البصرة: سلبتها الميليشيات حريتها..يملأها الجفاف.. والتلوث يكاد يفتك بكل شيء

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
11/02/2010 06:00 AM
GMT



سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.
سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.
ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم أن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟
«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.
بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).
وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». مداخل البصرة كثيرة، ومتعددة الوسائل، فقد كانوا يدخلونها عن طريق النهر نازلين إليها من بغداد حيث تمضي مياه دجلة إلى جنوب البلاد، وكذلك الفرات، حتى يلتقيان في مدينة القرنة شمال المدينة، هناك تقف شجرة سيدنا آدم، شجرة السدر.. وتقول الأساطير إن آدم وحواء هبطا من الجنة عند ملتقى النهرين، أو عند ما كان يعرف بجنة عدن، وهي الأرض نفسها التي انطلق منها الملك السومري جلجامش في رحلة بحثه عن الخلود.
من بغداد كان السندباد البحري يبحر إلى الدنيا من خلال البصرة، حسبما جاء في حكايات «ألف ليلة وليلة»، فهذه المدينة هي ميناء العراق الوحيد، وبوابته نحو بحور العالم، لهذا حملت تسمية «ثغر العراق الباسم».
أو ندخل إلى البصرة عن طريق البر، ومن خلال بساتين نخيلها التي كانت عامرة حتى أوائل الثمانينات، قبيل أن تشتعل الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم حروب الخليج، وتحرق معها الملايين من أشجار النخيل، فحسب الإحصائيات الرسمية كان في البصرة وحدها ما لا يقل عن 22 مليون نخلة من مجموع 30 مليون نخلة في العراق كله، بينما اليوم لا تضم بساتين المحافظة سوى 4 ملايين نخلة.
وبين بغداد والبصرة (586 كيلومترا) طريق بري حديث يمكن قطعه في أقل من خمس ساعات، ويمر على جميع المحافظات الجنوبية من غير أن يدخلها، مثل الكوت والناصرية والعمارة، وحسب تأكيدات جهات رسمية، وغير رسمية، فإن هذا الطريق أصبح آمنا تماما بعدما كان مصيدة تستخدمها العصابات المنظمة والميليشيات المسلحة لخطف المسافرين أو قتلهم.
هناك أيضا قطار تعبان يجرجر عرباته، أو ما تبقى من عرباته المتهالكة منذ ما يقرب من نصف قرن، نازلا إليها من بغداد بزمن يتجاوز الساعات العشر في الحالات الطبيعية، هذا هو القطار الذي يطلق عليه أبناء الجنوب تسمية «الريل» والمأخوذة من اسم القطار باللغة الانجليزية، وهو القطار ذاته الذي كتب فيه الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب قصيدته الشهيرة «الريل وحمد».
يصل القطار محطة المعقل المبنية منذ عهد الاستعمار البريطاني بعد أن يكون قد مر وتوقف في عشرات المحطات المهمة وغير المهمة، مجتازا مناطق الأهوار في الجنوب، في خط سكك حديد قديم هو من مخططات مجلس الإعمار الذي كان يترأسه نوري السعيد رئيس أكثر من حكومة في العهد الملكي.
لكن بالإمكان وصول بغداد عن طريق الجو، فهناك رحلة جوية يومية بين العاصمة والبصرة، وقبيل الهبوط في مطارها تبدو المدينة وكأنها تغرق وسط غابات النخيل، فلا تتبين منها أي معالم إلا بعد أن تكون فوق الأرض، لكن غابات النخيل انحسرت مساحاتها أمام اتساع مساحات خربة، حيث لم تتقدم الزراعة ولم يتطور العمران.
ربما كان مطار البصرة الدولي هو أحدث منشأ تم بناؤه في هذه المدينة الأغنى على الإطلاق في العراق، فهي بالإضافة إلى احتواء أراضيها على أضخم مخزون احتياط من النفط، فهناك الموانئ التي تدر أموالا كبيرة على خزينة المدينة التي يعيش غالبية سكانها في مستوى أقل ما نقول عنه إنه يبدو «مزريا».
