المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
03/03/2015 06:00 AM GMT
أين نتلمس الأثرَ المختزل في قصة قصيرة لا تتجاوز الثلاث صفحات؟ وكيف يبدو هذا الأثر؟ جُملاً قصيرة مركزة، أو موضوعاً لا يُفصَّل ولا يُستطرَد في حواشيه وحواراته، وشخصيات لا تُسمى؟ شعوراً متدفقاً كتيار على سطح مستو، أو هاجساً دفيناً يتلوى بين تضاريس فكرة تستنفد شحنتها قبل وصولها نقطة الخاتمة المفترضة؟ أهو أثرُ فكرة مجردة ومرمَّزة يتلاشى تماماً بعد إتمام القراءة، أم أثرٌ يحاول تسلق الجدار الشاهق للواقع بكتلته المبهمة؟
مثل هذه الافتراضات وغيرها، وضعها خالد حبيب الراوي قيد باله، حين نشر أولى المحاولات القصصية القصيرة، المختزلة في قالب مضغوط، مفتتحاً تقليداً سردياً، سيكرّ عليه الآخرون، كرّ الأصابع على حبات مسبحة متشابهة، حتى يومنا الذي يُعرف فيه هذا التقليد بمصطلح القصة القصيرة جداً. كان الإيقاع لاهثاً، مبتوراً خلال طباعة السطور، تنبو عنه ترددات ذات لا تبغي الإفصاح في أمر يبدو على غاية الأهمية. كان الصوت متوتراً وحازماً، والنبرة تتراوح بين الجهر والإخفات، كابتهال مرفوع لجبروت متعالٍ في سماء النص القصير. لكن الصوت المجرَّب كان في شيخوخته زاهداً بحكمته الوعظية، ملتفتاً إلى جمالية الروح المتقشفة المطمئنة إلى تقليدها، فلم يعدُ إلى سوى اختصار تجربته في مجموعتين تأسيسيتين، نشرهما خالد حبيب الراوي في عامين متواليين (الجسد والأبواب، 1969) و(القناع، 1970) اختفتا بين التلال المئوية قبل أن تطغى عليهما أصواتُ التجريب الشكلانية العالية، بوقع طبل اخترقت ضرباتُه حاجز الألفية الثالثة المضطرب بحادث طوفاني. آنئذ عاد الأثر واخترق الأبواب، فاتّبعه رهط مجلجل، مشتت الجهات، ليختصره في قالب نسقي أقصر فأقصر. أصدر خالد الراوي مجموعتيه في حقبة كانت الروح الثورية خلالها تتنازع الاستمرار والمقاومة، والاندفاع والانكفاء أمام الباب الأيديولوجي المكفهر، يقرعه غرباء لا مُسمَّون: "يبست القرية فجأة: الأبواب موصدة، والشبابيك محكمة الإغلاق.. توقف الرجل الغريب وسط الشارع الخاوي ومدّ عينيه في الهدوء.. كان قد ترك المدينة الكبيرة هارباً من رجال الشرطة.. إنه مطلوب بزعمهم لإخلاله بالأمن: سياسي مناوئ. تساءل وهو يرفع عنقه إلى الشمس المنحسرة على السطوح ماذا حدث؟ وتقدم إلى باب قديم يعرفه وقرعه.. رنين وحشي" (من قصة الرصاص: البيوت، مجموعة الجسد والأبواب) بين النقطة والنقطتين المتلاحقتين أو المتعامدتين، كحلقتي سلسلة حديدية، يتقدم البطل الكافكوي، المجهول الاسم، في فراغ صحراوي، مطارَداً، حذراً، يجرّ سلسلته اللامنظورة، ويقرع باباً قديماً موصداً. الألغاز موزعة بتجريد قصصي شديد، والشجاعة تتراجع أمام لغة المطاردة والرصاص، وكتلك تنحسر الشمس عن السطوح. لن يمتلئ النص بمئات الصفحات، والباب الموصد لن يُفتح، وكلمة "الأحياء" التي ينتهي بها النص، تطارد القارئ بتهمتهم مئات السنين. بذلك يكون النص أقصر ما يكون، لأن قضيته أطول ما يكون. بين النصوص الثلاثة عشر التي تحتويها مجموعة (الجسد والأبواب) ثلاث حواريات (قد تسجل المحاولات الأولى من هذا اللون السردي القصير) تتمحور ثلاثتها حول صوتين متحاورين يبحثان عن الانقاذ بقارب نجاة، أو التماهي في مرآة خلاص وهمية (فكرة مكررة في قصص جيل الضياع الستيني) يجرد خالد الراوي رمزيهما إلى أبعد الحدود: "الأب ـ ماذا تقول؟ الجدّ ـ سآخذكم إلى دار لن يُقرع بابها. ولا يصلها نداء وليس فيها نوافذ كي ننجو. أتأتيان؟" يهزان رأسيهما (الأب وابنه) بالإيجاب. أصوات بعيدة ـ ذو الوجهين يهرب في المرآة ثم يسقط في البئر. وجوه كثيرة تهرب في طرق مختلفة لكنها أخيراً تسقط في البئر. ويظل القارب واقفاً. آه. لا تموتوا أيها المسافرون. سيحضر البحارة غداً". (من حوارية: الهارب أمام المرآة، مجموعة الجسد والأبواب) ازدواج الذات، تمزق الهوية، يقودان النص القصير إلى نقطة غائبة في الآتي. قلق تتساوى فيه الروح الثورية مع عبثها المصيري، يبعثر الضمائر السردية على السطور المبتورة. ليس النص قصيراً بصفحاته، إنما الكلمات المتوترة تتناوش خاتمتها بإفراط شعوري قلق، وتأنيب ضمير لا يهدأ عن التمرئي والمماهاة برموز مجردة (الباب، القارب، المرآة، البئر، الناعور، القطار، الريح). الوصول إلى مرفأ بأسرع من لمح البصر، تمادياً أو وهماً. في المجموعة الثانية (القناع) ينصص خالد حبيب الراوي خطابه الحواري القصير بحذافيره، ويفرّع صوته إلى (100 ذراع) و(سبعة أقدام) وقد تتحول هذه الأقدام إلى أجنحة طيور: "ركضتُ وقد أصبحت أقدامي طيورا". إنها لخاتمة تحاول إدراك الحد الماثل بين الانبعاث والنكوص في ملامح الحقبة الثورية بعد ثلاث سنوات من انتكاسة حزيران (صدرت المجموعة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وطُبعت في مطبعة الشعب ببغداد 1970 بغــلاف من تصميـم مـؤيد الــراوي). تتضمن مجموعة (القناع) نصاً مسرحياً قصيراً، يضاف إلى حواريات المجموعة الأولى، يفصح عن عمق الاغتراب والانفصال عن تقليد قصصي حشر الرؤوس في مقبرة واحدة. كان هذا الدفن الفكري مفترضاً، أو رمزياً، بقدر ما يعكس أزمة الذات الناقدة وحوارها الصامت مع المدفونين في حقبــة المأساة القومية بعد نكسة حزيران 1967. لكنه وهو يحفر في ذاته، كان يستخرج شكلاً كتلوياً (فئوياً) من ثقوب الشبكة السردية العراقية، ويطلقه صوتاً حوارياً يخترق الأبعاد الصامتة والمفزوعة حتى الموات: "أيها السامع غير المرئي.. يا من تمتلك كتلة تماثل كتلتي وتمتلك وعياً وإحساساً يضارعانني.. أنت غريب عني وأنا غريب عنك ولن يعرف أحدنا الآخر أبداً مهما أفصحنا عن أفكارنا وأسقطنـاهـا في مرآة الوضـوح.. ومهما فتحنا أبواب قلاعنا لندخلكم منها، فهناك أبواب سرية تظل مغلقة: شئنا أم أبينا" (من: سهرة تحت غيوم الصباح، مجموعة: القناع) أعرض هذا المقطع الحواري على القراء وأسأل: أين أزمة الاغتراب والانفصال في رأيهم؟ أفي الذات الصامتة أم في الآخرين المدفونين؟ ومن هم الآخرون هؤلاء الذين يغلق الساردُ الأبواب في وجوههم؟ أهم كتلة أو فئة عائمة الملامح، أم هم كتلة ضغط تلتزم قضية خاصة بها، تعمل تحت الأنفاق السردية الشائعة، ويدعوها السارد إلى كسر الأبواب؟ سيبقى الجواب على هذه الأسئلة معلقاً، حتى يثبت النسقُ القصير جدارته (الكتلوية أو الفئوية) في كسر أبواب الاغتراب السردي الذي تعانيه مئويتنا الأدبية التي أشرفت على خاتمتها التقليدية بأشد الأنساق كثافة وترميزاً وإلغازاً. 2}
