المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/05/2012 06:00 AM GMT
الفصل الأول في العـــراء يُفترضُ بي أن أعيد تشكيل معرفتي، وأنا أتابع سنيناً مضت، وأسردُ حياةً لم تعد قائمة. كل الذي يمت اليها بصلة كان قد توقف عن أن يكون: الناس والمكان. في هذا المنحى، يبدو لي، أنّ عليّ إنتاج ذات من طراز آخر. ذات متسامية تُعاينُ ذاتها القديمة بعدالة، وترمم ذاكرة بُترتْ أطرافها ونَجتْ بما تبقى. ذات لا تاريخية. ليس لي مكان مفضل أعاين منه عمرا محددا. كلاهما: المكان والعمر أمسيا حالة واحدة، نسخة سلبية لما كنت عليه، كينونة ماضية. في وقت الأحداث وهي تجري، كنت أفكر كيف لو أنها حدثت بشكل مغاير وبصيغة أخرى، وأتخيل الشكل المغاير والصيغة الاخرى، وأبدي ردوداً وأخلق أفكاراً. كنت اراه بعين داخلية... فيما الحدث يجري في الواقع، ويكون قد تم بصيغته المقدرة. عليّ أن اوقظ شكي الغافي وأسأل: أيهما حدث فعلا؟ ما وقع وكنت منشغلا عنه ولم أنتبه كفاية لمجراه، أم هذا الذي استغرقني التفكير فيه وأخرجته كما اعتقد؟ ما حدث في الخارج، أم الذي ترتب في الباطن؟ وماذا في الباطن؟ تراودني فكرة من أني كنت أكثر من واحد عاشوا الزمن ذاته، أو واحد عاش زمنين. أهرع الى المرآة فلا أرى أحداً. من عاش إذن تلك السنين؟ أدوخ وأنا أراقب ذاكرتي تتكور ثقيلة كالزئبق وتتشظى حالما أجسها. أغلب الأحيان أجَمّدُ أنفاسي كي لا يترجرج سطحها فتهرب الصورة. أوضح الأحداث يتموضع في مكان لا يفضي الى طريق يمكن الإشارة اليه. هنا إشارة مرور ملقاة على الأرض، ليس في نيتي تحقيق سلطتي عليها وأرفعها لتشير الى جهة ما. هذا يعنى أن أبقى حيالها في العراء. حسنا! لي في العراء الجهات الكروية بلا عدد. لا أتوقع من ذاكرتي ما هو خارق: إكتشافات ما وراء العمر تغيّر موقفي. أنا أعرفها، كما أعرف أن الفشل نصيبي. لكنه فشلي أنا، رمادي، ولن أمسحه عن جبيني. إنه مادتي الخام التي أقف بصددها. مشروعي الذي استهلكته في إستيعاب الآخرين وفهم العالم. حطبي الذي دفأني ودفأهم، ربما أحرَقهم بلا ذنب. الآن! حان وقتهم لإستعادة وجودهم في حياتي، أقصد ما تبقى من حياتي. عليهم أن ينهضوا في دمي كما أتوقعهم: أرواح مهيبة تتكلم. من أجلهم، ومن أجل نفسي؛ سأتحلى بصبر باحثي الآثار وجَلَدِهم، وهم يمسحون التراب عن قطعة عظم بائد بفرشاة صغيرة. كل ما دونته من يوميات: أفكار ورسائل، راحت في تصفياتي للمراسم التي هجرتها. أضعافها كانت التخطيطات ومشاريع الرسم... والكتب. ثلاثة وعشرون مرسما في حياتي، كانت مأهولة بكل ما أحب، تركتها ورائي. كنت أنقذ منها ما كنت أعتقده عزيزاً وما يمكنني حمله، وأهب للنار وللآخرين ما عداه. التفاصيل الصغيرة التي صنعتني، التي لولاها لما كنت، تلك التي غرقت في تأملها وغبت عما سواها. الوقائع العابرة التي شكلت الزمن الحقيقي لحياتي، والأشياء: الأشياء الوفية لصمتها التي نضجت بينها. أين يمكن، اليوم، العثور على كل ذلك؟ لقد أحرقتُ أيامي ولم يعد ما ينيرني غير قلقي. بعض البدائيين يحرقون ما يجنونه طيلة العام في احتفال سنوي بمثابة عيد، ويتبارون في الحرائق، والأكثر كرماً فيهم: من يحرق الأكثر! "إقتصاد عبثي" كما يسميه "ماركس". على جريرتهم، من جانبي، كنت أحرق إقتصادي كل مرة، وأعيد أنتاج نفسي مما تبقى من رماد. على نحو شخصي، مَثّلَ هذا "العبث" ضرب من يأس لا ينضب، وإدمان على إنتظار وعد آت من بعيد، لم يصل حتى اليوم. وقد يكون وصل ولم انتبه! أنا ذاهب الى أيامي المقبلة وأنا أفقر مما كنت. سأستهلك نفسي وأحرم الدود من وليمة يحلم بها، أغادر بلا لحم يُنهش، بلا صراخ يُوقد في الظلمات، بلا ذاكرة: بلا ألم. آخر مشغل هجرته كان في تونس. كل ما كان فيه لا تستوعبه الحرائق: صناديق من ريش الطيور، كنت جمعتها لمشروع "الأغاني" الذي لم أنجز منه إلا أربعة أعمال. ملايين من الأجنحة الصغيرة تركتها في العراء تنفخ فيها الريح، تأخذها الى السماء، وتأخذني قبلها. أحلام اليقظة أكثر واقعية من الحاضر: هذا ما حاولت بيانه في "الأغاني" التي ما فتأت همهماتها في صدري. أنا أحلم أني أفكر بأني أحلم. هل أتخيل ما كنتُ عليه، وأستعيرُ شخصية أخرى أتكلم عنها كما لو كنت أنا؟ أأكتب ما كنت أتمناه أن يكون كما لو أنه كان فعلا، كما يقول "سرفانتس"؟ هناك من يبحث عن ذاته، وقد يصادفه ما يخدعه في طريقه. قد تكون الطريق، ذاتها، هي الوهم. وهناك من يبحث عن هوية ذاته، والشك يكمن في بنية الهويات مهما بلغت نقاوتها، أما أنا فمقيم فيها... أُنقّبُ، فمن يخذلني غير معولي؟ سقطتُ الى الوجود، تتقدمني هيبة طقوس صابئية لأبن من عرق كهنوتي نقي لا مراء فيه، قادم على رأس أربع بنات، لامٍ فقدت ولدها البكر، مهددة بزوجة ثانية؛ إن لم تنجب ولداً آخر بديلا. فكنت البديل المبالَغ في حقيقته، المطلق. تحت النخيل، بين حيطان طين سميكة تنتأ منها عيدان التبن أينما تعرضت للمطر، يتشقق سطحها ويتساقط مثل لحاء، في باحة شاسعة تُكنَسُ كل يوم وتُرَشُ لتبرد ويُرص ترابها، تفوح منها رائحة ظلال عتيقة، زحفتُ وأخذتُ أقضم أيامي الطيّعة بدلال بالغ الترف. لم يكن هناك أجمل من سماعهم ينادوني باسمي: أنه أكثر الكلمات إطراءاً في أذني. وكان ذلك كافيا ليطربني ويأسرني في الأحضان؛ فلم أكن أنزل الى الأرض. كنت محبوباً ومباركاً. ولدت في أقدس أيام الصابئة المندائيين (أيام الخلق)، ولطالما خامرني أحساس يشي أن لي ربٌ يحميني أينما كنت ومهما فعلت. لدى الصابئة المندائيين طقوس وأساطير تستمد سرّانيتها من دهور موغلة في القِدم، وسنن صارمة متعنتة لا تقبل الاجتهاد. لأني من عرق كهنوتي؛ كنت منذوراً لطقسين: أولهما، مدعاة للفرح يرتبط بالعرس الذي من فرائضه إنشاء بيت للعريس: هو بيت إفتراضي، عبارة عن قفص كبير من القصب يدخله العريس والكاهن ووسيط مكرس بينهما. هناك تتلى نصوص دينية معنية بالزواج، ويتناول العريس لقمة فيها سبعة عناصر : جوز ولوز وزبيب وتمر و... و... وسمك. على عتبة "البيت" عند أقدام العريس قبل دخوله، تٌكسرُ جرة (مشربة) من الفخار، بمثابة قربان. تحتم الديانة أن يكسرها طفل طاهر ؛ فكنت أنا مَنّ يُبحَثُ عنه. أقف مثل جندي عتيد بانتظار الأوامر، أحمل الجرة عاليا وأهوي بها أرضاً فيما الأطفال يتدافعون لالتقاط الحلوى التي تنثر على الرؤوس. حتى أنجز مهمتي المقدسة لا يبقى لي شيئا على الأرض غير هشيم الفخار المتناثر. كانت حصتي محفوظة دائما لدى أخواتي: منال سهل يحرمني من سباق مع الآخرين والتدافع للعثور على قطعة بين الأرجل. كان الأطفال أكثر إجتهاداً، يحصلون على حاجاتهم بعرق الجبين، بينما كانت متيسرة لي حين الطلب. لم أكن أملك مواهبهم. موهبتي الوحيدة: أني مدلل. تعطلت همّتي واستسلمتُ لكسل وثير. كنت منذوراَ لطقس الذبائح الذي يجري عادة على شاطئ النهر. ساعات طويلة يتم فيها ذبح الطيور للعوائل المؤمنة. كانوا ينقدونني شيئا لأقف صامداً وأشهد أن الذبح يجري حسب السنن المندائية: فيها يجلس الكاهن القرفصاء على ضفة النهر يلبس ملابسه الدينية البيضاء. تغدو، بعد أن يغتسل في النهر العكر بلون الطين. أقف خلفه واضعاً يدي اليمنى على كتفه الأيمن، وحالما ينحر الطير؛ رافعا إياه في الهواء، أنطق: "أنا سهدخ"، وتعني: أنا شاهد. لم أكن معنيا بكسوة الكاهن وتراتيله المكرورة المبهمة، ولا بسكينه البدائية المطروقة، ولا بغصن الآس في يده ، بل كنت منشغلا أتابع تساقط قطرات الدم على الجرف تنحدر صوب النهر، تسعى اليه ولن تصل. كان الدم يتخثر في طريقه، وكانت الطيور المذبوحة، معقودة الأجنحة، ترفس في الأواني النحاسية المُبَيَضَة. دون أن أفقه كلمة واحدة مما يُرتل، شهدتُ على ذبح آلاف الطيور على ضفاف الأنهار. يا ويلي! من كان يشهد على براءتي؟ مرأى الدم المراق يوقظني على الهاوية، ويخضّني من الداخل؛ فتنتابني قشعريرة وحشرجة في الحلق. أصابت عيني اليسرى نقطة بيضاء، كنت في الخامسة. أخذني أبي الى البصرة لطبيب مختص، قشط النقطة، وأوصى أن يُقّطر في عيني دماً حياً. تجند شباب القرية في مهمة صيد؛ فهوت الحمامات والعصافير صرعى من الأشجار. كانوا يذبحونها فوق عيني وهي ترفس. دم حار، لزج، كثيف، يُراق على وجهي، ينزل في أذني، يتخثر على رقبتي، أختنق بزنوخته ويأخذني الغثيان. لم أحسد ولم أكذب ولم أسرق، لكني كنت أبكي مراراً، ولوحدي أحيانا. لدي دموع فائضة. كنت محاطا بحذر وخوف عائلي وبحماية صارمة لدن أختي زاهدة : راعيتي التي نذرت طفولتها لتضع عينها عليّ. الناس من حولي يأنسون بي كدمية نادرة، حلوة. كل ذلك لم يدرأ عني نكبتي الأولى: مصرع كلبي. كان أبي اشتراه بدرهم وجاء به من البصرة، فسُميَ: دريهم. فطنتُ عليه ينام بجواري، أنا وإياه صغيران بحجم واحد، في عينيه الكستنائية فرح واعتراف بالجميل: كوني صاحبه وكونه لي. كان ينظر في عينيّ طويلا ويكاد ينطق، وكنت أفعل بالمثل. منه تعلمت التحديق بالأشياء وابتلاع الكلام. قُتلَ غيلة في صباح يوم طفولي، كان يفترض به أن يتمسح بي على عادته. افتقدته وخرجت من البيت أناديه: دريهم... دريهم! لم يصبر أهلي وأجابوني: قتلوه! لم أفهم لماذا يقتل كلب منزلي صغير، فيما القرية تعج بالكلاب المتوحشة. لم أره وهو ميت؛ لقد أخفوه عني. حزني عليه وحنيني لصحبته عرّفاني على الموت الذي يخفي الأحياء الى الأبد. بعد واحد وستين عاماً من ذك اليوم، مات "القاتل". إنه من عمومتي. ذهبتُ الى مراسيم دفنه. وهو في قبره قبل أن يهيلوا التراب عليه، سألته: لِمَ قتلت الكلب؟ لم أسمع إجابته؛ فغادرتُ المقبرة بلا صلاة. توالت الميتات، حتى غدت غلالة تغلف الهدايا الحية التي كنت أحظى بها. كان لجدي "خضر الخميسي" أصحاب يعيشون في هور "الجبايش"، واصلوا الوفاء للصداقة بعد وفاته، ولم ينقطعوا عن زيارتنا بين عام وآخر. كانت "شميعة": الزوجة، تعتمر عصّابة سوداء كبيرة تستقر على رأس مرفوع، لها قامة نحيلة مستقيمة، ووجهٌ تتقاسمه خطوط الوشم الخضراء. جاءتنا بصحبة زوجها "شخيّر" مرة واحدة، وبعد وفاته، كانت تأتي بصحبة إبنها "عذيّب". يوم وصولهما يكون للبيت رائحة وأصوات لم تزل ندية قادمة من رياض الجنة: طيور حذاف وغرنوق ناصع البياض وبرهان رمادي يميس برأسه، وأرانب، وقصب السكر والعنقر وطحين الخرّيط الأصفر (لقاح ناعم جدا ينطوي عليه عرنوص البردي الذي يملأ أهوار العراق، يجمعون منه كميات كبيرة، يُطبخ على البخار، مذاقه حلو. كانت عمتي "زكية" تجيد تحضيره مخلوطا بالسكر وحب الهيل والسمسم). نهارالضيوف يقلب مذاق الطعام والأحاديث، و يبدد أنانيتي، ويحمّلني مسؤولية الأحياء الجدد: الغرنوق والبرهان. كنت أحبسهما في قفص من الجريد، وأغدق عليها بالشعير والماء والحنان. ماذا يلزم الكائن أكثر من هذا ليحيا؟ لم تقف على أقدامها إلا أياما ثم تلوي أعناقها، تترنح وتنهار. بيتنا في "اللطلاطة" لا يشبه بيت آخر سكنته في حياتي، ولا أي بيت دخلته، كما أنه لم يأتي في احلامي حتى هذه الساعة. كان مكان مخصص للطفولة، بُنيَ على مقاساتها وأهوائها البدائية. لولاه لما كنت طفلا! هو عبارة عن أرض شاسعة مقطوعة نصفين: النصف الأمامي للسكن، والخلفي مُراحُ الأبقار. باب البيت واسع من خشب بلا دهان، لونه بلون التراب، يتوسطه من الداخل مزلاج خشب يستقر في عين من حجر في الحائط. يفضي الباب الى طارمة يستقر سقفها من جهة البيت على عمودين خشبيين. كانت مساحتها تشمل نصف واجهة البيت، ونصفها الآخر على اليسار تحتله ديوانية كبيرة: غرفة معزولة تتميز دون غيرها بأن واجهتها من الخارج مبنية من الطابوق. في الأعياد تُفرشُ ببسط ملونة ووسائد، ولها شباكان واطئان. في ركنها القريب من الباب محمصة القهوة الحديدية: ذراع طويلة تنتهي بطاسة مفلطحة. في المفصل ما بين الذراع والطاسة، من الأسفل، ذراعان