المقاله تحت باب منتخبات في
18/09/2011 06:00 AM GMT
طوال حياته، كتب الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا (١٨٨٨-١٩٣٥) حكايات قصيرة، في البداية باللغة الانكليزية، أثناء إقامته في إفريقيا الجنوبية (بين سن السابعة والسابعة عشرة)، ثم بلغته الأم لدى عودته إلى ليشبونة. ولأن هذه النصوص بقيت بمعظمها غير منجَزة، فهي لم تجذب انتباه النقاد ومفسّري أعماله، على رغم المتعة الكبيرة التي نشعر بها لدى قراءتها وتضمّنها عناصر ومعطيات كثيرة تتجلى فيها مختلف جوانب شخصية الشاعر وتساعدنا على فهم مسعاه الكتابي ككل. من هنا أهمية الانطولوجيا الصادرة حديثاً لدى دار La Différence الباريسية والتي تضم نخبةً واسعة من هذه النصوص نقلها إلى الفرنسية بارسيديو غونزالفيس وقدّمت لها الباحثة المتخصصّة بأدب بيسوا تيريزا ريتا لوبيز. وداخل هذه النصوص التي يُنشر معظمها للمرة الأولى، نستشفّ أولاً شواغل بيسوا الروحانية والدينية، كما في حكايات «الحاج» و «ناسك الجبل الأسوَد» و «المجهول» و «في حديقة إيبيكتات». لكن أهميتها تكمن خصوصاً في تصوير الشاعر من خلالها مفارقات وجودنا، كما في حكاية «أزواج» التي نشاهد فيها امرأةً تدافع عن نفسها أثناء محاكمتها لقتل زوجها وتُفسر جريمتها بتوقها إلى بلوغ حالة «صفاء مع ضميري ومع الكنيسة»، أو في حكاية «تعليلات نهائية» التي يصرّح فيها رجلٌ تم توقيفه بجنحة التشرّد: «العمل، سيدي الرئيس، سادتي المحَلّفين، يُولّد جميع الرذائل»، أو في حكايتَي «المصرفي الفوضوي» و «مذكرات لص» حيث تتحلّى الشخصية الرئيسية بصفتين متناقضتين في الظاهر: مصرفي وفوضوي في الأولى، سارِق وفنان مرهَف في الثانية. وحتى في حكاية «ناسك الجبل الأسوَد» الروحانية تظهر متعة بيسوا في السعي خلف المفارقة، ومن خلالها، في فضح الأحكام المسبقة المتجذّرة فينا، فنقرأ على لسان الناسك: «أنا متناقض مع ذاتي؟ لأني على حق. العالم هو المفارقة الكبرى والواقع يتعذّر فهمه». وسبب شغف الشاعر بالمفارقة يعود إلى اعتبارها أفضل وسيلة للإقتراب من الحقيقة. ولكن بما أنه يتعذر بلوغ هذه الحقيقة، فإن المهم، بالنسبة إليه، هو أن نبحث عنها بلا كلل وليس أن نعثر عليها. وهذا ما يقوم به في هذه النصوص مبرهناً في سبيله على قدرات ذهنية نادرة وتفكيرٍ في غاية التعقيد ولكن أيضاً على حسٍّ فكاهي مرهف يتجلى غالباً في قلبه أو تغييره بعض الحِكَم، مثل: «إن أردتَ السلام تهيأ للحرب»، التي تصبح: «إن أردت الحرب تهيأ للسلام»، أو اعتباره، كما سبق وأشرنا، أن «العمل يولّد جميع الرذائل»، وليس البُخل. ومن جهةٍ أخرى، يظهر في هذه النصوص أيضاً الهاجس التربوي لدى بيسوا الذي أراد أن يكون «مبتكر ثقافة وحضارة» ولم يفوّت فرصة للتدخّل في الحياة الثقافية والمدنية لبلده الصغير، كما في الحكايات المجموعة في هذه الانطولوجيا تحت عنوان «من أجل الدول الشابة» حيث يتطرّق الشاعر بسخريةٍ إلى وجوهٍ وأحداثٍ سياسية ويعمد إلى إعطاء نصائح للمواطنين على شكل قصصٍ صغيرة تتضمن أحياناً العِبْرة التي يتوجّب استخلاصها، كما في حكاية «الوردة الحريرية» ذات البُعد الفلسفي والتي يعارض بيسوا فيها المذهب الطبيعي في الفن ويدعونا إلى عدم تقليد الواقع بل نماذجه الأصلية الكامنة في أعماق الذاكرة. لكن أكثر ما يشدّنا في هذه الحكايات هو الحس الإنساني الكبير للشاعر واهتمامه بأقدار كائناتٍ تعيسة أو هامشية، كما في حكايتَي «رسالة الحدباء إلى القفّال» و «الغراموفون» حيث الشخصية الرئيسية معوقة تعيش على هامش الناس «الطبيعيين» وتتأمل حياتهم من مسافة بعيدة وتتغذّى من فُتاتهم من دون أن يدروا: ماري خوسيه الحدباء تعيش على نظرةٍ لم تكن موجّهة إليها أصلاً، والطفلة المعوقة لوزينا على موسيقى آلة الغراموفون التي يشغّلها أحياناً جارها. والشخصيتان تشكلان في الوقت ذاته نموذجاً مثالياً للحالِم الذي كانه بيسوا، من بين نماذج أخرى عديدة لجأ إليها في كتاباته للإشارة إلى إنقطاعه عن الواقع. وفي شكلها، تقترب هذه الحكايات المكتوبة بأسلوبٍ حِكَمي وساخر من القصص الخرافية من دون أن تتمتع بجانبٍ سردي صرف، فالشاعر لم يهتم بحبكتها بقدر ما اهتم في كل مرة بفبركة شخصية تظهر علينا بصوتها، ضمن مونولوغ يمكن أن يأخذ شكل رسالة، كما في «رسالة الحدباء» أو في الرسائل الثلاث الأخرى داخل الانطولوجيا، لكن من دون أن يكون المقصد من اعتماد هذا الشكل هو إرسال هذه الرسائل إلى أحدٍ ما بل تسهيل عملية البوح. نأسف طبعاً لعدم إنجاز بيسوا بعضاً من هذه الحكايات. ولكن من جهةٍ أخرى، تتصاعد منها نضارةٌ ربما كانت قد توارت لو أن الشاعر أعدّها للنشر. الأكيد أنه كان قد رمى بعضها في سلة المهملات ولما تمكّنا من استعادتها، وبالتالي لكان ذلك خسارةً كبيرة
|