انقضى الوقت الذي يصبح فيه الأثر المختزل مولوداً من جنسه الخالص. فقد يولد من غير جنسه، كالقصة التي تولد من القصيد المُنشَد على أوتار الشعراء الجوالين والمتصعلكين، كما قد يولد الأثر من شريط سينمائي مثل "الجمال الخطر" حين تؤلف المحظية الجميلة فيرونيكا حكاياتها من إغواء الرجال في بلاط البندقية خلال سجال شعري، شبيه بإغواء شهرزاد. ولنتذكر قبل هذا التقليدَ الإيطالي في "الديكاميرون" المؤلف من ارتجالات يؤديها رجال مع خليلاتهم بخلوة من وباء الطاعون. وليست هناك نهاية لانحراف الأثر القصصي القصير من تأملات الفلسفة والطبيعة والنفس واكتنازه بإغواءات الرسم والموسيقى والمسرح، في مختلف العصور. إن الحكمة الموجزة التي يحوزها الأثر القصصي قد تأتي من البؤرة الخفية للمصير الإنساني المهدد بالأصولية العقائدية والمجازفة النووية، كقدر محتوم. كما قد تأتي من بؤس الواقع في نص لتشيخوف، أو وحدة الوجود في نص لأوكتافيو باث، لتنتهي عند سحر الطبيعة البدائية في نصوص كتاب أميركاا اللاتينية: كاساريس وغوليانو وتوميو وكورتاثار. ولا عجب في أن ينحدر إغواء الأثر العالمي ليتصل بالأثر العراقي في ظرف خاص هو الأشدّ بين إغواءات التقليد الحكائي المعاصرة، وسط أمواج السرد الروائي الطويل لمرحلة ما بعد التغيير. في المقطوعة المسماة (نزهة ليلية) يوزع أوكتافيو باث الاستعارات والتشبيهات الشعرية، ليظهر ما أخفاه الظلام، وما كشَفَه "منار" الليل الدوّار. الأصوات والظلال تؤلف وحدةَ الطبيعة المنشدة بصوت خفيض حكايةً مختزلة (ولنتذكر هنا أنشودة بوزاتي عن حديقة الليل). بين بداية شعرية ونهاية تهجدية يضع أوكتافيو باث قانونَه الاختزالي لأكثر الآثار اختفاءً وانحرافاً: " ينسحب الليل من جسده ساعة إثر ساعة. كل شيء مختلف وجليل. أعناب وتين، قطرات حلوة من الظلام. ينابيع: أجساد، بين الحديقة الخربة تعزف الريح على البيانو. المنار يمد حنجرته ويدور وينطفئ ويهتف، الزجاج يصبح معتماً من فكرة، ونعومة، ودعوات: أيها الليل، ورقــة واسعة ومضيئة، فُصلت من شجرة خفية تنمو في وسط الدنيا" (نزهة ليلية: ترجمة كاظم سعد الدين، آفاق عربية 10/1989). وحينما يسترسل النص في بوحه الشعري، يكتشف القارئ خدعة الشاعر السارد في الذهاب والإياب لا إلى نقطة محددة نهائية: "وعند دورة المنعطف، تنتهي الخضرة، وتبدأ الصخور، لا يوجد شيء، أنت لا تملك شيئاً تقدمه إلى الصحراء: لا قطرة ماء ولا قطرة دم. معصوب العينين تتقدم خلال الأروقة والساحات العامة، والأزقة حيث تتآمر ثلاث نجوم رثة". لدينا نص يدور حول ضوء منار، يُوهِم بنسق قابل للاختصار وإعادة التدوين، لكن القارئ لا ينتظر شيئاً من نزهة الشاعر: لا قطرة دم ولا قطرة ماء، في نهاية زقاق مسدود إلا من ثلاث نجوم رثّة. وأيّ نصّ سردي يختزل عناصره ويتطلع