مطار البصرة هو أكثر المنشآت التي تمت المحافظة عليها، بالرغم من الحروب التي مرت على البصرة، فهو يبدو في كامل تأهبه وتأهله لاستقبال الطائرات العملاقة.. نظيف ومرتب تماما مثلما افتتح، فقد ارتبط تاريخ افتتاحه بنهاية الحرب العراقية الإيرانية، 1988، ولا يزال محافظا على منشآته بالرغم من النواقص التي تحدث عنها مديره فيما بعد.
غير أن هذه البصرة ليست التي بناها الأمير عتبة بن غزوان بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب كأول حاضرة يعمرها الإسلام خارج الجزيرة العربية عام أربعة عشر للهجرة، الموافق لعام 636 للميلاد، فالبصرة القديمة لم يتبق منها سوى آثار جامع الإمام علي عند مدخل مدينة الزبير التي تبعد مسافة أقل من 30 كيلومترا إلى الجنوب من مركز المدينة.
وهي ليست البصرة التي كانت تحتضن قبل قرون أكبر سوق شعرية عند العرب «سوق المربد» بعد سوق عكاظ، وهي ليست المدينة الساحرة التي ورد وصفها في حكايات السندباد، أو على لسان عشرات الرحالة العرب والغربيين الذين مروا وعاشوا بها، وبقصورها التي كانت تطل على نهر الأبلة. وإذا كان المنطق الطبيعي للحياة يقضي بأن تتقدم المدن وتزدهر، فإن ما حدث لمدينة البصرة هو العكس من ذلك تماما، فالبصرة بقيت تتراجع من جميع النواحي حتى تحولت اليوم إلى مدينة خربة تماما بالرغم من أن نفطها هو الذي يزود خزينة العراق بأضخم الموارد المالية.
وكانت البصرة عام 1988، قد تحولت وقتذاك إلى ورشة عمل جبارة، في محاولة من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لإعادة إعمارها بسبب الخراب الذي تسبب فيه قصف المدفعية الإيرانية شبه اليومي خلال الحرب العراقية الإيرانية، والحملة، لكن لم تسفر هذه المحاولة سوى عن بناء القصور الرئاسية على ضفاف شط العرب، وتجديد شارع الكورنيش الذي تم زرعه بمجموعة من التماثيل التي تمثل ضحايا الحرب من الضباط والجنود وهم يشيرون إلى جهة إيران باعتبارها العدو الأكبر للعراق، وقتذاك.
وإذا كانت هذه المدينة قد تعرضت للكثير من المحن على مر التاريخ، وأخطرها حصار البصرة الشهير الذي أجبر الناس على أكل الحيوانات والجلود، وثورة الزنج، وويلات الحكم العثماني، فإن أشد القرارات خطورة التي اتخذت بشأنها في عهد النظام السابق عندما قرر صدام حسين تهديمها وبناء مدينة أخرى تنحسر إلى الصحراء في شمال موقعها الحالي وتسمى بـ«صدامية البصرة»، ويكون بذلك قد ألغى تاريخا من الأحداث والأسماء والأشخاص والإنجازات الإبداعية الكبرى.. بل يكون قد ألغى اسم أول حاضرة بناها الإسلام، واسم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، الذي أمر ببنائها.
وتحمل مدارس البصرة في غالبيتها أسماء أعلام المدينة، أمثال البحتري والجاحظ وعتبة بن غزوان والسياب وأبو الأسود الدؤلي والأصمعي، أما أنهارها فتستمد عناوينها من أسماء المناطق التي تمر بها، مثل نهر العشار والخندق والخورة ومهيجران وحمدان والسبيليات، ففي البصرة كانت توجد أضخم وأكبر شبكة أنهار وسواقٍ تتفرع من شط العرب وتعود إليه وتتغذى بالمياه حسب نظرية المد والجزر لاتصال شط العرب بالخليج العربي، وبسبب أعداد أنهارها وسواقيها سميت ببندقية الشرق.
إلا أن المصيبة الكبرى هي أن غالبية هذه الأنهار طمرت بالمخلفات، وتحولت إلى بؤر للنفايات والأمراض، بينما هناك أنهار أخرى لا تزال تقاوم من أجل أن تبقى بساتين النخيل على قيد الحياة. والنهر الذي يشق طريقه بين بساتين النخيل يطلق عليه أهالي البصرة اسم «الشاخة». كما جفت هذه الأنهار نتيجة تحويل السلطات الإيرانية لمجاري أنهارها التي كانت تصب في شط العرب، ولشحة المياه في دجلة والفرات، وزاد من المشكلة أن مياه الخليج العربي المالحة حلت مكان المياه العذبة التي كان يتغذى بها شط العرب، وهو ما أدى إلى موت الكثير من بساتين النخيل وتحويلها إلى أرض جرداء تمهيدا لتصحرها.
