المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/02/2013 06:00 AM GMT
يُكرّس الروائي والقاصّ العراقي شاكر الأنباري في عمله الروائي الجديد «بلاد سعيدة» (دار التكوين) دمشق بلداً له عوضاً عن العراق، وطنه الذي غاب عنه قرابة ثلاثين عاماً، مقيماً ومتنقلاً في منافٍ عديدة، من البرازيل والدنمارك إلى سورية التي أحبها وجعل منها مادّة أعماله، سواء في القصة والرواية. يعود سعيد - الشخصية الرئيسة في الرواية - بعد كلّ تلك التنقلات والعيش المضني وقلق الإقامة - إلى «البلاد السعيدة «، والمعني هنا العراق. أمّا التسمية فتحمل دلالات ساخرة ومريرة عن العراق القديم الذي سُمّي بتسميات متعدّدة مثل «دار السلام» و «بلاد ما بين النهرين» و «كلواذة» و «البلاد السعيدة « و»بلاد الرشيد» و»ألف ليلة وليلة» وغيرها من التسميات التي كانت تحمل معاني مضادة ومعكوسة... فدار السلام تحولت إلى دار حرب وأضحت آلافاً من الليالي الحزينة، والبلاد السعيدة صارت بلاداً تعيسة، وبلاد ما بين النهرين باتت تعاني القحط وشحة في الماء، والعراق الكبير اختزل أيضاً باسم طاغية. بعد غيبته الطويلة، يُقرر سعيد العودة عقب زوال الديكتاتورية، فهو متشوق وبه ظمأ لارتشاف صور بلاده الجميلة ورؤية الأهل وملامسة الأماكن القديمة وقريته ونهر الفرات الذي يمرّ بالمنازل الريفية، وهو يقطع الحقول والبساتين والقرى المتاخمة لقريته «الحامضية»، وهي ناحية من أعمال قضاء الفلوجة التابع لمحافظة الأنبار. إبّان رجوعه إلى العراق عام 2004، ينتابه الفرح لغياب حزب البعث وطغمته الحاكمة، فهو يسعى إلى تنشق هواء الحرية وتلمس الأجواء الديموقراطية في العراق الجديد. لكنّ العائد إلى دياره سرعان ما يكتشف أنّ العراق الجديد صار قديماً، والديموقراطية صارت تعني أن تحمل كاتماً للصوت وترفع الشعار الطائفي. وبعد غياب الديكتاتور، تحتلّ الساحة دزّينة من الديكتاتوريين الجدد ومجموعة من اللصوص والقتلة الذين ينحرون العراق، إلى جانب الدبابات الأميركية وإرشادات الحاكم بول بريمر وطاقمه من الحاقدين على أرض العراق وتاريخه العربي. يصدم صاحب «الكلمات الساحرات» بعودته التي لم تُحقق له إلا المزيد من المتاعب والآلام الجديدة، وخصوصاً حين تقوم القوّات الأميركية في العام الذي تُصادف فيه عودته وفي العام الذي يليه بتنفيذ مهمّات عسكرية تطاول مدينة الفلوجة ونواحيها وقراها ودساكرها الكثيرة، لكونها أكبر قضاء في العراق. العودة القاتلة وهو في خضم التمهيد لهذه العودة عبر السكن في بغداد ووجود فرصة عمل في إحدى الصحف البغدادية، ومحاولة الإمساك بالمشهد القديم وربط الصلات من جديد بالأهل والأقارب والأصدقاء، تبدأ الحملة العسكرية - الأميركية الظالمة. وفيها استخدمت أسلحة محرّمة دولياً لتنال من أطفال الفلوجة وشيوخها ونسائها اللواتي تعرضن للاغتصاب على أيدي القوات الأميركية والعراقية في السجون والمعتقلات. وقد طاولت نار الراجمات والصواريخ والقنابل الفسفورية عقر دار العائد، فيستشهد من أبناء عائلته قرابة تسعة أشخاص من ضمنهم عمه وأولاده وبعض النساء والأطفال. حين يلملم العائد جراحه ويرضخ لمصيره الجديد، لكون العمليات صارت تتوسع لتشمل مدينة في ضواحي بغداد - أشدّ المدن فقراً - يتجرع البطل سعيد هذه المشكلات على دفعات، لكون العراق محتلاً، ويعيث فيه الخراب من كل جهاته، فيرضى بالبقاء ولكن على مضض، معللاً النفس بتحسن الأحوال والشروع في تخطي البلاد الأزمات. وهذا الكلام السياسي كان يروج في الميديا العراقية التي من مهماتها الرئيسة نشر الأكاذيب وتغطية الفساد المستشري كمرض عضال والتستر على أعمال المسؤولين من قتل ونهب للمال العام وتخريب لبنية المجتمع العراقي. في منعطفات الصبر هذه ينشغل الراوي في وصف حالة القرية وأهلها ومراقبة التحولات الفيزيولوجية والسايكولوجية لدى الأهل والأصحاب على لسان الراوي الذي هو أخوه، الموظف وخريج الجامعة، المنشغل بمتابعة الشأن السياسي حتى تقع الطامة الكبرى، وهي الحرب الأهلية التي تستغرق قرابة عامين بدءاً بعام 2006 حتى نهاية عام 2007. هكذا كانت الحرب البشعة بين شعب واحد متداخل في النسب القبائلي والمصاهرة والزواج لدى جميع أبناء هذا الشعب الذي هدت قواه الحروب والمشكلات اليومية، لتكون حرباً جديدة من ابتكار أيديهم. ينكفئ العائد حينذاك على ذاته، منفرداً مع حالته النفسية الجديدة، وليدة المطحنة الدموية التي لا تفتأ تطحن رؤوس أهل البلد الواحد، فيمضي لتزجية الوقت على ضفة الفرات، لكنه في الاستراحة هذه يبدأ النهر بإظهار وجه آخر، متسق مع حالة الحرب الأهلية، ليريه وهو جالس على ضفته جثث الضحايا الطافية على الماء، أو تلك التي تمر عائمة وعليها آثار التعذيب. إنه مشهد جديد، مأسوي ينضاف إليه الكثير من الوحشية والسمة البربرية، فيعاف النهر والذكريات والنسمات الحارة في صيف ساخن، وهو لا يلوي على شيء سوى إعادة الكرة مرة ثانية للخروج من هذا المأزق الجديد. كل هذه المشكلات والقضايا والحوادث التراجيدية تشكل للعائد حافزاً آخر لمغادرة البلاد، فيبيع أثاث المنزل وسيارته ويترك وظيفته ويعود مرة ثانية إلى المنفى، للبحث عن منافذ للعيش في الهجرة التي ظلت متواصلة والتي عادت إلى الاستئناف في زوايا العالم. إن «البلاد السعيدة» التي عاد إليها سعيد، تدل على فشل مشروع الاحتلال الذي قسّم البلد على أسس مذهبية وطائفية، ليخلّف مشروعه المزيد من الفتن والمزيد من الاحتراب بين مكونات الشعب العراقي. تحت هذا المنعطف الخطير كتب الأنباري رواية «بلاد سعيدة» متوقعاً ما سوف يحدث لاحقاً، لأناس ذاقوا علقم المعاناة عبر مسيرة طويلة من الآلام والخيبات والنكسات المتوالية، عبر لغة مكثفة وواضحة، تتخللها نبرة شفيفة في بناء العالم الروائي ذي الشخصيات القليلة والأمكنة المبتسرة، وهذه الصفات هي التي ميزت على الدوام أعمال شاكر الأنباري القصصية والروائية.
|