المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/07/2014 06:00 AM GMT
1. مزبلة الحواسيب كنت أخطط هيكلاً احتياطياً لسيرة هولاكو، حين سالت قطرات الدماء على شاشة حاسوبي الذي عثرت عليه في المزبلة (مزبلة التاريخ أو مزبلة النصوص الطارئة) وأُلقي برأسي في طست الرؤوس المقطوعة. كان هذا الفعل الدراماتيكي مشابهاً لفعل المغول بمئات الرؤوس في رصافة بغداد، يوم الاثنين، خامس صفر، من العام 656 الهجري. لن أخيف إلا نفسي بوضع هذه الديباجة الرهيبة، إلى جانب الخطوط المتنافرة والمتواطئة مع مخطط السيرة المغولية، والرسوم الحبرية التي تغطي المفكرة المفتوحة إلى جانب الحاسوب. الحاسوب والمفكرة مزيفان، لكنهما ضروريان لتعقب السهم الذي يتقدم حلمي ذا الشعب الثلاث: الخط والرسم والغناء. وكان السهم يشير إلى نهاية الزقاق المؤدي إلى دار صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف الأرموي، الموسيقار الحاذق، والمنقذ الصادق لجيرانه في الزقاق من غول المغول، والصديق المزدوج لروح الشر وسلطان النغم في الأوتار الخمسة المشدودة على صندوق العود المخروطي الذي يمسكه في حضنه، ويضرب عليه لحن القبول والمثول. لم تبق من قيان صفي الدين الأرموي إلا واحدة حبسها العازف الحصيف في قارورة كبيرة من الزجاج، وعندما دخلتُ الدار كان صوت المغنية المحبوسة ينتقل من دور إلى دور، ومن حدّة إلى ثقل، حتى انتهى إلى مقام يناسب انقضاء الليل وطلوع الفجر وذبول النغم الموقَّع بأصابع العازف المتأهبة. اجتذبني النغم المديد، المطوي في قرار الفتور والانحشار، حتى إذا اجتزتُ دهليز الدار سقط رأسي في الطست المركون في فنائها الواسع، وعُلّق السيف على عمود من أعمدتها، قريب من القارورة. ناحت القينة ثم همدت، وهمد السيف، وكذلك أمراء المغول بعد نفاد خمرتهم وهدوء سَورتها في نفوسهم، وضربَ العازفُ المتأهب على الوتر الغليظ لحنَ التسليم على مقام (البزرك) الفاتر، موافقاً صوت القينة التي أنهت أغنيتها بهذا البيت: ميكشد آن شه رقمي دل بكفش جون قلمي (أي: كتب هذا الملك خطاً، والقلب في كفه كالقلم) حين سقط رأسي، كنت في سبيلي إلى رسم (الدواة الكلّية)، مصدر خطوطي وتشكيلات حروفي، قبل أن تجتاح العاصفة النغمية مخططي عن السيرة المغولية وتؤلب السياف على عنقي المتأود ويدي الملوّحة بالاعتراض والاستغراب من المحبس الزجاجي الذي يضم القينة، ويسيح الدم على حاسوبي. شاهدتُ الدواة راكعة بين يدي كاتب المغول، مائلة، مرفوعة الغطاء، وقد حلّقت ريشةُ الكتابة في فضاء الدار، فاندلق الحبر وارتدت الحروف أشكالاً آدمية أو مُسخت عنها وسرحت بعيداً عن رقعة الكاتب المبسوطة على الخوان أمامه، وفيها أمر إعدامي. تعكزت (اللام ألف) المحدودبة على عصاها مثل درويش، وسبحت (الراء) كالأفعى في بركة المداد المندلقة على أرض الدار، وجعلت (النون) من تقويرتها وعاءً للنقاط المنزلقة عن الحروف، وتعلقت (السين) بسراج معلق في مشكاة، واتسع وسطُ (الهاء) كعين جاحظة، وصارت بقية الحروف