بغداد ليست بغداد : شارع الرشيد يتحول إلى مركز للورش 2 - 3

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
12/07/2010 06:00 AM
GMT



ما من بغدادي إلا وله ذكريات وذاكرة مع شارع الرشيد؛ ذكريات تمتد من طفولته وحتى اليوم، بل ما من زائر ووافد إلى بغداد إلا ودشن خطواته في تلك المدينة فوق أرصفة شارع الرشيد وبين أعمدته وفي محلاته ومقاهيه ومكتباته وأسواقه ومطاعمه. وعندما تُذكر بغداد يقترن ذكرها باسم أول وأهم وأجمل وأبرز شارع في تاريخها، وهو شارع الرشيد الذي تم شقه خلال الحكم العثماني، وعرف أولا باسم شارع (خليل باشا جادة سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910، والذي سرعان ما تحول إلى شريان المدينة الحيوي.
وثمة معلومة تاريخية مفادها أنه ما من عهد مر على بغداد إلا وكان لهذا العهد شارع أو شوارع تشق وتعبّد وتعتمد، وكذلك جسور تقوم بين ضفتي نهر دجلة لتزيد من تقارب وترابط كرخ بغداد ورصافتها إلا السنوات السبع التي تمتد ما بين عامي 2003 و2010، فلم تعرف هذه السنوات شق أي شارع أو بناء أي جسر، بل على العكس خُربت الشوارع التي كانت قائمة، ولم تعد معظمها صالحة للاستخدام. وإذا عرفنا أن معظم الشوارع والجسور التي تم تنفيذها في العهود التي تلت العهد الملكي، كانت ضمن مخططات مجلس الإعمار الذي ترأسه أشهر رئيس حكومة في العهد الملكي، نوري سعيد باشا، فسوف يزيد استغرابنا، كون العهود التي جاءت بعد العهد الملكي تتبعت خطى هذا العهد على الرغم من أن الإمكانات المادية كانت فقيرة للغاية.
شارع الرشيد وحد البغداديين، وكان رمزا معلنا لوحدتهم، وعنوانا للقاءاتهم اليومية، إذ تقع فيه محلات سكن المسيحيين واليهود والمسلمين في حارات أو «عكود» (أزقة) متجاورة مثل (عكد النصارى) و(عقد اليهود) و(محلة العمار). وكان ملتقى النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والطبقات الشعبية بكل تنوعاتها وفئاتها. بل إن الطفل العراقي أول ما يتعلمه قراءةً وكتابةً في «القراءة الخلدونية» التي وضعها ساطع الحصري، وفي أول شهر من دخوله المدرسة الابتدائية، جملة شهيرة ما زال كل العراقيين يتذكرونها «شرطي المرور في شارع الرشيد»، لكن للأسف لم يعد هناك شرطي للمرور في شارع الرشيد، لأن الشارع أصلا تحولت وظائفه وخرائطه، وبدلا من أن تسير فيه السيارات الحديثة صار مرتعا للعربات البدائية التي تدفع يدويا أو تُجر بواسطة الحمير وكأن الزمن عاد بالشارع إلى بداياته في أوائل القرن الماضي عندما تم شقه وسارت فيه عربات كانت تجرها الخيول وقتذاك.
دخلنا إلى شارع الرشيد من جهة شارع (أبو نؤاس) مع زيد الأعظمي، هكذا أراد أن يكون لقبه كونه ولد عام 1956 في حي الأعظمية وترعرع في إحدى محلاتها السكنية، محلة السفينة، قريبا من ضفاف دجلة، حتى ترك العراق في منتصف عام 1979 إلى باريس لدراسة التصوير السينمائي، وعاد بعد ثلاثة عقود، في 2009، محملا بحلمين كبيرين، الأول إنتاج فيلم وثائقي عن حي الأعظمية، والثاني تصوير فيلم وثائقي عن شارع الرشيد «لكنني وجدت أن الأعظمية هي ليست المحلة أو الحي الذي تركته، كنت أتخيل أنني سأجده أكثر تطورا عمرانيا واجتماعيا، لكنني وجدته مسورا بجدران خرسانية، وأن بيوتاته العتيقة تهدمت، وعوائله الأصيلة هاجرت، أو هُجرت، حتى أهلي تركوا بيت جدي القديم الواسع، ذا الطراز المعماري البغدادي وسكنوا في بيت حديث في حي اليرموك، أما شارع الرشيد، فهو بالتأكيد ليس بشارع الرشيد ولا علاقة له بهذا الاسم ولا بتاريخ ومجد هذا الشارع» يوضح الأعظمي بمرارة بالغة.
