حوار مع الروائي عبدالكريم العبيدي : رواية ضياع في حفر الباطن تروي ما عجز عنه التاريخ

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
27/11/2012 06:00 AM
GMT



ما الذي يدوّنه المبدع في سردياته . أو الرائي في رواياته لشعب آدمن الحزن والحروب ، وذاق مرارة اليتم بوقت مبكر ، وترملت النساء في ريعان الشباب . ما الذي يدونه سوى الألم و انسلاخ الروح و احتراق الذات وتفتتها، ليقترب قليلا من ساحة هذا الكائن المعبأ بهم لا يعادله هم ، ليستل من قاع المدينة حكاية للمدى . تؤرشف تأريخ لا يبارح الذاكرة أبدا .. ولكي أقترب أكثر من قاع المدينة والناس حزمت أسئلتي الى دارة الروائي عبد الكريم العبيدي لكي أستنشق أكثر رائحة أبطاله الذين شغفنا بهم من خلال قراءة أعماله الروائية أو مشاهدتهم على شاشة التلفاز .وقد أثارت روايتيه ( ضياع في حفر الباطن و الذباب والزمرد) كثير من الجدل في الأوساط الثقافية . ولذا كان هذا الحوار حفر الباطن وأشياء أخرى .


س: يكاد اسمك كروائي قد ارتبط بالضياع كحالة مميزة بعد صدور روايتك الأولى "ضياع في حفر الباطن"، هل يمثل ذلك نوع من الفرادة؟، كيف تنظر إلى هذا الضياع؟

ج: أعتقد أن مرد ذلك، إن حصل، هو أنني أول، بل الوحيد من اشتغل في تلك المنطقة القلقة والطارئة في تاريخ العراق الحديث، وفي تاريخ أدبه أيضا، وأعني بها صحراء حفر الباطن مكانيا، ومطلع التسعينيات قبل وأثناء وبعيد كارثة غزو الكويت زمانيا، ولأن رواية "ضياع في حفر الباطن"، وهي الرواية الأولى التي صدرت لي قد نالت ما نالت من قراءات، بعضها رصينة ومهمة، فربما يكون المزج بيني وبينها، أي بيني وبين ضياعي ممكنا نوعا ما، ربما لفترة امتدت من أول إفصاح عن ذلك الضياع اقتحم الصحافة بفن الريبورتاج، في صحيفة النهضة وأثار لغطا، ثم بعدد من فصول الرواية التي نشرت في صحيفة المدى وكتب عنها ما كتب، خصوصا القراءات التي أشرت بوضوح إلى ماهية هذا النوع من الرواية كمزية وليس ككم، وهنا أحيلك إلى ما كتبه الكاتب المبدع محمد خضير، وكذلك الروائي المبدع شاكر الأنباري، باعتبار الرواية تمثل "مثال دقيق على التحقيب المبكر لروايات التغيير في العراق".
وبعيدا عن ماهية الفرادة التي التصقت بي، أرى أن الضياع الناتج عن فقدان الرؤية السياسية هو لصيق أجيال عراقية وليس حالة خاصة بي، فما نتج عن غياب تلك الرؤية شمل العديد من العراقيين، بل أن هناك مواليد ربما باتت مهددة بالانقراض بسبب الحروب والانتفاضات والحصار والاعدامات والهجرة، وهو ما أشارت له روايتي بوضوح، وهذا المشكل مازال قائما في العراق ويرى بوضوح في مملكة السوسيولوجيا اذا ما جرى استبدال العين البيولوجية بالعين السوسيولوجية في قراءة المتغيرات والتحولات التي أنهكت العراق مؤخرا، حتى بات العراقي الذي لا يشعر بالضياع المؤدي إلى قلق مستديم، ولا يجد شيئا يقلقه فهذا سيكون بحد ذاته أمر يقلقه على حد تعبير شوبنهاور.
ويبدو لي أن أقسى أنواع الضياع في العراق هو ذلك المقرون بهزائم، هزائم سابقة وآنية ولاحقة حتما!، وهذا هو  ما يجعل التدافع الفكري والسايكولجي يضطرب بقوة، وينذر بشؤم، إذا ما أدركنا أن الرواية باتت تروي ما عجز عنه التاريخ، إن لم أقل فشل، فمن الواضح أن هذا الناتج المهم يرتبط بماهية التحديات النظرية والعملية بين الرواية والتاريخ، بين اشتغالهما بالوقائع الهامشية والشذرات والمخلوقات الهامشية الحياتية غير المعنية بصناعة التحولات الكبرى، والتحولات السياسية والعسكرية والانقلابية، بين القامع السلطوي والمقموع المهمش، بين سيّر الملوك الغازين وبين هذا الناتج الاجتماعي المسحوق والضائع والمهزوم دائما.