الخراب والتلوث البيئي دفع نيرمين عثمان، وزيرة البيئة، إلى عقد أكثر من مؤتمر يناقش هذه الأوضاع ويسارع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة بشرية وزراعية في البصرة، كما افتتحت بناية مديرية البيئة في المحافظة والتي تضم الكثير من المختبرات المتخصصة «آملة في تعاون جامعة البصرة ومجلس المحافظة مع وزارتنا لتحقيق أهدافنا في الحصول على بيئة نظيفة».
ويشكو طه ياسين القريشي، مدير بيئة محافظة البصرة، من أن «مديريته لا تمتلك إمكانيات تخولها تنفيذ مشاريع لتطهير بيئة محافظة البصرة من الملوثات»، مشيرا إلى أن «مديرية البيئة هي جهة استشارية وليست تنفيذية، وهي غير قادرة، في ضوء الإمكانيات المتاحة، على تذليل التحديات البيئية الخطيرة، لكنها تحرص على تشخيص المشاكل البيئية، ومتابعة مراحل تطورها على أمل معالجتها مستقبلا».
وفي محلة الباشا، التي كانت خلال الستينات من القرن الماضي واحدة من محلات البصرة السكنية المتميزة بعمارة بيوتها وبالعوائل البصراوية التي تقطنها، وبمسجدها الذي يتميز بمنارتيه (الجامع أبو منارتين)، إذ كان من النادر وقتذاك بناء مساجد بمنارتين، وبعدد الكنائس التي تؤثث هذا الحي، كنيسة الكلدان، كنيسة الأرمن، كنيسة القلب الأقدس، وثمة كنيسة كان يرتادها رعايا إيطاليون، لم يكونوا يسمحون لأطفال الحي بدخولها، لكنها عندما تفتح أبوابها قليلا لدخول أو خروج أي شخص كانت تظهر في حديقتها بعض المنحوتات الجميلة، وفوق جدرانها رسومات كنائسية، وغالبية هذه الكنائس قد تهدمت بفعل عوامل الزمن الأمنية والطبيعية.. في محلة الباشا هالنا ما آلت إليه البيوت من أوضاع الخراب والتهديم. فالشناشيل الجميلة التي كانت تميز بيوت هذه المحلة والمحلات السكنية الأخرى بدت خربة تماما، أما النهر الذي كانت مياهه تفيض وتصل إلى عتبات البيوت وتتحول عندها هوايات الناس لصيد سمك (الصبور) الذي تشتهر به البصرة وبسهولة، فقد جفت مياهه وتحول إلى أسوأ مكب للنفايات من حديد وأخشاب وأزبال وفضلات المصانع.
اقترب منا رجل تجاوز الستين من عمره، يحتفظ بوقار وأناقة تدلان على أنه كان يشغل وظيفة متميزة، كان مديرا لمدرسة البصرة الابتدائية، قال محاولا أن يخفف من شدة مأساوية البصرة «هذا النهر كان متدفقا بالمياه ومنظره غير هذا»، ثم صمت وقال «كيف يمكن لبشر أن يعيشوا في ظل هذه الأوضاع؟». ثم انسحب متمشيا بهدوء نحو زقاق ضيق.
في النهار، ومنذ ساعات الصباح الأولى، تزدحم الشوارع بمختلف أنواع السيارات، حيث تتداخل السيارات القديمة مع سواها الأحدث موديلا وصناعة.. تمر ببيوت متهالكة وأخرى آيلة للسقوط، فالبصرة اشتهرت معماريا بطراز خاص يميزها وهو الشناشيل، وكانت شبابيكها الخشبية المزينة بالزجاج الملون والتي ترسم على الجدران الداخلية للبيوت لوحات لونية عندما تخترق أشعة الشمس تلك الشبابيك (الشناشيل)، بينما اشتهرت سقوف بيوتاتها التقليدية بشغل الزجاج المزخرف بالأشكال النباتية.