نتتبع مع الأعظمي خريطة الذاكرة سوية مستهلين خطواتنا ببيت الخضيري البغدادي التراثي الأصيل، الذي كان حتى نهاية التسعينات، أو قبلها بقليل، قائما كمركز حضاري يضم صالة للعروض التشكيلية وباحة تطل على جريان نهر دجلة تعزف فيها الموسيقى العراقية.. في ذاك الركن المقابل، تقريبا لبيت الخضيري، كانت هنا تسجيلات (جقماقجي) أول وأشهر شركة تسجيلات موسيقية (أسطوانات) في العراق حفظت إرث الموسيقى العراقية وخلدت أصوات المطربين المبدعين الأوائل، أمثال سليمة مراد، وحضيري أبو عزيز، وناظم الغزالي، ومحمد القبانجي، ويوسف عمر، وزهور حسين، وعفيفة إسكندر، وأحلام وهبي، وناصر حكيم، لكن الشركة باعت أصولها وأملاكها ومجد الفن العراقي في التسعينات وأغلقت أبوابها. كان شارع الرشيد روح بغداد، بل جمع كل بغداد في جغرافيته التي تمتد على مسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات لتربط ما بين بابين تاريخيين: الباب الشرقي والباب المعظم، وكان أيضا السوق التجارية الأهم والمركز التجاري الأول لبغداد.
يقول الاعظمي: «هنا كانت مقاهي المثقفين والناس الشعبيين، بدءا بمقهى البرازيلية التي لم يكن مسموحا بها لسماع الموسيقى، بل مخصصة لأن ينشغل زبائنها بالقراءة والنقاشات الثقافية الهادئة. وفي هذا الشارع كانت مقاهي البرلمان وحسن عجمي التي تتداعى اليوم قبل أن تلفظ أنفاسها، والزهاوي التي ما زالت تجاهد من أجل بقائها، ومقهى أم كلثوم وكوكب الشرق والرصافي»، غالبية هذه المقاهي أغلقت وتحولت اليوم إلى ورش لتصليح السيارات، ويقول الأعظمي: «تخيل وجود ورش للحدادة والميكانيكا في شارع الرشيد؟ هذه كارثة حقيقية لتاريخ بغداد». وفي شارع الرشيد كانت تقوم أرقى صالات العرض السينمائي، بدءا بـ«روكسي» و«ريكس» و«الخيام» و«علاء الدين»، ولكن لم يتبق من هذه الصالات إلا أسماء لا يعرفها الجيل الجديد، وتغيرت مهمات هذه الصالات إلى معامل نجارة وأثاث. وكلما توغلنا في هذا الشارع باتجاه منطقة الميدان، تواجهنا صور تدهور وانحطاط أول شوارع بغداد، فالسيارات لم تعد قادرة على اجتياز الشارع لوجود الدعامات الخرسانية التي تتوسطه، ثم إن الاحترازات الأمنية بالقرب من منطقة المصارف، ومنها المصرف المركزي ومصرف الرافدين تحول دون وصول أي مركبات، ومع ذلك يتعرض هذان المصرفان للتفجيرات بين فترة وأخرى، كان آخرها منتصف الشهر الحالي.
نرصد محلا، من مجموعة من المحلات، فارغا إلا من التراب وبقايا رفوف كانت تزدهر ذات يوم بالموديلات المختلفة من الملابس الرجالية الثمينة، يجلس عند بابه المتهالك رجلان اقتربا من السبعين من عمرهما، يلعبان الطاولة بتراخ، نسألهما عما حدث هنا، وما الذي غير أحوال هذا الشارع؟ يجيب قيس حنا: «لم لا تسأل عما حل ببغداد والعراق كله؟ فما حدث في شارع الرشيد هو جزء مما حل بالبلد وعاصمته، حروب وضياع وإهمال متعمد، والأخطر هو قتل الناس». وحنا كان يعمل في هذا المتجر الذي كان متألقا لسنوات طويلة «بدأت العمل هنا منذ كنت في العشرين من عمري، وفي نهاية التسعينات اضطر أصحاب المتجر إلى إغلاقه وتسليم مفاتيحه لي ريثما تستقر الأوضاع، لكنهم غادروا إلى أوروبا، وأنا مقيم بشقة فوق المتجر في انتظار عودة أصحابه، أنا لا أحرس هنا سوى الذكريات، إذ لم يتبق ما يستحق حراسته». ويضيف صاحبه «أبو علي»، هكذا أردنا أن نثبت كنيته، قائلا: «نعم كان لهذا الشارع أمجاده التي لم تتأثر حتى عندما تم افتتاح شوارع جديدة مثل شارع الجمهورية وشارع الكفاح وشارع السعدون، لكن الهجمات الأخيرة على الشارع من قبل ورش تصليح السيارات ومعامل النجارة والحدادة، وسيطرة غرباء عن بغداد وعن الشارع وحتى عن المهن التي كانت سائدة في هذا الشارع غيرت أحواله وأحوالنا، فهؤلاء يملكون أموالا طائلة ويشترون أي محل يريدون، ويفعلون ما يروق لهم بسبب غياب القوانين والتعليمات المشددة التي كانت تطبق من قبل أمانة بغداد، وهكذا ضاع كل شيء، ضاع شارع الرشيد وضاعت بغداد كلها».