س:  إذن هل كل هذا هو ما دفعك إلى كتابة روايتك "ضياع في حفر الباطن"، كمحاولة لكتابة رواية مغايرة لما قبل العام 2003 ، والخوض في موضوعة ما هو محظور سابقا؟

ج: سأحاول فك شفرة سؤالك بدقة، طالما أنك اخترت هذا التاريخ بالذات، فالأمر قد يبدو ملتبسا نوعا ما، لأن هناك روايات عراقية مهمة صدرت قبل هذا التاريخ وفي ظل الرقابة السلطوية وخطابات الانقلابات المتعاقبة، ولكن ظهرت معها روايات اقترنت كليا بخطاب السلطة آنذاك، خصوصا في ثمانينيات القرن الماضي وما أعقبها، وبالذات التي تناولت موضوعة الحرب الثمانينية، وقد صدرت عليها الأحكام الساخرة منذ صدورها، ثم عرضت تلك "المهازل" على الأرصفة بأكوام يرثى لها بعد التاسع من نيسان عام 2003، وكان من يبيعها يهتف ساخرا:"الكتاب بربع وبيهه مجال"!، وهو أمر ليس بمستغرب، بعد الفتوحات الأدبية الهائلة التي قامت في فضاء الرواية العالمية، تلك التي تم عزلنا عنها قسرا خلال عقود الدكتاتورية، وأحالتنا إلى ما يعرف بأدب الاستنساخ المرير.
نعم، دفعني بقوة مؤثر كتابة رواية مغايرة، والخوض في موضوعة ما كانت محظورة سابقا، ولكن هناك الكثير من المؤثرات الأخرى،  وإذا كان على "كل كيميائي أن يقاوم الخيميائي الذي يسكنه" على حد قول باشلار، فقد بات علي وعلى غيري من الأدباء والكتّاب والفنانين وغيرهم أن ينتفضوا على الخوف الراكد منذ عقود في أعماقهم ويتناولوا ما عجزوا عن تناوله في حقبة الدكتاتورية البغيضة، والأمر الذي أراه مهما هو الأخذ بوظيفة الرواية الجديدة وجعلها أكثر فاعلية في لملمة كل ما هو مهمل ومنسي ومغيّب وسرده داخل نص روائي مشاكس وتوثيقي، بأمانة روائية وليست تاريخية حسب، لأن الفضائحية هنا، إن سلمنا بوجودها ستعني إظهار وقراءة القمع بسرد مؤثر يقف في مقدمة المراجع التي ستتبناها الدراسات السوسيولوجية و الإثنولوجية والانثروبولوجية، إذا ما اتفقنا على أن  "عالم الاجتماع، على سبيل المثال هو "الذي تأتي الفضيحة عن طريقه" على حد تعبير بول باسكون.
 إنني هنا أرمي إلى تفعيل القيمة التاريخية داخل مجرى التحولات الحياتية، ومحاولة بعث الروح في تفاصيلها الراكدة بعد خلعها عن كل ما هو سائد ومحافظ وخاضع لرواسب اجهاضية مقيتة.