جِمالاً وخيولاً وطيوراً ، وكان الأرموي قد راقب انكفاء دواة الحبر الكلية، بعد نوم الكاتب وأسياده، فانسحب مع عوده واستقر مع قينته في قعر القارورة الكبيرة. حملتُ رأسي المقطوع وخرجت من دار الأرموي، وفي الطريق شاهدت رجالاً ونساء، يحملون رؤوسهم مثلي، ينبعون من الأزقة كمداد مندلق من محبرة كلّية، وكلٌّ قد تحول عن حرف مقوّر وألف محدّبة وسين مسننة، عراة من النقاط أو ملتفّون بأسمالهم كالطغراء. صرتُ أتبعهم وأحثّ خطاي وراءهم، ثم لحقت بأحدهم وسألته عن وجهته فأشار إلى السور الخارجي، الذي انهار في أكثر من موضع وحاطت به مياه الفيضان، ولعله قصد باب السور المعروف بباب السلطان، ثم تركني مسرعاً كالمهبول. جانبتُ امرأة وسألتها: "لم الفرار يا امرأة، وقد قُطعت رؤوسكم؟" قالت: "ما أغشمك! لسنا فارين. نحن نبحث عن مزابل المغول" ثم اجتازتني مسرعة فناديت وراءها: "أتبحثين عن شيء في المزابل، شيء مفقود أو نادر؟". التفتت مكشّرة: " اسرع .. اسرع يا خايب" ثم زادت من هرولتها. صحت بأعلى صوتي وراء الحشود المقطوعة الرؤوس: "عجبا.. لمَ الهرولة، أتركَ لكم المغول شيئاً نفيساً لا تجدونه في بيوتكم، أيها الكلاب؟". كانوا حفاة، جفف المغول دماء وجوههم وسلبوا رُوعهم بعد رؤوسهم، يتسابقون لمزابل السور. كانت مياه الخندق قد فاضت حول السور وأبوابه المهدمة، وأشياء تطفو مع الجثث لا يعرف كنهها. انتشرت المزابل خارج السور وداخل أبوابه، ولم يكتف الزقاقيون النافرون من المحبرة الكلية بتسلق أجزاء من السور، بل هدموا حجارته وانحشروا في مواضع مخروقة منه، بينما اعتلى آخرون قلاع حراسة السور وأفرغوها من محتوياتها. البنادق والثياب ثم الحواسيب. بدأوا يرمون بالأجهزة إلى مياه الخندق، هازجين بنهاية عصر الخدع الإلكترونية والحروف الكلية لدواة الأزمنة الغابرة. كدتُ ألحق بهم، وهممت بصعود السور، إلا أن رأسي المقطوع الذي جفت دماؤه ناداني بحزم وإصرار: "تمهل يا صاحبي، التقط جهازاً لنفسك وعد إلى بيتك.. هيا تحرك قبل فوات الأوان".
2. الإصبع الكونيّ لحظة تصير مشكلة انقطاع التيار الكهربائي مشكلةً كونية، تنطفئ بسببها المصابيح وتتعطّل الحركة والنظام ويسود الظلام كلّياً، يصير زرّ الكهرباء الصغير زرّاً كونياً يتحكّم في عالم الأحلام المشتمل على فوضى الأحكام، واختلاط الأزمان والأكوان، وتحوّل الكائنات البشرية وعودتها إلى ما قبل _ التطوريّ، وما دون _ العقليّ، إلى الخليّة الطافية في رحم الهيولى المنفصلة عن هباءة ما قبل العالم الإنسيّ، إلى التخلّق الفوضويّ غير الموصوف بأية صفة إنسانية أو صورة منطقية سابقة أو لاحقة لخلْق الإنسان. يتحكّم الزرُّ الكهربائي الكونيّ في حالتي التجميد والتسخين، تحت وفوق درجة الاحتمال البشري، فتبدأ دورةٌ من الخلْق غير المكتمل وغير المتشكّل تماماً، دورة النصف من كلّ شيء، أو دورة البدء من منتصف كلّ شيء، دورة الصِّفر الكونيّ، أو ذروة الطفرة الكونيّة، حيث تصل الكونيّاتُ الحيّة إلى قمّة تحوّلها البيولوجي وأدنى درجات تحملّها