الصدمة تبدو كبيرة عندما نصل إلى منطقة حافظ القاضي وسط الشارع بالضبط، حيث كان هناك واحد من أكبر وأحدث متاجر بغداد الكبرى والراقية (حسو إخوان)، الذي أغلق أبوابه منذ سنوات طويلة، وقبل أن يحل ببغداد خراب الأحزاب السياسية والحروب وقتال الميليشيات وصراع الطوائف والمذاهب، هذه المنطقة صارت عبارة عن مزبلة حقيقية، بينما تهدمت غالبية واجهات الأبنية التراثية التي قامت منذ قيام بغداد الحديثة، وتشوهت الزخارف المعمارية التي كانت هوية مميزة لأبنية شارع الرشيد.
وتتفرع عن شارع الرشيد أسواق مهمة وتاريخية، مثل سوق الشورجة الذي يضخ الطعام وكل مستلزمات العائلة العراقية لعشرات الآلاف من المتسوقين يوميا، هنا تسود عطور التوابل وأنواع الصوابين المصنوعة يدويا من الغار والهال، كما يتفرع عن الشارع سوق الصفافير (النحاسين) الذي يعود تاريخه للعصر العباسي.
ما بين مدخل الشورجة وحتى الساحة التي يقف فيها تمثال الشاعر معروف الرصافي (ساحة الرصافي) يشهد شارع الرشيد عشوائية لا سابق لها، حيث الباعة الجوالون في منتصف الشارع، باعة خضراوات وفواكه وملابس وكل أنواع البضائع الاستهلاكية، مع انتشار الصناديق الفارغة والمخلفات. بينما كان هذا الجزء من شارع الرشيد مخصصا لبيع المرايا، من هناك يتفرع سوق المرايا و(الجام) أو ما يعرف بـ(عكد الجام)، والمواد اليدوية ومستلزمات النجارة والحمامات. اليوم لا تخصص في أقسام الشارع، وما تبقى من محلات قديمة ومعروفة ضاعت بين هذه العشوائية الضاربة، إذ يحاول (كعك السيد) المذكور في غالبية روايات الكتّاب العراقيين، وأبرزهم فؤاد التكرلي، في رواية (المسرات والأوجاع) و(شربت الحاج زبالة) الذي يقدم منذ عشرات السنين ألذ عصير للزبيب (العنب المجفف) والواقع قبالة جامع الحيدرخانة الشهير، ومرورا بمقهى (حسن عجمي) الذي عرف باعتباره ملتقى للأدباء العراقيين، ومقهى الزهاوي والرصافي، ومدخل شارع المتنبي، وصولا إلى مقهى أم كلثوم قبل أن ندلف إلى سوق الهرج الذي يباع فيه كل شيء مستعمل، تقاوم بعض المحلات من أجل بقائها باعتبارها شواهد مهمة من عناوين شارع الرشيد.
لم يكن التقاط الصور للشارع ممكنا، لأننا لم نحمل تصريحا أمنيا وصادرا من جهات أمنية عليا تخولنا بالتصوير، لكننا استطعنا استراق بعض اللقطات خلسة، وما إن بلغنا نهاية شارع الرشيد من جهة الميدان، عبّر الأعظمي عن ندمه وخيبة أمله وقال: «لو أني عدت مبكرا إلى بغداد، لو أني صورت هذا الشارع من قبل، لكنت قد اختزنت لقطاته في ذاكرة التاريخ الذي حول أهم شوارع بغداد إلى خراب».

مستشفيات العراق: نقص الكوادر الطبية والأجهزة الحديثة والأدوية.. وغياب النظافة


ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية: أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، أنصابها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.
لا شيء تبقّى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.
«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد..التي لم تعد بغداد.. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
على الضفة الشرقية من نهر دجلة، وقريبا من منطقة الباب المعظم، تقوم مدينة الطب، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الطبية، ليس في العراق أو في بغداد فحسب، بل على صعيد منطقة الشرق الأوسط، حسبما يؤكد الدكتور نزار أحمد العنبكي، معاون مدير عام دائرة مدينة الطب التي يتسع المستشفى التعليمي فيها لألف سرير.
في ملف الخدمات الطبية لم نذهب إلى الناس، ذلك أننا على يقين بأن الشكوى ستكون هي لسان حالهم، بل توجهنا مباشرة إلى المعنيين الحقيقيين، ونستطيع أن نسميهم الأبطال الحقيقيين في هذا الميدان الذي يتعلق بحياة الناس، وهم الأطباء، الجنود المجهولون في معركة الحياة والموت التي تتجسد كل يوم في العراق عامة وبغداد خاصة. لم نرد سماع الشكاوى، بل أردنا الحصول على المعلومات الحقيقية بمصداقية وشفافية عالية، وبدأنا من أكبر مؤسسة طبية، تدعى مدينة الطب، وهي حقا مدينة للطب.
قامت مدينة الطب على أنقاض أول مستشفى في بغداد كان يحمل اسم «مستشفى المجيدية» الذي أنشأه الوالي العثماني رجب باشا، على ضفة نهر دجلة اليسرى. وعندما احتل البريطانيون بغداد حولوا هذا المستشفى إلى مستشفى عسكري بريطاني.
