناء حياتهم. هناك قلة قليلة منهم مازالوا في منافيهم وقد أبهجني لقاء بعضهم في قراءتي الشعرية الأخيرة في لندن، منهم الشاعر المبدع خزعل الماجدي، ابن مدينتي، والرائع فاروق يوسف. هناك آخرون أيضا، يواصلون نشاطهم الإبداعي في بلدان أوروبية وشاعران ما زالا في العراق.
ربما ليسوا أكثر من عشرة في هذا العالم. في جزيرتي لي أصدقاء، منهم المحيط، القوارب التي تتمايل عند الساحل، النوارس الثرثارة، أشجار جوز الهند التي تشبه النخيل، هضاب وجبال قريبة، كما هناك ثعابين كبيرة، غير مؤذية، كسولة، تمتعني وهكذا فإن علاقاتي جيدة مع البيئة التي أعيش فيها، لكن الإنسان في النهاية هو صديق نفسه الأول، وهناك العزيز تشيري، كلبي.
أنا أقوم بهذا كله يوميا في الساعات الأولى من النهار. من شروط أن تكون في منفى وتتحمله أيضا هو أن تكون منظماً تحترم الوقت، تتذكر قليلاً وتتخيل أكثر. أي تصنع حياتك البديلة عبر الكتابة وتقتنع بذلك. إنه عمل من أعمال المقاومة الشرسة ضد الراهن من الأشياء والعلاقات.
نعم يعرفون كل شيء عنّي، أنا أخبرتهم. لم يزعجني أحد هنا طوال بقائي، لأني مهتم بنفسي وبحياتي الشخصية لا أتدخل في شؤون أحد ولا أبدي رأيا في أيّ موضوع سياسي وغيره. إنهم رائعون في كل شيء، أحترمهم حقاً وهم يعتبروني واحدا منهم، خصوصا وأني أعرف لغتهم جيدا وكذلك عاداتهم. ◄ هل لديك صديقة؟ كنت متزوجا هنا، لكني هربت من زوجتي قبل عشر سنوات وهي تعيش في جزيرة أخرى. كانت لي صديقة بعد ذلك، اختفت في أحد الأيام، وهكذا قدمت لي أفضل خدمة ومساعدة، لأني أتحمل منذ سنوات شروط العيش مع شخص آخر، وأنا بطبعي لست اجتماعيا ومتعتي الأساسية هي القراءة والكتابة، الموسيقى وشتم كلبي أحيانا بسبب طلباته الكثيرة ومحاولاته الشريرة في التدلل عليّ. ◄ هل يحدث أن تسمع اللغة العربية بالصدفة في الشارع وماذا يكون ردّ فعلك؟ لا عرب هنا لحسن حظي. لذا أنا في أمان من مشاكلهم وعقدهم وليست لي مشاعر حنان أو تعاطف مع من يتكلم العربية أو غيرها من اللغات الكئيبة. كنت في مانيلا العاصمة ذات مرة وسمعت عددا من الطلبة العرب أو السياح منهم يتناقشون بحماس وبأصوات عالية كان ذلك في مطعم ريفي، وانتبهت إلى أنهم يتكلمون حول مبغى، فخرجتُ بسرعة قبل أن يكتشفوني، ولم أزر مانيلا مرة أخرى. حول كلبي، لا أتدخل في مزاجه، ينام أينما يشاء، على سريري أو تحته، على السلّم الذي يؤدي إلى السطح. غالبا يحب النوم أمام البيت، وقد حماني حتى الآن من لصّين عضّهما فهربا نعم، رغم كل شيء، أشعر بالوحدة دائماً هل هناك علاجٌ لهذا الشعور؟ أهو مرضٌ أيضا، أم حقيقة كونيّة؟
|