صغيران تستقر عليهما لتبقى عالية عن النار. كأنها فرس النبي من حديد. كانت هذه من شؤون أبي عندما يأتي ويستقبل ضيوفه، كل عام أو عامين. ترافق المحمصة ملعقة طويلة الذراع: شيش حديد بطول ذراعين له رأس مدورة مطروقة لتقليب القهوة وهي تتحمص على النار. كانت الملعقة هذه سيفي وقت الملمات وأنا أطارد أخواتي. صراخهن وطلب النجدة كانا يمنحان السيف شرف المعارك. انتصاراتي الدونكيشوتية، كانت تحفزني على اختراع وسائل حرب أخرى: كل ما هو مقزز ومخيف (ضفادع كنت أحملها من الضفاف في سلة خوص صغيرة سفّتها لي زوجة عمي"رفيعة" لأجني بها الرطب، وأفاع ميتة يابسة). كنت أدير دولاب العواطف العائلية متى هبت رياحي، ومتى فرغت طاحونتي من الدلال. بجانب المحمصة جرن من حجر الكرانيت الأحمر لدق القهوة، ضاع مهراسه، فعوّضه أبي بحجر صوان رمادي اللون: إسطوانة ملساء بطول ذراع، نُحتَ لها رأس ليمكن الامساك بها، فغدت مثل قضيب هائل يقيم في حفرة الجرن طيلة الأيام. البيت يضم أربع غرف مبعثرة على أطراف ساحة شاسعة، على جانبها نخلات ثلاث، كانت السماء غطاءها الأزرق. يربط الغرف كلها سقف واحد يغطي مساحات فارغة تفصل بينها بمثابة طارمات. الطارمة المحاذية للديوانية كانت مطبخا صيفيا مفتوحا من الجانبين، وطارمة في آخر الساحة تفصل بين غرفتين تؤدي، عبر باب سائب، الى المُراح: مملكة الأبقار الحلوبة والدجاج السائب والهوام. في صدره يتربع تنور كبير محاط بأكوام الحطب: سعف يابس وعاقول وفضلات الأبقار اليابسة معجونة مع التبن وممطولة على شكل أقراص واسعة. في جانبه الشرقي سقيفة الأبقار. كنا نلوذ تحتها لقضاء الحاجة على الأرض. كل ما في البيت كان ملكا للطبيعة. كنا عنصرا واحدا من ممتلكاتها، ولم نكن وحدنا نعيش فيه. معنا كانت الديدان، والخنافس، والنمل، والنمل الفارسي، وأبو بريص، والعناكب، والعقارب، والحمام، والسنونو يعشعش اعلى الحائط تحت السقف في اعشاش طينية مخروطة الشكل يبنيها من كرات صغيرة بحجم الحمصة، يلصقها، ويتأكد من ثباتها. وكان معنا بلابل، وفئران... وأفاع في السقوف بين القصب. كنا نلهو معها في النهار وننام تحت رحمتها في الليل بلا أحلاف موَثقة. مرة سقط ثعبان يلف أنثاه في حضن أختي ليلى وهي تخيط. العجائز سألنها إن عثرت على فص شفاف سقط منهما: انه يحمي من شر الأفاعي! ولكن من يحمي الأفاعي من شرورنا؟ كنا نختار أطول القصب وأمتنها، نشق رأسها مثل ملقط وننتظر حية كانت تعشعش في السقف، تنسل من ثقب وتتسلل الى آخر، فيتدلى جسدها عاريا فوق رؤوسنا. نضع القصبة في وسطها ونلفها، مرة ومرتين، فتشتبك الحية والقصبة في اختبار للحياة. يعلو صراخنا فتطردنا أمي بقناعة أنها حية بيت مسالمة وأمينة علينا. سمعت جدتي "حيهن" تقول: القنفذ ألد أعداء الحية، فعثرتُ في قولها على حجة جديدة تضاعف افتتاني. كنت أصطادها من البساتين. أطاردها فتتكور على نفسها وتبقى دون حراك في مكانها، كرة من الشوك، تنطوي على وداعة واستسلام لا شأن لها في هذا العالم غير العيش بسلام، قارة مغلقة، محرّمة على القتل. كنت أجمعها في شليلي، وأضمها الى صدري، وأتسلل سراً الى فناء الدار، وأطلقها. لكنها سرعان ما كانت تختفي، وتبقى الأفاعي تتأرجح في السقف. أخذتُ أغفو: أتقلب ما بين أشواك القنافذ في صدري وانسياب الأفاعي فوق رأسي، يقظاً، أسمع دقات قلبي. الظلمة تسكن فناء الدار، فكنت أنده أمي لترافقني إذا ما خرجتُ لحاجة. في جوف الظلمة، كانت أفكاري تنصب لي فخاخا أتعثر بها. أزمنة غابرة يعفرها التراب تلتصق في الزوايا، يغطيها "مخاط الشيطان"، يعلق بأهدابي؛ فأفركها. أرى الظلال تقوم واقفة تترنح على الحيطان. الحيطان تتهامس بفحيح ما بينها وكنت أسمعها: "ها هو...ها هو...