وكان الدكتور صائب شوكت، المولود في بغداد عام 1898 من أبوين عراقيين حيث ينتمي إلى عائلة عريقة ومعروفة، هو الذي اقترح على مجلس الإعمار، الذي كان برئاسة نوري السعيد، رئيس وزراء العهد الملكي، بناء مستشفى يتسع لعدد أكبر من الطلاب، وبعد عدة جلسات تم تخصيص المبلغ الكافي للبدء في بناء هذا المستشفى الكبير، كما أسهم في تخطيط وتأسيس مدينة الطب، وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم عندما كانت مجرد خرائط على الورق. والغريب أن الدكتور شوكت، وهو أول طبيب جراح عراقي، الذي اختير لعمادة كلية الطب لمرات عدة، لم يدع إلى حفل افتتاح مدينة الطب عام 1971، بل كانت أول زيارة له لهذا المستشفى الذي كان وراء قيامه في عام 1974، وكانت الزيارة غير رسمية.
ومدينة الطب تعد إحدى أكبر المؤسسات الصحية في العاصمة العراقية، بغداد، وتقع في جانب الرصافة، بينما تعد دائرة مدينة الطب من أكبر المستشفيات الحديثة ليس في العراق وحسب إنما على صعيد الشرق الأوسط، حيث تضم بين دفتيها 5 مستشفيات كبرى هي: دار التمريض الخاص، ومستشفى الجراحات التخصصية الذي كان يحمل اسم (مستشفى عدنان، نسبة إلى عدنان خير الله وزير الدفاع الراحل، للجراحات التخصصية الذي يتكون من 20 طابقا)، وأمراض الجهاز الهضمي والكبد، وبغداد التعليمي، وحماية الأطفال. وجميعها في مجال الطوارئ تعتمد على طوارئ مستشفى بغداد التعليمي الذي يحتوي على قسم للطوارئ يضم أكبر قاعتين لطوارئ الباطنية والجراحية (عدا حماية الأطفال) فضلا عن الحالات من المستشفيات الأخرى وإسعاف جرحى الانفجارات الذين يحتاجون إلى استنفار الجهود وتوفير العلاج اللازم، لا سيما تعويضهم بما يحتاجونه من الدم، والآن يجري إنشاء مستشفى خاص للحروق.
ويتذكر العراقيون أنه عندما تم افتتاح المستشفى التعليمي في مدينة الطب، كان يتميز ولسنوات بأجهزته الطبية المتقدمة، وبنظافته العالية، وبخدمات التمريض حيث كانت ترفده كلية التمريض التابعة لجامعة بغداد باختصاصيين يحملون شهادة البكالوريوس في التمريض.
ويوضح الدكتور (ف. العمر) وهو طبيب استشاري، جراح، درس في كلية الطب وتدرج في التعلم بالمستشفى التعليمي في مدينة الطب حتى حصل على شهادة «البورد العربي» في الجراحة، أن «البناية القديمة أو أول بناية في مدينة الطب كانت مستشفى بغداد، أو المستشفى التعليمي، وهو يتكون من عشرة طوابق ويتسع لألف سرير، ويضم ما يقارب الـ100 طبيب اختصاصي والعشرات من الأطباء الذين يدرسون البوردين العراقي والعربي، بالإضافة إلى الأطباء المقيمين قبل تخرجهم النهائي في كلية الطب»، منبها إلى أن «هناك مئات الأطباء الذين يعملون في المستشفيات الـ5 لدائرة مدينة الطب، وغالبية الاختصاصيين في مستشفى الجراحات التخصصية الذي يتسع لأكثر من ألفي سرير موزعة على 20 طابقا، حيث تجرى أكثر العمليات الجراحية تعقيدا في هذا المستشفى المتطور للغاية الذي تم افتتاحه عام 1989».
هذا الطبيب المتخصص الذي يقضي ما يقرب من 16 ساعة في عمله بمدينة الطب رفض مغادرة العراق على الرغم من سفر جميع أفراد عائلته، بعد أن تعرض شقيقه للاختطاف وتحريره بعد دفع فدية مقدارها 60 ألف دولار، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك أطباء اختصاصيين تم اغتيالهم في عياداتهم سواء الخاصة أو في المستشفيات، وهناك من غادر العراق بعد تعرضه للتهديد ضمن عملية إفراغ العراق من العقول والكفاءات العلمية، إلا أنني رفضت ترك موقع عملي لأنني أؤمن بأنني خلقت لمساعدة الناس، فلو تركت البلد وغيري فعل ذلك فمن سيقدم الخدمات الطبية للناس، ذلك أن مهنة الطب إنسانية قبل كل شيء»، موضحا أنه كانت «لي عيادة خاصة في ساحة النصر، وقد أغلقتها لأكثر من ثلاث سنوات حتى انحسرت موجة القتل الطائفي وتصفية الأطباء والعلماء، والقانون العراقي يسمح للطبيب بأن يعمل في عيادته الخاصة إلى جانب عمله في مستشفيات الحكومة».