إلى ضوء في يد قارئ الليل، سينتهي بما انتهى إليه نصُّ هيثم بهنام بردى أيضاً: " نهضتَ من جسدكَ المتصدع واستويتَ واقفاً على قدميك، تمثلتَه بإمعان ولآخر مرة، وجدتَ فيه فتحة رصاصية في الجهة اليسرى السفلى من الصدر، وقد أغلق عينيه متقياً الصهد الماطر من شمس لائبة. وهناك أجساد متصدعة أخرى تفترش الرمل الفائر، بعضها غادرها أصحابها والأخرى لا تزال ترقد في وهدة الكرى السرمدي الموحل وقد صفدت حناياها الخرساء حابسة قرائنها المضيئة، تحدق أمامك نحو الأفق البرتقالي، ثم تنتقل خطاك نحو الفنار" (الفنار: هيثم بهنام بردى، مجموعة: التماهي، بغداد2008). دفقة تنهض من رقدتها السرمدية، لتتجه إلى نور "الفنار" كما تقدمت دفقة باث في نهاية النص القصير، سوى أننا لن نتوقف في نص بردى لنتمعن في تفاصيل الطبيعة الشاملة التي اخترقت جسد الشاعر وجملته المتدفقة، ولن نحذف منها شيئاً. ستصبح الآثار المختزلة عصية على التقطيع أو الاسترجاع أو التلخيص، في نصوص أخرى لصلاح زنكنه (الأرملة والحصان، نشيج ليلي، صورة طبق الأصل) من مجموعته (كائنات صغيرة بغداد 1994). كلُّ أثر من التقليد القصير سيكتفي بنسقه وحده، ويتعدد في مجموعة نصوصه المتعاقبة، تحت عنوان عدديّ (عشرون قصة قصيرة جدا) لإبراهيم أحمد (أربع وأربعون متوالية) لمحمد الأحمد (سبع وسبعون أقصوصة) لعلي حداد. كما أننا لن نعتني كثيراً بتبادل التأثير، القريب أو البعيد، أو تحقيب التقليد نسقياً وثيماتياً، وسنهمل جملة الظروف الخارجية والتاريخية، لكننا سنشدد في المقابل على الحساسية الذاتية التي ينبثق النص من "فنارها" الدائر كلّياً في الشعور والذاكرة. نحن الآن نتذكر اللحظة الثورية التي أحاطت بانبثاق الأثر المختزل، ثم سايرته مدة ثم تركته يسير إلى نوره الداخلي. كانت تلك مرحلة التجاوب القومي بين نصوص متقابلة على ضفتي التقليد القصصي القصير (نصوص خالد حبيب الراوي وأحمد خلف وموسى كريدي وعبد الرحمن الربيعي مقابل نصوص زكريا تامر ووليد إخلاصي وياسين رفاعية ومحمــود الريمــاوي ويحيى يخلـف). آنذاك، حول تلك اللحظة الثورية، كان إبراهيم أحمد قد اختزل سيكولوجية الأثر وأيديولوجيته الاجتماعية في عشرين قصة، واقتحم واقع المرحلة وقوض تقليدها. كانت تلميحاته القصيرة "تقارير" موجزة عن الحياة اليومية ونقداً مريراً لها، وإضاءة شديدة لصورها المختفية في الظل: ظل الثورة واكفهرار أيديولوجيتها. أطاح بالرمز المقدس للمحظورات وفضحَ تزويقات النسق المحافظ والجميل لنصوص المرحلة: "توقفت عن تحريك ساقيها وتوقف الحمار. نزلت بسرعة وجذبت من تحت الحجر قطعة القطن الكبيرة وبسرعة خاطفة وخلال اعتلائها ظهر الحمار دستهـا بين فخذيها وعــاودت جلستها. هزّ الحمار رأسه وواصل مشيته مسترخياً كأنه طليق في حقل" (قطن، مجموعة: عشرين قصة قصيرة جداً، بغداد 1977). منذئذ والأثر المختزل الماثل في هذه الخاتمة من نص إبراهيم أحمد، ينتظر من يسلكه في النسق المقطوع، ويسحبه من موقعه الحقيقي بين آثار التقليد الحيّ، المتجدد، المتــواتر كدورة "فنــار" على شاطئ التحــولات السرديــة.
|