س:  شكلت ملفات عسكرية بعض مصادر روايتك، هل لنا أن نتعرف على مصادرها الأخرى؟

ج: الملف كتعريف أكاديمي: هو الوعاء الذي يمكن أن يحتوى على بيانات صوتية، مرئية  الخ، وتحتاج إلى مشغل خاص "برنامج" لتتمكن من عرضها أو التعديل عليها، وله حجم يتوقف على نوعه وكمية البيانات وهذا الحجم يتغير بناء على تغير المحتوى، ووفقا لذلك، فالملف بمعناه العسكري "الرسمي" غائب تماما عن مصادر روايتي، رغم أن الرواية هي رواية حرب في إحدى مسمياتها، ولكنك ستجد حتما سيرة حرب، سيرة جنود، وقائع، أحداث، وجميعها مغيبة بسبب عدم صلاحيتها لخدمة أغراض ومصالح النظام الدنيئة آنذاك، ولذا فان ما جلبته من مصادر لم يكن بحاجة إلى ملفات عسكرية سرية "رسمية"، فهذا لا يعنيني، بمعنى لم أك بحاجة إليه، كوني مؤلف وبطل الرواية، وما رأيته وسمعته أنتج رواية، أي أنتج أدبا، والمهم في ذلك هو أن الرواية فجرت أسئلة مهمة تقترب من مهمة السوسيولوجي وهي تفجير السؤال النقدي كما يقول بيير بورديو، بل أنها لم تكن رواية سيرة على الإطلاق، كما يحاول البعض النيل منها لغاية ما لأنها لم تشتغل على السرد الحكواتي في كتب السيرة، بل كل ما هو مخفي باستمرار، وتلك موضوعة سيسيولوجية بحسب آلان توران طالما أنها تجاوزت سرد ما كان ماثلا أمام عيني.
وطالما أردت أن تعرف من سؤالك عن المصادر الأخرى، أقول أن الرواية أفصحت عنها بوضوح، كالصحراء وخزين ذاكرة جندي حرب، وتأثير الضياع كحدث سلبي على شخوص الرواية وتفاعلاتهم مع كل ما كان يدور بينهم وحولهم،  ويبدو لي أننا لا نفهم قيمة ودور مصادر الرواية إلا بعد أن نتعرف على  غاية المصادر الروائية الكلاسيكية والحديثة عبر تاريخ الرواية، فثمة روائيون مثل بروخ وميوسيل قد "سببا الحزن للرواية" على حد قول الروائي كونديرا، بسبب إقحامها بملفات ضخمة من منطلق أن الرواية هي أرقى ما يُؤلفه الذهن. أي أنها أوسع فضاء يُمكن للإنسان أنْ يخضع العالم كله من خلالها للمساءلة، ومن البديهي إزاء وجهة نظر كتلك ستكون مصادر الرواية متنوعة ومتشعبة، تشمل الفلسفة والموسيقى والتراث والفكر ...الخ.
 في حين أن الروائي كونديرا ذاته، كروائي معاصر ومهم يميل إلى الإيجاز وغالبا ما ذكر أنه كان يحذف الكثير من المقاطع والفصول في رواياته، وكانت مصادره لا تعدو شذرات وواقع صغيرة مغيبة وأشخاص شبه مهملين، حتى باتت الرواية بنظره هي: "إفتراضية، لعوب وساخرة"، ولو عرجنا على تجربة الروائي يوسف زيدان نجد أن الأشخاص المطمورين في التاريخ هم مصادر رواياته وغاية خطابها المهم.
لقد غدت الكتابة الروائية لهوا ولعبة، بيد أنها "لعبة غاية في الجدية، نجني منها ألوانا من المعاناة، ونجني منها لذائذ كبيرة" كما يقول الكاتب الإيطالي الراحل أنطونيو تابوكى.

س: "ضياع في حفر الباطن" تميزت بلغة جريئة ومتمردة، هل ترى "ضياعك" ينتمي إلى أدب الاحتجاج؟

ج: في إحدى مسميات خطابها، نعم، ربما تشمل موضوعة الاحتجاج بمعناه الضدي لخطاب النظام الشمولي الدكتاتوري الذي تسبب بضياع الوطن والشعب والثروات والأمل، وأورث الهزيمة والتفكك والإرهاب والنهب، ولكنها كرواية أجدها تؤسس للتغيير في خطاب الرواية العراقية الجديدة كونها اتسمت بالقلق والتمرد والوعي الحاد بالواقع السياسي والتاريخي والهجاء الذاتي والتهكم الاجتماعي من جدل العلاقة التاريخية والاجتماعية والسياسية بين التابع والمتبوع، لقد جاءت مغايرة في طرحها، وهو ما لفت انتباه القارئ لها، سواء الحرفي المتمكن أو العادي.

س: كتب عدد من الأدباء المعروفين عن روايتيك، ضياع في حفر الباطن والذباب والزمرد، كيف تقرأ أهمية هذا التناول، وهل ترى أن الروايتين نالتا نصيبهما من التحليل؟