وحول ما يقدمه المستشفى التعليمي، أو مستشفى بغداد في مدينة الطب من خدمات، يقول العمر: «لكل طابق من الطوابق الـ10 في المستشفى خدمات اختصاصية، ونحن نجري العمليات الجراحية وبواقع 10 عمليات أسبوعيا، ناهيك عن العمليات التي تجرى في المستشفى التخصصي للجراحات، وقد يتأخر المريض لشهر أو شهرين على قائمة الانتظار وهذا حسب حالته الصحية»، مؤكدا أن جميع هذه الخدمات والأدوية والعلاجات التي تقدم للمرضى مجانية تماما.
وعندما يقارن واقع الخدمات الطبية التي تقدم للمواطنين، يقول العمر: «بالتأكيد أن الخدمات الطبية متفوقة على بقية الخدمات، خصوصا الكهرباء والماء والبلديات، ونحن نطمح إلى تقديم الأفضل كون خدماتنا تتعلق بحياة البشر والحفاظ عليها»، شاكيا من «الخدمات الفندقية في المستشفيات العراقية، من نظافة وأسرة وتمريض»، يقول: «هذه مشكلة أزلية في المستشفيات العراقية، فالخدمات الطبية متفوقة على الفندقية ولا ندري كيف يتم معالجة ذلك».
لكن ما ينطبق على مدينة الطب لا ينطبق على بقية المستشفيات ببغداد، أمثال، اليرموك والكندي والنعمان، وغيرها، حيث المعانات من انحسار وغياب الأجهزة الطبية الحديثة، وأدوية الأمراض المزمنة، خصوصا أمراض السرطان المستشرية في العراق بسبب الإشعاعات والانفجارات.
ويقول الصيدلي أحمد الجباوي، ماجستير صيدلة من جامعة بغداد: «نحن نعاني في مستشفيات الدولة من غياب غالبية الأدوية للأمراض المزمنة ومنها أمراض القلب وقرحة المعدة، وعلى الرغم من أن أسعار الأدوية في العراق رخيصة للغاية، فإن غياب بعضها يكلف المواطن الكثير من المعاناة والأموال لشرائها من الصيدليات الأهلية».
وفي موضوع تكاليف العلاج والعمليات الجراحية، فإن تكلفة زيارة الطبيب الاختصاصي، وكما يوضح الدكتور العمر «تبلغ في المعدل 20 دولارا، وتكاليف العمليات الجراحية تتراوح ما بين ألف إلى أربعة آلاف دولار، وإذا أضفنا أجور وتكاليف المستشفيات الخاصة والتحاليل الطبية والصور الشعاعية فإننا سنتأكد أنه يصعب على الموظف العراقي ذي الدخل المحدود زيارة العيادات الخاصة أو إجراء عمليات في مستشفيات خاصة، ولا يتبق أمامه سوى التوجه إلى المستشفيات الحكومية التي تعاني من زحام مستمر وشح في الأطباء والكوادر التمريضية والخدمية».
المشكلة الأكبر التي يعاني منها قطاع الخدمات الصحية أو الطبية هي افتقار الطبيب إلى الخبرات والمعارف الحديثة في علوم الطب، «إذ لا تبذل وزارة الصحة العراقية أي جهود في ابتعاث الأطباء للدراسة أو المشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية في أوروبا أو الولايات المتحدة، فكل يوم هناك الجديد في تقنيات الجراحة وظهور عقاقير جديدة، واكتشافات متطورة»، هذا ما يوضحه الدكتور العمر، مشيرا إلى أن «هناك بعض الأطباء يعتمدون على جهودهم الخاصة بمتابعة ما هو جديد ومتطور في الطب سواء عبر الإنترنيت أو مراسلة الجامعات ومراكز الطب العالمية والتواصل مع الندوات والمؤتمرات العلمية عبر العالم»، وهو يلقي باللوم في ذلك على وزارة الصحة «التي لا تتواصل حتى مع الأطباء العراقيين، بل إن هناك فجوة بينها وبين ما يحدث في علوم الطب في العالم بسبب قيام بعض الأطباء غير الناجحين في حياتهم العلمية على أمور الطب في وزارة الصحة».
إلا أن الدكتورة سندس.خ، الطبيبة في أحد المستشفيات الحكومية بجانب الرصافة من بغداد، تؤكد أن «مشكلتنا الحقيقية في أقسام الطوارئ، وبخاصة في حالات حدوث الانفجارات إذ يتدفق الجرحى بأعداد كبيرة، بينما هناك تضاؤل في أعداد الأطباء والممرضين والأجهزة الطبية والإسعافات السريعة، فمن المعروف أن هناك وسائل إسعاف متطورة في العالم لكننا ما زلنا نستخدم أساليب متخلفة تجاوزها الزمن».

الثقافة العراقية تحارب لإثبات وجودها.. وسياسيون يسعون لشراء المثقفين أو «قتلهم»

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية؛ أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا.. ناسها؟
لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها، وببساطة، بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.
