المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
08/07/2012 06:00 AM GMT
لم يكن ليل، ولم يكن نهار. في تلك الأزمان السحيقة، كانت الأرض مستعمرة سموية، يديرها أرباب فضائيّون، لصالح سلطة الغيب. حينذاك لم يكن الإنسيّان الوحيدان في الكون، سيدنا آدم وزوجه حواء، هبطا من الجنة الأولى بعد. كانت الأرض كتلة من الطين الرطب. وكانت السموات تسحّ وابلاً رضاباً لا ينقطع. لبثت السماء على تلك الحال سنين وقرونا. حينما تعبت، ويبست غيومها، انكشف وجهها مضاءً بفيض الشموس السرمدية. بيد أن آخر قطرتين خرّتا من شفتيها، سقطتا معاً على طوروس. تلكما قطرتا بدء الخليقة. سقطتا متعانقتين، لكنهما انشطرتا حينما مسّتا وجه الأرض. جاهدتا أن تتشبثا الواحدة بالأخرى، ولم تقدرا، فانزلقتا صارختين من لوعة الفراق، وانحدرتا تندفعان متباعدتين نحو الوديان العميقة. ذهبت قطرة فرات جنوب شرق أرضروم، ويممت قطرة دجلة صوب البحر العربي الفارسي. وفي كل مدينة أو قرية أو منعرج كانتا تتوقفان، تسألان الذاهبين والقادمين عن شقيق روحيهما، دجلة تسأل عن فرات، وفرات يقتفي أثر دجلة. نزوة التلاقي أضجرت الآلهة. ولكن، ما كان في مقدور الأرباب البرمين حملهما على الفراق. ما كان في مقدور أحد مقاومة جبروت عنادهما. ظلتا تحفران بمعاول الأمل شطآنا جديدة، حتى وجدتا نفسيهما تتواجهان مجددا. اندفعتا متعانقتين، ثم هرولتا عاريتين نحو البحر القريب. حينئذ استسلم آلهة القدر القساة، وقرروا إعلان زفافهما الأبدي. عُقد القران في مكان قرب البصرة، يسمّيه الناس الآن "القرنة". أمّا صداقهما فكان بيتاً من قصب، خلفه نخلتان متّحدتا المنبت، تميل إحداهما الى اليسار والأخرى الى اليمين. الغراب الطيّب والغزال الصغير شهدا عقد زواجهما. قبل أن يقترنا بنحو من ثلاثين فرسخاً، كانت دجلة لمّا تزل حزينة، وتائهة، تسأل العابرين عن توأم روحها فرات. في مملكة ميسان توقفت دجلة تعبة، في الموقع الذي غرق فيه مركب البحرية الغازية، وشطر نهر الكحلاء. أرسلت دجلة دليلها الكحلاء يبحث في صوب من ميسان، وأرسلت المشرح يبحث في صوب آخر. ذهب الدليلان وما آبا. في تلك البقعة ولدت ثلاثة شرايين مائيّة متكاتفة. تفرّع أوّلها من جسد المجرى الأم، ثم انشطر الفرع بعد مئات الخطوات شطرين، صانعا كفّاً نهريّة بأصابع عملاقة ثلاث، ولدت بين ضفافها لاحقاً مدينة العمارة، موطن الأثرياء الحفاة، ومحفل أسرار القصب والبردي. في تلك البقعة المنقوعة بالماء والحنّاء والطيبة والحرمان، لم تكن في قاموس الناس اليوميّ كلمة اسمها "نهر". كلمة "نهر" كنا نقرأها في الأناشيد المدرسيّة، وفي دروس الإنشاء والجغرافيا، ونرسمها عادة الى جوار كوخ من القصب تنتصب خلفه نخلتان متّحدتا الخصر. لم ينس أحد منا حكاية الغراب الطيب والغزال الصغير المريض، حينما جلب الغرابُ الماءَ الشافي من النهر، وانقذ حياة الغزال المريض. من دون شك، شككنا كثيراً في مقدرة الغراب على حمل الدلو الثقيلة المملوءة ببلسم الحياة الشافي. لكننا لم نشكّ لحظة واحدة في أن ذلك الماء هو فيض من روحنا، وأن العطاء الفطري هو شريعتنا الوحيدة، التي علمتنا إياها مصاهرة الماء والأسماك والأطيار والورود الطافية على وجه الهور. لم يكن هناك "نهر". كان لدينا "شطّ"، بل كانت حياتنا عبارة عن بحار من الشطوط تمتد طولاً وعرضاً، وحينما لا تقوى المجاري على حملها تسيح في كل أفق، صانعة جنّة فطريّة من الغمرات المائيّة العملاقة والبطائح (قبل صدام بثلاثة عشر قرناً أرسل الحجاج عمّال الريّ لتجفيف تلك البطائح الثائرة). كنّا نعيش في الشطّ، لكننا نقرأ عن النهر. كنّا نحيا في الشطّ، نمضي يومنا كله فيه، من الفجر