ج: سأقول لك شيئا أثارني ذات يوم، فعندما كتب الروائي اللبناني حسن داوود روايته الأولى "بناية ماتيلد"، وهو أحد الروائيين اللبنانيين المهمين، لم تلق استحسانا من قارئ دار النشر المعتمد، حيث قال لصاحب الدار: إنها لا تصلح للنشر. وقال صاحب الدار للروائي حسن وقتها: سأنشرها مجازفا، فأجابه الرجل: شكرا على المجازفة، ولكن حين نشرها فوجئ هو أنها لقيت أصداء لم يكن يتوقعها.
من المهم، كما أرى أن على الروائي أن لا يعول أو يمني النفس بما سيقال عن روايته، أو أنها ستنصف، أو يشار لها بالبنان، بل لابد أن يكون واثقا من روايته، وأن يحيط نفسه بالغبن والألم والغصة من أبناء جلدته قبل وبعد النشر!.
أذكر، في هذا المفصل ما قاله لي صديقاي نصيف فلك وأحمد السعداوي  قبل صدور روايتي الثانية، وبعدما نقلا لي أقاويل وهمزات ولمزات البعض عن أنني كتبت تجربة عشتها وكفى، في إشارة إلى روايتي الأولى ضياع في حفر الباطن، وأنني بنظرهم سوف لن أكتب غيرها، وبيّنا لي أن إصداري لرواية ثانية سيعني أنني بت روائيا، وسأكون مبعث كره وحقد وعداء وغيرة!، وحينها استغربت كثيرا ولم أتفق معهما في داخلي، ولكن اتضح لي أن ما قالاه صار للأسف حقيقة جلية!.
لكن مع هذا يسرني أن أرى أديبا كبيرا مثل محمد خضير وهو يقول عن تجربتي الروائية القصيرة ما معناه أن العبيدي:" يضعنا أمام مشاهد وتجارب لا نكران لحقيقتها المخيفة، ولا تخفيف لصدمتها المذهلة، تلك التي جرّبها في الملاجئ المهجورة في صحراء حفر الباطن، أو داخل زنزانات سجن أبي غريب، ونخرج من هذه المشاهد بإحساس الرعب والموت، حتى لنستقلل ما يشبهها هولاً وصدمة في روايات مماثلة، حيث ستقتصر الروايات بعد اليوم على استرجاع رؤى سابقة عليها، مثلما زحفت رواية العبيدي على رؤى المستقبل التالية عليها. واستولت رواية التغيير هذه على ميراث الرواية العراقية، بالمعيار الذي قضت رواية العبيدي بموجبه على أي شعور بالاستقرار النفسي والروحي قد نرجوه من روايات قادمة، كونها تستوثق الواقع والتاريخ في فضائها، فمن جهة، افتتحت رواية التغيير هذه صنفاً من أصناف (الرؤيا الآن/ الكاليبسو) تحتلّ الوقائع والتفاصيل فضاءه التجريبي، وتتكلم الشخصيات ذاتها عن ذاتها، وتعرض تجاربها من دون وسائط تخييلية أو روابط افتراضية".
وتقترب هذه القراءة/ "الوسام" من قراءتي الروائيين نصيف فلك واحمد السعداوي وجابر خليفة وشاكر الأنباري والقاص رمزي حسن  والمترجم وليد البزون والأستاذة التونسية الدكتورة إكرام المسمودي والكاتب المغربي ادريس انفرانس وغيرهم، وما يهمني هنا، هو أن خطاب الرواية الجديد شاكس ذائقة المتلقي "المحترف" والقارئ المثقف محليا وعربيا، لكن الروايتين، للأسف عانتا من سوء التوزيع ولم تصلا إلى الدول العربية أو إلى دول أجنبية، وهو ما أثر بوضوح على خريطتهما وألحق بهما الغبن.

س: هل ترى ان روايتك الثانية "الذباب والزمرد" تسرد جانبا آخر من ذات ضياعك؟

ج: نعم، هي كذلك، وهي تشتغل على الحقبة التسعينية في العراق، الحصار وتداعياته، وأبطالها يعانون من الضياع والتشرد والغربة أيضا، ويحاول بعضهم تأسيس حزب معارض للنظام آنذاك، وكلا الروايتان تدور أحداثهما في البصرة، وكلما تطرق أحد الأدباء للرواية الأولى يعرج إلى الثانية وبالعكس.

س: في روايتك الثانية، زحفت بتقنية السرد إلى منعطف جديد، غير أن الروايتين اعتمدتا التوثيق والتقرير نوعا ما

ج: أميل دائما إلى صنف روائي يطلق عليه التقرير الروائي "الرومانتاج"، ومن نماذجه "بائع الكتب في كابول" للأفغانية آسني سييرستاد، و"قراءة لوليتا في طهران" للإيرانية آذر نفيسي، و"رأيت رام الله" للفلسطيني مريد البرغوثي، و"بلاد الرجال" لليبي هشام مطر، وهو صنف روائي ليس له ما يشابهه في العراق، وهذا اللون مزجته بما يعرف بالتوثيق، وهناك روايات عديدة تتسم بالتوثيقية كروايات  سانتياغو غامبوه، وهو رائد من رواد الرواية التوثيقية في أمريكا الجنوبية، و"بجعات برية" للكاتبة الصينية يونج تشانج، و "هوان النّعيم" لجميل السلحوت، ونيغاتيف لحسن ياسين روزا، و"سيرك عمار" لسعيد علوش، وغيرها، وقد مزجت اللونين بسرد تشريحي اجتماعي سيكولوجي متشابك، كاشفا وفاضحا المؤثرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تلامسنا،  برابط جديد غير مألوف يتمثل بالهجاء الذاتي والتهكم الاجتماعي من كل العلاقات التاريخية.

س: هل لك أن تعرفنا على جديدك الروائي؟

ج: نعم، هو رواية "كم أكره القرن العشرين"- ثنائية الافرارية والزنابير، وهي رواية تدور أحداثها في ثمانينيات القرن الماضي، أثناء سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وجميع أبطالها من الهاربين من الجيش والانضباطية، وتدور أحداثها في البصرة أيضا، وهي رواية سيكون لها شأنا كما أعتقد.
عن (البينة)