ها هو". كان هناك طويلٌ بشعر اشعث يتسلق النخلات، يخرمش جذعها بأضافره ويتأرجح بسعفاتها... ثمة ليل خرافي مسكون بالأرواح كان قد حقق هويته في طفولتي. البيت واحد من ثلاثة وعشرين بيتا في "اللطلاطة"، تتوزع على أربعة قواطع، تقع على شارعين متصالبين، يملؤها نوى التمر منذ الخليقة. الشارع الأطول/شارعنا، يبدأ من جرف النهر الحاد ويمتد بعيداً، يشطر المقبرة نصفين ويختفي في أفق مترب. بيوت الشيوخ الكهنة: آل زهرون وأهلهم (الارستقراطية الدينية) والمعبد الخاص بهم (المندي)، تطل على النهر. العوائل الأقل حظوة (النجارون والحدادون) في الخلف على تخوم المقبرة. عبرها، كنا نرى القادمين من بعيد. المسافة المكشوفة تبدد المفاجأت. بعضهم يفضّل أن يقطع طريق أطول عبر البساتين من الطرف الآخر للقرية طمعا بالظل ونسائم النهر الكريم. الحلاق "عبد اللطيف" كان يسلك الطريق الأقصر عبر المقبرة، قادما من السوق، يحمل حقيبته، وتختة ً يجلس عليها الزبائن في ظل يوفره النخيل طيلة الأيام. إنه اول من حلق لي وأول مقص أسمع طقطقته على رأسي. لم أكن أطيق دغدغة ماكنة الحلاقة على رقبتي فأدخل رأسي بين كتفيي. كان يدفع رأسي الى أمام بقوة ليكمل الحلاقة، ورأسي يقاوم بصمت. لم أفهم لِمَ يعيد الكرة مرات ومرات! لماذا لا ينهي حلاقة الرقبة في جرة واحدة؟ كل مرة، حيث يبدأ من اسفل الرقبة الى أعلاها، كنت اعتقد انها المرة الأخيرة. لكنه يكرر... ويكرر لعبته المفضلة. فرحي بنجاتي من تحت يديه، كان مدعاة لأقفز في طشت الماء بدون عناد. تركتُ نفسي في العراء، بمعية الأشياء، في زمنها السري، تنضج بلا إكراه ولا مصائب. بخدوش على قوالب الطين الحرّي الجاف، التي كنت أنزعها من صفاف السواقي بعد إنحسار الفيض، بسكين صغيرة غاب لونها، تُفتحُ وتُطوى، حفرت وجهاً. خلقت بديلا ملموسا وواضحا لأفكاري كنت أحاوره؛ فابتلع لساني. يدي الأكثر صدقا والأعمق ثقة بددتْ خرسي. في الطين أكتشفت أن لي كيان آخر غير الذي أحمله، خفي، ينطق بقدراته ما أن أمد يدي واحفر السطح المتاح. هل قيّضت لي تلك الواقعة العفوية أن أكون فنانا وحفاراً فيما بعد؟ ربما! ولكني لا أزكي تفكيرا تسويغيا كهذا ولا أثق به، ولا أحيل حياتي الى وقائع أولية تنتج حقائق فيما بعد. وإلا لكنت الآن بصد انسان آخر تماما لست أنا المعرّف بجملة صفات: الفنان، السياسي، الاستاذ، الأب، العرفاني ، الربوبي! لو استرسلتُ بخطواتي على الطرق المأهولة الجانبية التي كنت عليها يوما الى نهاياتها، لكنت كائن آخر غير هؤلاء. في الحقيقة كنت كل هؤلاء وكنت الضد في آن واحد. كنت في أعماقهم أنا الحقيقي الذي ينجو بنفسه من هيمنة الآخر. وكان قريني يزّن في أذني: إهرب! إهرب! فهذا ليس مربط الفرس. كان أبي الصائغ(عبد الشيخ خضر الخميسي) قد ترك في البيت أدوات صياغة: مناقيش وكلاّبات دقيقة الرؤوس ومباضع حادة ومبارد ومطارق. الآلة تحفز العقل وتثير فضول طفل خالي البال، معافى، يفعل ما يشاء. كنت أطرق أيامي اللينة على سندان ثقيل يتربع على الأرض، مكتفيا بوحدته الباردة، لا شأن له غير الاستجابة لمطرقتي الرعناء وأنا أمطل الرصاص الطيّع وأسلاك النحاس. كان أبي يأتي بأشياء غير مألوفة عقب سفراته الطويلة الى البحرين. تعلقت بصندوق التصوير الأسود الصغير، يخرج من مقدمته خرطوم من الجلد تتوسطه عدسة وله نوابض على الجانبين، أحدها يفتح غالقا يغطي العدسة: يفتحها ويغلقها. مرات ومرات كان الواقع يتضح ويختفي فيها. من خلال بؤرتها الزجاجية كان البيت يبدو أصغر وأكثر ترتيباً، مؤطراً، أقل إنارةً، أبعد بقليل من مكانه، ربما كان أقرب بقليل. من خلالها، وأنا في مكاني، هيمنتُ على مكان فسيح ومترام. بنقرة وجيزة على النابض، من دون عناء، كنت أمتلك ما حولي. كان الصندوق عيني الداخلية التي لم يشاركني فيها أحد ومدونة طفولتي وحافظة أسراري. وكانت لي كرة سلة حمراء، صلبة وثقيلة، لم أفهم، كيف قدر أبي اني سألعب بها. كان الكبار يتوسلونني ليلعبوا بها بمثابة كرة قدم. انها الكرة الوحيدة في "اللطلاطة". كنتُ أقف خارج الساحة وهي