حتى الغروب؛ نمضيه عابثين لاهين، نسبح، نصيد، نغوص بحثاً عن الأعماق العذراء، ونشرب "ماء العروس" العذب من منتصفه. وحينما يجنّ المساء لا نفارقه، نلبث متنزهين على شواطئه في عطلاتنا، نقرأ دروسنا على ضوء مصابيحه الشاحبة بعد الغروب، نرسل الحناء والآس والشموع في مجراه، نضع أواني الفخار المعشبة على جرفه، ثم نُغرق أنفسنا في أخيلة مارقة. أمّا النهر فكنّا نذهب اليه عند انبلاج فجر دراسيّ جديد، حينما يرسلنا أهلنا الى المدرسة. لذلك كان لنا نهر وشطّ. نهر للثقافة والخرائط، وشطّ للسكن والعيش والأحلام. نهر للتذكر وشطّ للنسيان. نهر نسمّي بلادنا باسمه، وشطّ نحيا فيه بلا اسم ولا عنوان. هكذا ولدنا منقسمين، ولكن متكاملين، من دون تعقيد أو تغريب. لكأنّ شطوط البراري الطليقة هي الوجه السحريّ للنهر المهذب، الجالس على مقاعد الدراسة. ربما لهذا السبب اختلط النهر بالوطن. فالنهر والوطن قدرنا المرسوم على كف الزمان. الوطن والنهر يتشابهان، بل يتطابقان في الغناء والبكاء، من المهد الى المشنقة. فكما كنّا نهِبُ أنفسنا للنهر، ذائبين في ليونة جسده الشفاف، مثل الأسماك العابثة، كنّا ننظر بفزع الى أمهات أصدقائنا، الذين يذهبون الى أعماق النهر ولا يعودون. كان النهر مثيراً بوجهيه: وجهه الجميل الحنون حينما يكون صديقاً، ووجهه العدواني حينما يزمجر شتاء، أو حينما ينظر بلا مبالاة الى أم ملتاعة تولول عند الشواطئ، بحثا عن وليدها الذي اختطفه جنيّ الماء، وخبّأه في قاع النهر. ما انفك الوطن يعاملنا بالمثل، يصنع لنا خشب المهد الناعم، ثم لا يلبث أن يصنع منه عيدان المشانق. مملكتنا المائيّة يحرس مجراها نبيّ وشاعر فرد وثلاثة أئمّة. من الجنوب يحرسها النبيّ العزير (قيل إنّه نبيّ أو وليّ، وقيل إنّه ربّما كان عزرا الكاتب صاحب أحد الأسفار، وقيل إنّه أخو إبرهيم، جدّ الأنبياء)، ويتولى عبيد الله بن علي بن أبي طالب حراسة جزء من مسالك الجنوب. من الشمال يحرسها شاعر الخصال العشر، الكميت بن زيد الأسديّ ( 60 - 126هـ)، الذي سرعان ما يترك الحراسة لمن هم أقدر منه على صناعة الأساطير وتقديم المعجزات. بعد مرقده يتولى الحراسة، على التتابع، إمامان: علي الشرقيّ وعلي الغربيّ. علي الغربيّ إمام يتثاءب الحاضر حول مرقده الموحش، شاكيا قلّة الزائرين. اختلف المؤرخون في نسبه، لكنّ مناصري مذهبه نسبوه الى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو عندهم ثالث سلالة الأئمّة الثوريين العظام. إنه الشاعر الفقيه، علي بن محمد، قائد ثورة الزنج. قامت ثورته عام 255 ضد المتوكل وسيطرة الجند الأتراك، وغدت أطول ثورة في التاريخ العباسيّ، متخذة من البطائح مركزاً لها. ربّما يعود خفوت ذكره وقلّة واجباته الأسطوريّة الى كونه أجرأ الثوار الساعين الى ردم الهوة التي احدثتها معركة صفّين. اجترح تلاقحاً تاريخيّاً فريداً بين الرايتين الخضراء والحمراء: العلويّة والخارجيّة. نجح في كسب ثقة المظلومين والفقراء والمهمّشين، الذين جعلوه مهديّهم المنتظر، لكنه أثار مخاوف الداعين الى الحكم الوراثي. كان أباً شرعياً لولاية الفقيه الشعبية، بثوبها الطبقيّ. أمّا عليّ الشرقيّ، فهو الحارس الحقيقيّ للمملكة والمشرف على خفاياها الروحيّة (ينتسب جده السابع الى الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب). عند مرقده، المنتصب على نهر دجلة، يتخذ الناس لهم مواسم للزيارة لا تنقطع. هي ضرب من المتعة والاجتماع والتبادل والاستشفاء، وهي في الوقت عينه ولاء أبديّ لحارس النعم والعطايا السريّة. ومن جانبه، لا ينسى الإمام هذا الإخلاص الفريد، فيردّ الدَين بكف سخيّة، حينما يستجيب للنذور بالمعجزات. سطوة