«الشرق الأوسط» استغرقت، ولأكثر من شهر، في سطح المدينة وعمقها.. حولها وفوقها؛ فوق أرصفتها وعلى حافتي نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان؛ بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.
هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
يبدو أن المثقفين العراقيين وحدهم هم من يسبح ضد التيار السائد، يغردون بهارموني منتظم ومبدع خارج أسراب النشاز والضجيج السياسي واللغط الطائفي والهرج الذي يسود ما يسمى بالمكونات السياسية والانتخابية والكتل البرلمانية الأكبر والمتوسطة والأصغر، وبكل المقاييس.
إلا أنهم، وبالتأكيد يدفعون ثمن إصرارهم على أن يبقوا في الضفة الصحيحة؛ ضفة الإبداع من دون أن يتأثروا بكل التشويش الذي يغلف المشهد العراقي العام والخاص.
القائمة ستطول لو رصدنا الخط البياني للخروقات التي تعرض لها مثقفو العراق، وإذا أضفنا إليهم أسماء الإعلاميين الذين قدموا حياتهم تضحية من أجل مهنيتهم ومصداقيتهم، وخدمة قضيتهم، فسنحتاج إلى ملاحق لتروي قصص هؤلاء الأبطال الذين لا سلاح لهم سوى كلمتهم في معركة غير متكافئة على الإطلاق، ففي الجهة، أو الجهات التي تقف ضدهم هناك مختلف أنواع أسلحة الفتك والدمار الأعمى.
كنا هناك، في بغداد، عندما عرفنا أن واحدا من أبرز الشعراء والكتاب العراقيين يقبع في سجن رث ومزدحم، ينحشر إلى جانب العشرات من المتهمين بجرائم قتل وسرقة، ذلك هو المثقف العراقي رياض قاسم الذي يناهز عمره السبعين عاما، حيث اتهم كيديا بجريمة قتل عادية سرعان ما فسرت وفق المادة «4 إرهاب» التي تبلغ أقصى عقوبتها الإعدام شنقا.
يوضح أحد المقربين من قاسم قائلا لـ«الشرق الأوسط» لقد «وكّلنا محاميا عنه، وأثبتنا للسلطات أن رياض قاسم لم يكن في بغداد، وحتى في العراق في تاريخ حادثة القتل المزعومة؛ إذ كان في لبنان يعمل مديرا لتحرير مجلة عراقية تصدر من بيروت، وهذا ما أثبتته وثائقه الرسمية، لكن مع ذلك استمر اعتقاله لما يقرب من شهرين مع أنه يعاني من أمراض في القلب ومن داء السكري».
أطلق سراح قاسم الذي يعد معلما لأجيال من الكتاب والصحافيين قبل أيام من كتابة هذا الموضوع، وبعد أن نظم المثقفون العراقيون حملة واسعة للوقوف معه، ترجمت مفرداتها على الصحف العراقية ومواقع الإنترنت، فخرج إلى فضاء الحرية بضحكته المجلجلة «لعدم ثبوت الأدلة ضده»، ومن غير اعتذار أو تعويض يستحقه لحرمانه من حريته التي يكفلها الشرع السماوي والأرضي، والدستور العراقي المتجاوز عليه من قبل المسيّسين باستمرار.
قصة قاسم هي نموذج لما يحدث وما يمكن أن يحدث للمثقف العراقي، ولأي مواطن عراقي كل يوم في بغداد وغيرها من المدن العراقية «في محاولة لاضطهاد وعزل المبدع العراقي عن مهمته الحقيقية في الوقوف مع شعبه وقضاياه»، حسب ما يوضح كاتب عراقي التقيناه في مقهى «الشابندر» في شارع المتنبي، مشددا على أن «مهمتنا اليوم هي ألا نتراجع، أن نواصل الكتابة والرسم والشعر والتصوير والتمثيل والعزف كي لا تضيع هوية البلد الإبداعية وسط هذا الضجيج والخراب المتعمد».
نتمشى مع الشاعر والكاتب الأستاذ الأكاديمي الدكتور مالك المطلبي في شارع المتنبي: «مع كل ما يحدث، أنا متفائل بأن العراق سيعيد بناء نفسه وإنسانه، فنحن اليوم نمر بمرحلة الثقافة المعادة صناعتها أو صياغتها، لكننا عندما نكون في قاعة المحاضرات بكلية الفنون الجميلة أو كلية الآداب مثلا ونستمع إلى نقاشات واستنتاجات الطلبة ونشاهد نتاجاتهم الإبداعية في الفنون التشكيلية أو المسرح أو الموسيقى، نتفاءل جدا»، ثم يشير إلى عشرات الآلاف من الكتب التي تتوزع فوق الأرصفة والزحام البشري الذي يؤثث شارع المتنبي يوم الجمعة، وينبهنا قائلا: «انظر، ألا يدعو مثل هذا المشهد إلى التفاؤل؟ وإلى انتصار الثقافة العراقية؟ هؤلاء الناس من مختلف الفئات الاجتماعية، كلهم يبحثون عن كتب معينة يريدون اقتناءها وقراءتها، هذا مشهد لا يتكرر في بلد وشعب مر بمحن مرعبة مثل ما مر به العراق».