أرض خلاء بعيدة عن البيوت، أبعد من المقبرة، أراقبهم يلعبون، أقفز مع كل ركلة لها، أتابعها وهي تنط الى السماء. إنها كرتي التي قيّض لها أن تتخبط في الشوارع لثلاثة عشر عاما، حتى تخرجي من المدرسة الثانوية. فتركتها بالية، كالحة الوجه. كان لدي ما يشبع أهمية بملكية نادرة وفريدة يغذيه إعجاب الآخرين وقبلاتهم. كانت الخيالات تأتيني أشعة تعشي البصر، تعبر خلل خوصِ سعفٍ تهزه الريح، تتراقص على وجهي وأنا مستلق على تراب بارد تحت جذع النخلة، أشم عفنا حلواً، أستنشقه وأغفو. كانت مسارات الضوء تتكسر كلما أوغلت عيني في العمق. ضوء ينبعث من الأشياء، من تقاطعاتها، يسقط على سطوح أخرى، ينكسر ويرتد اليّ. إنه صورة عقلي وإنكساراته. أنا مَشاءٌ... أمشطُ أفكاري وأذرها في الطرقات التي لم أعد اليها مرة أخرى كما كنتُ. بمعنى أني أنسى كيف فكرت وبماذا بدأت وبماذا انتهيت. حسبي بعد عودتي أذكر أمراً واحداً أني كنت أفكرُ. كنت في موسكو في بداية الثمانينيات، كتبتُ عن خطواتي الاولى خارج البيت: ولد صغير وإغواءات بساتين مأهولة بالبلابل والدبابير وأعشاش تحتضن بيوض مرقطة، وخطوات خفيفة متوجسة في مقبرة عامرة بقبور الأجداد، وأسرار كنت أعثر عليها مصادفة، أو أتسلق الحيطان لأحظى بها. إستيقظتْ نزواتي فيما الأموات ترقد خلف الجدران. في الليل كنا نلعب "عظم لاح": نرمي عظماً، عظم فخذ أو لوح كتف، بعيدا في قلب الظلمة ونبحث عنه. كنت أختبر أذني على تحديد مكان العظم حين يرتطم في المتاهة، وأمرنُ قدماي على افتراض المسافات. لم أعثر على عظم يلمع غير عظامي وهي تختض. كنت أربي قلبي على الخوف، وعينيي على الظلام. كتبتُ في وقتها ثلاث وريقات: عن هذا تمخض الجبل! عنونتها "انكسار الضوء". أعدت صياغتها، تشوّهت، قرفت منها؛ فرميتها جانباً. لكنها اندست مثل عادة سرية بين الأوراق. عندما يجتاحني الإفلاس وهو حالة مزمنة، أنبش الماضي، لأني على يقين أني نسيت شيئا ورائي لم أُكمله وتركته ناقصاً. أصبح حاضري عبارة عن بواقي ماض تختلط ببعضها فيصعب تقدير نَسَبِها ويتعذر عليّ فرزها. حاضر يجر وراءه ماض ناقص يعبر الى مستقبل غير مكتمل. لم أبدأ تماما ولم أنته تماما، متأمل شارد: هذه صورتي. كي أعيشُ بلا ندم وأبرئ ذمتي من ذنب، كان لزاما عليّ أن أصفي حساباتي الماضوية. وهل لي ما أفعله غير ذلك وقد كثرت ذنوبي؟ تلك التصفيات التعسفية المتكررة راح ضحيتها رزم أوراق مرسومة، وكتابات في صيغتها الأولية، ورسائل، واختفت عشرات الأسماء والأماكن.. هل سبق وقلت ذلك؟ نعم! قلته بصيغة أخرى. اللسان يذهب الى السن المنخور، دائما. في عام 2003، قبل احتلال العراق بأيام، أقمتُ معرضاً لأعمالي في "كالري الكوفة" في لندن. كانت المرة الأولى أزور فيها تلك المدينة. قضيت وقتي مبعثراً بين الأصدقاء والمتاحف والمكتبات ومعالم لندن، في أروقة تاريخ أمسك بتلابيبنا نحن العراقيين. في حينها، كنت أتعثر بأذيال حب فضفاض. أشتريت آنذاك "نصّيات" لمؤلفه ج. هيو. سلفرمان: كتاب غني وكاتب في منتهى الذكاء. إنطوى على مقاربة في نصوص مختارة للسيّر الذاتية. في متن الكتاب ورد عنوان "إنكسار الضوء"، سيرة "ديكارت" الذاتية. قوة جبارة قذفتني من مكاني: يا الله ما هذا! الملعون سرق عنواني! قبل ثلاثمائة وستون عاما سرق ديكارت عنوان يومياتي. هكذا أقنعت نفسي؛ فليس لدي تفسير آخر أن يعنون سيرته الذاتية: "انكسار الضوء"؛ إن لم يكن قد سطا على أفكاري قبل أن أُولدُ. ولكن من يتهم ديكارت؟ كان هذا كافيا لمضاعفة إهمالي لما كتبته. غير أنها لم تذهب ضحية حروب اليأس الداخلية المزمنة، ليس بسب ديكارت؛ بل لأنها كانت تنطوي على وصف لشخصية تشبه هارون في حياة نبي الله موسى: صديقي الأول "زهرون شلش". من نكون عندما يدخل أحدهم في بنية ذواتنا البدائية، بين طيات أنسجتها الرقيقة، وهي في طور الصيرورة، وينضج مع نضجها؟ أياً منا سيكون سيرة للآخر؟ أنا سيرته أم هو سيرتي؟ نتذكر هؤلاء، فيستولون على حاضرنا لحظة بلحظة، يتنزهون معنا، يأكلون، ينامون. إنهم يعيشون بدلا عنا! كان زهرون يعيش في بيت مثل بيتنا، إنما أصغر منه. بابنا يقابل بابهم. وجهي في وجهه كل يوم. تمتد اهوائي وتتسلل اليه بلا عناء، كأهوائه عندما يقف قبالة الباب ويشير إلي. ولدنا في عام واحد، تعمدنا سوية. دجلة يشهد على ذلك. استيقظت مبكرا ذك الصباح. ناديته وهرولنا للبستان. كانت الأعشاش قد استيقظت على أصوت الفراخ الجائعة. حصينا غنائمنا وقدرّنا ثروتنا الطائلة. سمعنا صراخ نسوة وعويل قادم من بيتهم. جده الأعمى زلت قدمه وسقط من على سطح الدار. كان يفترض بزهرون ان يعينه على نزول السلم الطيني المتداعي، كما يفعل كل صباح. كان يفترض بالعجوز "جبارة" ان يصبر. كان يفترض بالبيوض أن ترجئ التفقيس. كان يفترض بي أن اترك الغواية جانبا...غير أن الموت الطبيعي، السريع والخاطف، يلغى فرضيات العقل. الأطفال أول من يهّب لاستقبال الغرباء. في تلك الساعة لم يكن القادم كالغرباء الآخرين. كان مشعوذا، طويل القامة، اشعث الشعر واللحية، يعلق برقبته اطواق خرز ولفائف وخيوط ملونة. هذا كل رأسماله واقتصاده الملون، الذي يروج له بصوت يعبث بالسماء. كانت تقطن في طرف القرية امرأة محرومة، يزورها زوجها مرة كل عام. تعاني من نوبة عصبية يعلم الله مبعثها. نادت تطلب الساحر. بالكاد تخلص منا كما يتخلص من ذباب هائج من حوله، ودخل اليها واغلق الباب خلفه.. قال لي زهرون: تعال! لحقته، ركض الى خلف دارها وتسلق الشباك. نزل مبهورا وطلب مني ان اصعد.. لم اتبين شيئا غير أن الساحر فوقها يغشيها، ظهره العريض وأكتافه تغطي المشهد. جرني وصعد مكاني. سألته: ماذا ترى؟ امرني بالسكوت! كنت تحت الشباك انتظر ما لا اعرفه بعقل بليد وعاجز عن التصور. نزل وهمس في اذني: قفزها! ماذا يعني؟ سألته. رمقني بعنين جاحظتين وبصمت طويل. كنت اعرف ان "قفزها" تعني ما يفعله الثور في البقرة. عندما كنت ارافق امي الى بستان "عبد المولى"، كنت ارى ثوره الأحمر، الجامح، المستثار، وهو يقفز البقرة. غير أن الساحر كان قد بطحها ارضا. كان "زهرون" مصدر معرفة اولى دامت سنينا حتى اكتشفت طبيعتها، وفعلها في الحياة. لدى "زهرون" عم اعرج اسمه "مُران"، مصاب بكساح طفولي، بائس ومسكين. يوم دخلته، في المساء، اخذه شباب القرية ذوي الخبرة الجنسية، في جولة، يعلمونه كيف يكون اخذ المرأة. رسموا له على الأرض خارطة الكنز الدفين بين أفخاذها. وضحوا له في حركات الأيدي أين يكمن موضع الثأر، وكيف يناله. تكلموا معه طويلا؛ يشحذون فحولته. كنت أسمع منهم كلمات من قبيل التي تدخل الذاكرة لأول مرة ولا تخرج منها. في تلك الليلة لم يفلح "مران" في تنفيذ مهمته. لم انس تلك التعاليم، بعد سنين خلت، لم افلح أنا الآخر، مثل "مران"، في مرتي الاولى... لابد انها كانت تعاليم كاذبة. كان "زهرون" ذو بديهية، يُسرع في الأجابة نيابة عني، حين يراني اتلعثم امام سؤال العائلة المرعب: اين كنت؟ لم يقل لهم أننا كنا نتلصص، من فوق الطوف، على فتاة قاصرة العقل، تتغوط في ركن باحة دارها؛ ونضحك من عريها. لم يقل لهم اننا كنا نقف في عرض القناة الصغيرة نعترض الماء بثيابنا نصطاد السمك الصغير، وكنا نعيده الى الماء خشية افتضاح امرنا. فمن اين أتانا السمك الصغير؛ بغير هذه الطريقة، لو حملناه الى البيت؟ لم يكشف سبب الخدوش على قفا اكفنا، التي كنا ندسها بحذر شديد بين اشواك العاقول لنحظى بثماره الناضجة؛ نلحسها كما تفعل الثعالب. كان يقلب الأمور على جنباتها، ويعثر على عذر لها، فيما كنت استغرق بالظواهر، بطعم الأشياء، تحملني مشاعري بعيدا وأنا الهو بعقلي. لم يكن يكذب ما دام ينقذني من ورطتي كل مرة، وما دمتُ عاجزا عن الكلام. في عامي الرابع أصابني مرض التهاب السحايا(مرض مميت يصيب غشاء المخ). سمعتهم يقولون: أن من ينجو منه إما يصاب بالجنون، أو يصبح عبقريا. يبدو أن الطبيب "أمين جريدين"، الذي أشرف على علاجي في مستوصف قلعة صالح، لم يكن لديه وقتا كافيا ليدقق بالأمر؛ فغطّسني في حوض من الثلج ليخفض حرارتي الملتهبة ويبقيني حيا كما أنا: بلا جنون ولا عبقرية. لم تنته علاقتي بالأمراض بهذه النتائج. بعد عام من هذا، شملت العراق حملة تطعيم ضد الجدري: كانت فرق طبية تجوب القرى والمناطق النائية ترافقها الشرطة لاجبار الناس، وإعطاء الحملة مهابة حكومية. كنت أتلصص خلف الباب على ما يجري في ركن الشارع، عند بيت "سلمان خلف"، على ضفة النهر: كانوا يقتادون الطفل كالأسير، يأخذونه بقوة ويمسكون بذراعه ويبضعونها بمشرط. كان صراخ الأطفال كافيا ليضغطني الى أصغر حجم في الوجود. كنت أتضاءل خلف الباب، وأنسحق؛ فغدوتُ صيدا سهلا لهم. كل ما أبديته من رفسات وصراخ زاد الشرطي إصراراً على تطويقي والإمساك بذراعي، وتقديمها ممدودة للموظف الصحي صاحب المشرط. انهارت قواي، وتراخت أعضائي، وبلتُ على نفسي، وبللت الشرطي. غشاني الحياء، ونسيت ذراعي تحت رحمتهم. رجعت الى البيت منقوعاً، مجروح الساعد، والقلب. لكني ثأرت لكرامتي المهدورة: كنت قد بلتُ على الحكومة! تتحرك قافلة الأطفال من "اللطلاطة" كل يوم، وهم يحملون الكتب، (في جيبي أنا خلال مطبوخ)، يجتازون بستان الحاج فرعون بمحاذاة النهر، يعبرون محطة البنزين، وكنت أهرول تلك المسافة المشبعة بالنفط الأسود، وأنتظر الأخرين تحت سدرة وارفة في نهاية البستان. أنا أكره تلك الرائحة. ندخل "قلعة صالح" مرورا ببيوت "آل سام" باتجاه مدارسنا. كانت مدرستي: مدرسة الأندلس الابتدائية للبنين، أولى المدارس على الطريق، تطل على دجلة، قبالة عوامة تعبر الى الضفة الأخرى، حيث طريق السيارات، كلما امتلأت بالناس والدواب والبضائع. العوامة مربوطة بحبل حديدي طويل بين الضفتين يلف حول بكرة ضخمة مثبتة على جانبها، مغطاة بالشحم الأسود، يلفها إثنان؛ فتعبر بسلاسة وبطء. كلما ركبتها كنت أختبر نفسي في تحديد منتصف النهر؛ فألتفت يمينا ويسارا، ما أن تصل، في تقديري، منتصفة، التفتُ لأتثبّت من صحة التقدير.. تكون العوامة قد فاتت المنتصف. كانت بوابتنا الوحيدة على العالم وإليه: بوابة عائمة. كنت أصل كئيبا الى الضفة الأخرى. ماذا لو أنها استرسلت على مهل، لتحملني في رحلة أبدية، فلدي الوقت: العمر كله؟ كان زمنها لا يشبه زمني ولا زمن الأشياء. لا هو صاخب ولا هو أخرس. كان ما بين بين: زمن مائي سائب. غمرني. كنت لا أجيد القراءة، إنما أجيد الكتابة. أنسخ الكلمة وأرسم صورتها باتقان ولا أكلف نفسي قراءتها أو معرفة معناها. الولد الصغير الذي كنته لم يسأل نفسه عن معنى الأشياء ما دام يرسمها. كان الرسم هو المعنى الجديد لها في عقله. مفارقة حيّرت المعلم "جليل وهّام"؛ فابتدع لي طريقة لم أشهد مثيلا لها في المدارس: عبارة عن قطعة كارتون، اقتطعت من علبة سكائر، يفتح في وسطها نافذة مستطيلة على حجم كلمة واحدة، ويضعها على كلمة ما في الصفحة، ويطلب مني قراءتها. كيف كان لي أن أعرف كلمة منفردة، معزولة عن الجملة، في سطر مجهول، دخلت الذاكرة مع كلمات أخرى، فأين منها هذه التي في النافذة؟ كنت أحزرها في سري، وأشك بنفسي، وأعيد أحزرها من جديد. كان ذلك يستغرق وقتاً طويلاً؛ فيثقل لساني، وتضيق حنجرتي، ويصيبني الخرس. اقتنع المعلم بأني فاشل، وأبلغ أمي بذلك. رسبتُ في درس اللغة العربية في الصف الأول الإبتدائي. بداية قبيحة لابن جميل ومدلل. تكفلت أختي الكبرى ليلى بتدريسي لاجتاز الامتحان التكميلي. هل عليّ أن أقرأ الكلمة، ألا يكفي رسمها بخط جميل؟ الاجابة: لا! وكنت أعرفها. تدربت على طريقة "جليل وهّام" وازدادت خبرتي في تخمين الكلمات، وتقدير مكانها في الصفحة، حتى وأنا مغمض العينين؛ فنجحت. نجاحي العسير بعد معاناة طويلة، لم يعفن من الأصابة بكساح لغوي، خَلَفَ لدي عاهة لا تخطؤها العين.
|