لشروطها الإنسانية ونظامها العضوي التطوري. هنا، عند أحد الاحتمالين الفوضويين الغارقين في العَماء الكونيّ، التقيتُ المخلوقَ المبتور من كيان عضويّ كامل: الإصبعَ الثاقب، النطّاط، الأبرص، الخادمَ لدى الزرّ الكونيّ، المتحوّل من زرّ الكهرباء. يمتلك الإصبعُ قوةً هائلة، مطّاطيّة متمددة، مقاوِمة للحرارة والبرودة، متجاوزة للحواجز العملاقة والهُوى السحيقة، يتخلّق من ذاته ويستولي على غير ذاته، يتشكّل في أيّة هيئةٍ يشاء. لو تصوّرناه فيروساً سريعاً ذكياً في تخلقّه واختراقه النُظُمَ والحواسيب الكونيّة، انطلقَ لحظة تعطّل محطات كهرباء الأرض ومواصلاتها السلكية واللاسلكية، واكتسبَ نتيجة ذلك طاقة كهرومغناطيسية مضاعفة في التخريب والتعطيل، لأصبحت افتراضات السيطرة عليه رقماً رياضياً ضائعاً في فوضى النظُم والقيم والاحتمالات. ذلك لأنه نظام بحدّ ذاته، وقيمة لا محددة، خلقهما ظلامُ العالم وفوضاه، ومولوداً شائهاً لأحلام البشرية المتاخمة لعماء الأزرار الكونية. عندما التقيتً الإصبع، لمحةً في مملكة الظلام، بدا حيواناً يشبه آكل النمل، بخرطومه المتحسّس للسطح الذي يدبّ عليه. أما ذلك السطح فبدا كأنه مومياء أتى النملُ على الناووس الذي حُنِّطتْ داخله، وأتى آكلُ النمل ليقضي على الرِّمة الباقية من المومياء. كان الإصبع مولعاً بتهديم نظُم المجتمعات والحضارات واحداً تلو الآخر، فقد تحوّل من حفل المومياء إلى سدّ مأرب، مع عدد كبير من الأصابع الفتّاكة، ثم زحفَ على إيوان كسرى، وتبعتْه الأصابعُ المتخلّقة منه إلى عشرات القصور المنيفة، ورافقتْ قوافلَ الحجّ إلى مكة، وفي طريقها أهارتْ الآبارَ والبرك، وسكنَتْ خانات الطرق فهجمَتْ على بضائع المسافرين، ثم توجَّهَتْ بعد ذلك لغزو القصر العباسيّ في سامراء، والمدرسة المستنصرية في بغداد، وبقايا المفاعل النووي المقوَّض في التويثة. وكانت المكتبات طعاماً سائغاً للإصبع آكل النمل وجماعته، الذين تحوّلوا إلى صُور مُشعلي الحرائق، وكانوا أخيرا قطيعاً من الضِّباع المرقَّطة يرابط أمام جبّانات الطبّ العدلي. ما كنتُ أعلمُ أنّ الإصبع الفتّاك يأكل عضويتَه ويبتر أجزاءً من خِلْقته، فكما كان يتخلّق من ذاته كان يقضم زوائدَه وأطرافَه، حتى أقصاه الزرُّ الكوني المتحكّم إلى مستعمرة الجُذام. لم أكن أعلم أنّ الأصابع الكونيّة المدمِّرة تنتهي إلى هذا السجن المرعب، وترتدّ إلى حاسوبها المشتبك مع حواسيب الفترات المظلمة. لكنّ الأصابع الكونية كانت تتوالد باستمرار وتتناسل في المستعمرات وتتكاثر في ظلام العالم. ظهرَ المخلوقُ المتكاثر على شاشة حاسوبي تحت اسم (الإصبع الذهبي) ملحقٍ برقمٍ مكوَّن من خمس عشرة مرتبة. وأنا أستعمل اليوم الاسمَ والرقمَ هذين كلمةَ مرور إلى شبكة المستعمرات، متابعاً الحملات الأخيرة للكائنات الحاسوبية من فئات آكلي النمل ومصّاصي الدماء والمقّنعين والوطاويط والساموراي والأمازونيات، حين يكون الزرُّ الكوني نائماً بجواري، والأصابع الكونية تمرح في أحلامي وتغزو ظلامي.
|