المثقفون العراقيون أصروا على مواجهة أزماتهم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بقوة لا تدانيها اجتماعات وإخفاقات السياسيين العراقيين، فبينما كانت درجة حرارة أجواء بغداد تقترب من الـ56 مئوية، والفضاء ملغم بالتراب الناعم، كان هناك عدد كبير من المثقفين العراقيين يزدحمون في صالة العرض بجمعية الفنون التشكيلية القريبة من حي المنصور، قبالة متنزه الزوراء بجانب الكرخ، والمناسبة كانت افتتاح معرض تكريمي للفنان العراقي ناظم رمزي، وتحت عنوان «ناظم رمزي.. 50 عاما من الفن». هناك كان حشد من الجمهور الاعتيادي يقف متأملا الأعمال التشكيلية والفوتوغرافية لواحد من أهم التشكيليين والفوتوغرافيين العراقيين، والمبدع في فنون الطباعة على مدى نصف قرن، هو المبدع ناظم رمزي الذي كان يستمع من بغداد وعبر آلاف الأميال وهو في شقته بلندن، وعبر الهاتف لوصف لافتتاح المعرض من قبل تلميذه وصديقه الفنان مريوش، مع تحيات صوتية من أصدقاء لم يلتقيهم منذ أن ترك العراق قسرا في أواسط الثمانينات.
في جمعية الفنون التشكيلية، وهي واحدة من المؤسسات الثقافية النادرة التي تعاند الأحداث من أجل أن تبقى كمعلم حضاري بارز، كانت هناك ميسون الدملوجي، وكيلة وزارة الثقافة سابقا، وعضو القائمة العراقية والمتحدثة الرسمية باسمها، وهي السياسية الوحيدة التي تتابع النشاطات الفنية إلى جانب مفيد الجزائري، وزير الثقافة العراقية الأسبق وقيادي في الحزب الشيوعي العراقي. تنوه الدملوجي قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «أنا هنا ليس لأنني سياسية أو عضو في القائمة العراقية، بل لأنني واحدة من هؤلاء الفنانين»، وهي بذلك تذكرنا بأنها معمارية ورسامة وشاعرة لم تبعدها السياسة عن انتمائها الإبداعي الأهم من العمل السياسي، «فالعمل السياسي ينتهي، لكن الإبداع هو الأبقى» حسبما توضح.
كان العرق يتصبب من أجسامنا ونحن نتجول في أرجاء المعرض، فأجهزة التبريد ووسط ظهيرة بغدادية ساخنة وطاقة كهربائية عليلة لا تقدم إلا القليل من جهدها لقاعة واسعة مثل قاعة جمعية التشكيليين، ومع ذلك استمر جمهور المعرض في مواصلة تجوالهم ونقاشاتهم، كان هناك أيضا، مريوش، الرسام حسام عبد المحسن، والناقد التشكيلي عباس شلاه، والرسام قاسم سبتي، وأسماء كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
الفنانون التشكيليون العراقيون مصرون على أن يؤكدوا وجودهم على خارطة الحياة الثقافية العراقية والعربية، وحتى العالمية، حيث تقام في بغداد باستمرار معارض الفنون التشكيلية، خاصة في القاعات الخاصة؛ إذ «لم تتبق هناك أية صالة حكومية للعروض التشكيلية»، يؤكد الفنان التشكيلي قاسم سبتي الذي وجد في مغامرة افتتاحه لقاعته «حوار» للفنون التشكيلية «أفضل حل لدفع الآخرين لمثل هذه المغامرة من جهة، وكي نجد لنا فضاء نتنفس خلاله بعيدا عن أية سيطرة حكومية أو طائفية أو سياسية»، و«حوار» الواقعة خلف كلية الفنون الجميلة، سرعان ما تحولت إلى مركز ثقافي، وملتقى للمثقفين العراقيين.
ففي بغداد كانت هناك صالات عريقة للفنون التشكيلية تابعة لوزارة الثقافة، مثل المتحف الوطني للفن الحديث، وقاعة الرواق، وقاعة بغداد، وقاعة الرشيد، وصالات مركز صدام للفنون، الذي كان يعد واحدا من أكبر المراكز الفنية في العالم العربي، وتحول اليوم إلى مقر لوزارة الثقافة، إلى جانب صالات معهد وأكاديمية الفنون التشكيلية. يقول سبتي: «الدولة والسياسيون منشغلون تماما عن الثقافة اليوم، دعهم يوفرون الخدمات ويبنون المدارس ويهتمون بالناس، ومن ثم الثقافة، بالنسبة لنا نحن قادرون على مواصلة حياتنا وقضيتنا في الإبداع الفني».
