خطاب المخيلة |
المقاله تحت باب في السياسة في الاسابيع الماضية اكتشفنا جميعا أننا ملائكة ونعيش في مجتمع مثالي غير هذا المجتمع، وفي زمن واحد لا علاقة له بالماضي ولا بالحاضر ولكنه زمن مستقبلي بهيج، زمن متخيل منشَّط كل لحظة عبر خطاب يتجاوز التاريخ الى تاريخ خاص، لا علاقة له بتاريخ الانسان بل يتجاوزه الى تاريخ مبتكر: الخطاب السياسي هذه الايام هو وعد تأسيسي بولادة العراق الجديد والانسان الجديد، كما لو أننا بلا سلالات ووقائع وأرحام بل نولد من صناديق الانتخابات ونحن نحمل قناني الماء النقي والمصابيح المضيئة والطرق النظيفة والحقول المروية حسب أحدث وسائل التقنية. خطاب المخيلة هذا يتحرك في كل الاتجاهات ويتدحرج على كل الطرق لأنه خارج كل قوانين اللغة والمعرفة والحياة والسياسة: هو خطاب تغذية، وبلغة الطب انعاش أو الصدمة في اللحظة الأخيرة: هو خطاب اليأس والنكوص والفراغ، ومن المعروف ان الخطاب النكوصي اليائس بلا قوانين ولا ثوابت ولا أسس معرفية ولكنه يحمل صفة الضباب، أي المضي في كل اتجاه، إلا في اتجاه الوقائع الصلبة: ففي مواجهة خطاب العنف يجري حقن اللغة بخطاب ملائكي، وتعمل وسائل انتاج الخيالات غير المسؤولة على صبغ المستقبل باللون الوردي مما سيشكل صدمة وشيكة قادمة، ويؤكد على ان المسلكيات المعروفة في السياسة العراقية والذهنية الاباحية المبرقعة بكل الاخلاقويات الفجة لا تزال فاعلة وقوية ومنيعة ومؤثرة، وتؤكد أيضا على أن جهاز الاستقبال النفسي المنهك من وعود التاريخ الغادر مستعد لالتقاط الخطابات المشحونة بالأمل التائه والضبابي. هذه الأيام عرفنا اننا نحتاج الى ماء صالح للشرب ونحتاج الى ملابس لائقة ومصابيح وطرق مواصلات وعمل وقضاء نزيه وشرطة وسيادة وحدود آمنة ومراعي عشب خضراء يسرح فيها الحمل مع الذئب في جوار خارج أخلاق الذئب وغرائزه وخارج مخاوف الحمل وتاريخ العض. فجأة تحولنا جميعا الى نقاد حداثة وخلعنا عباءة الثأر وأخلاق الوقيعة، وانتقلنا من بنية الخيمة وعادات الضغينة الى قنوات التلفزة كحواريين ملائكة، ولم يعد أي شيء يشبه أي شيء آخر سابق: لا سابق لنا جميعا ولا تاريخ ولا شبه، لا اسماء ولا أفعال ولا وجوه بل مخلوقات هبطت، في لحظة وحي بشري منفلت، الى أرض محروقة بالصواعق والأحقاد والنهب والاستباحة لنقيم حفلا فريدا من نوعه في تاريخ بلد لم يعد موجودا لا كتاريخ ولا كبلد، بل مغارة ـ مغارة فحسب ويمكن وضع نوعية النزلاء حسب المزاج. لم نعد نؤمن بالسجون والتشابه والعنف والسلاح والحقد الأصفر المعتق والعنصرية والطائفية والعرق واللغة والظلام والماء "الخابط" ولا بأطنان النفايات ومستنقعات الجيف ولا بالدكتاتورية ولا بالتعددية الانتقائية، لسنا من الشرق ولا من الغرب، ولكننا، حسب خطاب المخيلة البهيج، كائنات تولد من حروف الخطابة ومنصات الخطاب وعطور المرشحين، وكلنا نؤمن، كما كنا نؤمن عبر كل العصور، بالاختلاف والحق والعدالة والفردية والضمان والقانون والمصير والحرية والسيادة والكرامة ـ ولكن كل واحد من هذه المفاهيم له دلالة غير ما تعرفه البشرية وتاريخ اللغات والفلسفات والمعرفة. نحن نفسر كل شيء عبر المنصة لا من قبل ولا من بعد. ولماذا الماقبل والمابعد ونحن نخرج من أرحام الخطاب، تواً، كما ولدتنا أمهاتنا، أحراراً نمر عبر الأزمنة بحرية الخوازيق ودقة الرصاص؟ في خطاب التعبئة والتجييش والهتاف تتشابه الأشياء تشابه البقر ولا يعود الغريق يسأل عن أخلاق المنقذين لأنه مشتت ومنهك ومهووس بفكرة الانقاذ، ثم تأتي الصدمة من بعد لكي نكتشف في يوم ليس بعيدا أن خطابات بيع الوهم كأحاديث الحشاشين تحوِّل المستنقعات مرقاً والقصب ملاعق. بهذه الطريقة يصبح الخيال الواهم هو الواقع الحقيقي الوحيد، ويصبح الارتياب المتوحش المتجذر وهماً، وتتلاشى، عبر الخطاب، كل بحيرات الدم لتصبح حدائق، ومن لا يصدق ذلك خارج التاريخ ـ تاريخ وسائل انتاج الوهم وخطابات اللغة. اليوم عدنا الى زمن الخطاب ـ الاسطوري، الزمن غير الواقعي، الزمن المتعالي على الحقيقة، والخالق حقيقته الخاصة، وخطاب الاسطورة هو اعادة انتاج للمذبحة المستمرة، ونفي العقل والحداثة والعلم والمعرفة، وفي زمن الاسطورة يأتي المنقذون من كل الاتجاهات وكل الأزمنة ومن السراب ، ولكنهم يأتون فقط عبر المخيلة: دخلنا في زمن النصوص المقدسة الجديدة، المفسرة كل شيء، لكن خارج قوانين السببية والماضي والحاضر وكل تاريخ هذا البلد وتاريخ المعرفة، لأن الخطاب الأسطوري لا يحتاج الى عقل بل الى خيال، ولا تنشطه المعرفة بل الغريزة والأمل والخلاص. فينا من قرأ حكاية الثعلب الذي قرر الذهاب الى الحج والتوبة عن أكل الدجاج والعودة بتاريخ جديد خارج تاريخ العض والمطاردة، العودة بأصل مختلف وجسد مختلف وذهنية مختلفة، خارج كل القوانين، وحين ركب القارب ووضع المسبحة في يده والعباءة على كتفه، ذهلت دجاجة على الشاطئ من هذه التقوى الطارئة لكن الثعلب، منشط خيال الخلاص وفكرة الانقاذ من الجوع والخوف، قال لها إنه تاب توبة نهائية وصدقت المسكينة ونست قاعدة بسيطة يعرفها الرعاة: "إن عقل الثعلب في أنيابه" وخطابه الحقيقي في مخالبه، وأنه ليس ذاهبا الى الحج بل الى المجزرة، وهذا القارب لا يسافر الى الحج في نهر بل في بحيرة دم. |