عليّ الشرقيّ يعرفها الجميع، يتوارثون رسائلها كتوارث دمائهم. فكم نكب بشر منكودون، أو ربّما جانحون، بسبب تجاهلهم حرماته المقدّسة، فكان مصيرهم مرعبا! حينما تمرّ السيّارات بمرقد الإمام، لا بدّ لها أن تطلق بخشوع نفير أبواقها تحيّة وولاء، للحصول على تصريح الأمان. كم من الأغبياء والمتحامقين سقطوا صرعى، لأنهم تجاهلوا تلك الرموز السريّة، التي لا تنسى! معجزات عليّ الشرقيّ لا تقف عند حماية المسالك البريّة، فهو الذي يتولى حراسة غوامض النهر أيضاً، وهو الذي يرعى كائناته الحيّة والميتة. حينما لا تعثر الأمهات على أبنائهن الغرقى، يتولى الإمام نيابة عنهن مهمّة حماية الجسد الغريق من عبث اللصوص النهّازين. حالما تقترب الجثة الغائصة في الماء من القبّة الخضراء، يرتعش هلعاً جنيّ الماء "عبد الشط"، الممسك بخناق الغريق، فتطفو الجثة على سطح الماء، مستقبلة ضوء السماء الباكي ونحيب الأمّ المكلومة. لذلك كنا نردد أنشودة الغريق، كلما اقتربنا من قبته السحريّة: "علي الشرقي يا أبو شارة طفّح الولد من شط العمارة!". كان، ولم يزل، الغرباء يسخرون من أغانينا المائيّة الملتاعة، يرونها رعويّة رعناء خالصة. لكنّ مزاعمهم بليدة كبلادة دروس الجغرافيا. يقولون: ربّما ينطبق هذا على الجثث القادمة من الشمال، لكنّ الجثث الغريقة في شطّ العمارة لا تصل قبّة الإمام البتّة، لأنها لا تسير عكس التيار. أمّا نحن فنردّ عليهم ساخرين: ومن لا يعرف ذلك، ومن لا يعرف أنّ مرقد الإمام يقع شمال ميسان! حتى الجهلة يعرفون ذلك. إنّ السرّ يكمن هنا، في هذه النقطة تحديدا. هنا تكمن المعجزة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا هي معجزة إذاً؟ آن للآخرين أن يفهموا أسرارنا المائيّة كما هي، كما نعيشها ونموتها، لا كما تقول كتب الجغرافيا والتاريخ والعلوم. عليهم تعلّم أسرار معجزاتنا، تعلّم ما ظهر منها وما بطن، حتّى يتمكنوا من معرفة صلتنا الأبدية بالحرمان والإيثار والبكاء والطيبة المتوارثة القاتلة. بحر النفط ما انفككنا نركض فوق ترابه حفاة منذ فجر الخليقة. بحر النفط هذا أسعد اللصوص والتجار والسياسيين والبائعين والمشترين في بقاع العالم كله. لكنه سرّ تعاستنا الأبديّة. بحر النفط، الذي مخرت فيه أساطيل الجيوش الأجنبيّة، هو نفسه، الذي نحمله على ظهورنا المسلوخة العارية وفوانيس بيوتنا مطفأة. "المركب الغرقان" لم يعد غارقاً في الماء. منذ زمن بعيد التهمته أمّنا الأرض، فأصبح هو والنهر الذي صنعه جزءا من مملكة اليباس: الأرض اليابسة، والذاكرة اليابسة، والضمائر اليابسة. خضر بن مغامس، الصابئيّ الذي ورث صناعة القوارب وطليها بالقار منذ فجر السلالات، لم يعد ينتظر زبائنه الميسانيين على ضفة نهر البتيرة. هو الآن في أوترخت، يجلس في "البلكون"، ينظر الى البطّ السابح في القنوات المائيّة، ينتظر بخدر مجيء ساعي البريد حاملاً سند الصرف الشهريّ، المرسل من صندوق الإعانة الإجتماعيّة في مملكة هولندا. أما الغراب الطيّب، الذي جلب الماء للغزال المريض، فلم يجد ماء صالحاً للشرب. وقيل فيما قيل إنه لم يجد النهر أصلا، لا في الحقيقة ولا في الكتب المدرسيّة. لكننا، أبناء مملكة الماء، واثقون تماما أنّ النهر الذي سقى الغزال كان نهرا عراقيّا خالصا، والنهر الذي صنع ابن مغامس زوارقه السومريّة على ضفافه، والنهر الذي وحّد ولادتنا، ووحّد تناقضات موتنا الكثيرة، لم يكن دجلة ولم يكن فراتا. كان شطّاً نبويّاً، شاعراً، إماماً، شطّاً لا يعرف الأرقام والحسابات، لا يعرف المذاهب والفرق والأحزاب والكتل الشريرة. كان شطاً للحياة ونهراً للمدنيّة. كان شطّاً للحياة في الحلم، ونهراً للحلم بالحياة.
|