هناك فنانون آخرون كبار حاولوا أن ينشئوا مراكز وصالات فنية، أمثال الفنان الكبير نوري الراوي، واحد من أبرز المثقفين العراقيين، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» عندما زرناه في بيته بحي الحارثية: «لقد قدمت مشروعا كبيرا لوزارة الثقافة لمساعدتي في إنشاء مركز لأعمالي الضخمة وأرشيفي الذي لا يماثله أي أرشيف عن الفن التشكيلي العراقي، لكن الرفض كان مصير هذا المشروع»، ذاكرا: «بعدها استأجرت منزلا كبيرا في شارع الشرطة قريبا من حي العدل وحولته بأموالي الخاصة إلى مركز وقاعة عرض تشكيلي، لكن أحد العاملين معي سرق أعمالي وزورها وراح يبيعها خارج العراق، حتى إني اشتريت في عمان بعض أعمالي الأصلية بألوف الدولارات».
أما الفنان التشكيلي فهمي القيسي، فقد أوضح قائلا: «كان لي مشغل وصالة للعرض التشكيلي في حي الكرادة (خارج) وقد أنفقت عليه ما يقرب من مائة ألف دولار، وأجبرتني الظروف الصعبة على التنازل عنه مقابل عشرة آلاف دولار، ليس لأسباب مالية، بل لأسباب تتعلق بالوضع الثقافي والاجتماعي العام، فنحن نعيش أوضاعا شاذة وغير طبيعية».
على مقربة من جمعية الفنانين التشكيليين تقوم مدرسة الموسيقى والبالية العريقة التي عادت إلى نشاطها بصورة تبشر بالخير، وإلى جانبها هناك مكتبة الطفل العامة، التي اضطرت «دار ثقافة الأطفال»، وهي واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية العراقية، إلى اتخاذها مقرا لها. وهذه الدار الريادية في العراق والعالم العربي لا تزال تعمل بنشاط «على الرغم من شح الإمكانات المادية» حسب ما يوضح الفنان التشكيلي عبد الرحيم ياسر، المعاون الفني لإدارة هذه الدار. يقول: «هذه الدار تأسست في نهاية الثمانينات على خلفية رئاسة تحرير (مجلتي) و(المزمار) للأطفال والفتيان، التي تأسست في نهاية الستينات لترفد الطفل العربي في جميع أنحاء وطننا العربي بالمجلات والكتب، وضمت رسامين وشعراء وكتاب أطفال متميزين، ولا تستغرب إن عرفت أن معظم الرعيلين الأول والثاني ما زالوا يعملون في الدار حتى اليوم، أمثال شفيق مهدي وصلاح محمد علي وعبد الإله رؤوف (متقاعد ويعمل من خارج المؤسسة) وعواطف علي ورمزية محمد علي، ونبيل يعقوب، وأسماء كبيرة أخرى، كما أن هذه الدار خرجت رسامين وكتابا يرفدون الثقافة العراقية بإبداعاتهم».
ويوضح الياسري الذي رفض ترك العمل والعراق في أكثر الظروف الأمنية والحياتية تعقيدا، قائلا: «هذا مشروعنا الذي يتوجه لأهم شريحة في المجتمع العراقي؛ الأطفال، ولا نريد التفريط فيه على الرغم من افتقارنا للإمكانات المادية بسبب الميزانية الضعيفة لوزارة الثقافة، وعدم اهتمام الحكومة بمثل هذا المشروع العملاق في جوهره».
«السياسيون العراقيون منشغلون عن الثقافة والمثقفين»، هذا ما يؤكده كاتب عراقي كبير لم يشأ أن نذكر اسمه، وقال: «أنا لا أتحدث لكم من باب الإعلام، بل لأدلي بمعلومات قد تكون معروفة، وغير واضحة أمام السياسيين»، مشيرا إلى أن «النظام السابق أراد أن يحول المثقف العراقي إلى بوق دعائي له، ونجح إلى حد معين في أن يجذب بعض من آمن بسياسة النظام أو المستفيدين، واليوم تسعى الكتل أو الأحزاب السياسية إلى الأسلوب نفسه؛ تحويل المثقف العراقي إلى بوق دعائي لهم، وزادوا في أساليبهم بأن حاربوا من لا يقف معهم، والغريب أننا نرى سيادة أنصاف المثقفين والجهلة في المواقع الثقافية المهمة، فالعراق بلد المثقفين والمبدعين، لكن الحكومات المتعاقبة لم تضع وزيرا للثقافة من بين أسماء المثقفين العراقيين، والوزارة ترضخ اليوم لسيطرة الطائفية والجهل»، ويزيد قائلا: «تصوروا أن الكتل الانتخابية والسياسية لا تضم أية أسماء مهمة من المثقفين العراقيين، هذا لأن السياسي العراقي، دائما مثلما كان، وسيبقى، يخشى المبدع العراقي، ويسعى إما إلى شرائه أو قتله، سواء كان قتلا فعليا أو معنويا، لكننا نعمل على التسلح بإرادتنا للبقاء في وجه هذه الحملات من أجل الثقافة العراقية الراسخة في شجرة الناس والبلد».