واجهات الشناشيل تتيح لمن في الداخل، النساء غالبا، الجلوس ومشاهدة الشارع من غير أن تتيح العكس، أي مشاهدتهن من الخارج، كما أنها وسيلة بيئية لتكييف البيت إذ تهيئ هذه الشبابيك المصنوعة يدويا من الخشب دخول أكبر كمية من الهواء إلى البيت لتخلق تيارا يدور عموديا عندما تخرج من الفتحة الوسطية في السقف.
لكن غالبية البيوت التراثية التي تمثل مجد البصرة معماريا واجتماعيا صارت متهالكة، شبابيك كالحة ومحطمة، وجدران أكلها الزمن من غير أن تمتد لها يد التعمير والبناء. يصف سائق سيارة الأجرة (أبو حسن) مدينتهم بأنها «مثل الجمل، يحمل الذهب فوق ظهره ويأكل العاقول»، ويستطرد «إن مدينتنا تقع على أهم ثلاثة أنهار في العراق، دجلة والفرات وشط العرب، إلا أننا نشكو العطش، ونشتري المياه، إما في قنان بلاستيكية أو من الصهاريج».
ولدى سؤاله عن سبب خراب الأبنية وتهدم القسم الكبير منها، يجيب على الفور، قائلا «منذ الحرب العراقية الإيرانية والبصرة تتعرض للخراب، ففي عام 1988 كانت هنا حملة إعمار قادها صدام حسين بنفسه، لكن هذه الحملة توقفت بعد عامين عندما اشتعلت شرارة الانتفاضة من البصرة وتعرضت المدينة وأهلها للعقوبات البلدية والسياسية، وتم إهمال كل شيء بما في ذلك مشاريع الماء والكهرباء والإعمار وبقية الخدمات».
ليس من السهولة العثور على فندق آمن ونظيف للمبين فيه، دليلنا قادنا إلى فندق يقال إنه من فئة النجوم الخمس، وتوجد نقطة حراسة عند بوابته، كان الفندق خربا، ربما تحتاج إلى عبوة سعة لتر واحد من الديتول المركز وشراشف لكي يكون بإمكانك النوم فيه.
سألنا عن فنادق أخرى، قالوا، هناك فندق ممتاز لكنه تحول إلى مصيدة للغرباء، إذ تم اختطاف أكثر من صحافي منه، وكان صحافي بريطاني قد تحول إلى أحد ضحايا (العلاسة) الذين يعملون في الفندق ويبلغون عصابات الخطف عن كل غريب ينزل في هذا الفندق. فندق آخر يبدو من الخارج أنيقا لكنه بلا مولدة للطاقة الكهربائية.
كان فندق شط العرب الملاصق لبناية مطار البصرة القديم والمطل على نهر شط العرب واحدا من أرقى فنادق البصرة، والعراق، حيث بني مع إنشاء المطار من قبل شركة بريطانية، لكن هذا الفندق انهار مجده خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما تحول إلى هدف للمدفعية الإيرانية.
ثم تم بناء فندق شيراتون على كورنيش شط العرب وفق أسلوب معماري جميل للغاية، لكنه احرق خلال انتفاضة مارس (آذار) 1991 ثأرا من الحكومة. المنتفضون أكدوا أنهم لم يتقربوا من الفندق، وأن هناك جماعات عبرت شط العرب جاءت من خلف الحدود وأحرقت مؤسسات الدولة بما فيها أبنية جامعية وكذلك الفندق.
لا توجد بناية حديثة واحدة في هذه المدينة التي يفترض أن تكون واحدة من أجمل مدن العراق، بل على العكس، كل شيء تراجع بشكل يثير الأسف، دور العرض السينمائي «أطلس» و«الوطن» و«الحمراء» وغيرها، اختفت من خارطة المدينة، كانت هناك نسخة من تمثال أسد بابل تتوسط ساحة تحمل اسمه في العشار، المركز التجاري للبصرة، نسفها المتطرفون الشيعة باعتبارها ضد الإسلام. لم يتبق سوى تمثال الشاعر البصري بدر شاكر السياب، منزويا في ركن قصي من كورنيش شط العرب، مهملا وبلا إضاءة ولا أدنى اهتمام، وعلى حد تعليق الفنان التشكيلي أحمد السعد، فإن عدم الاهتمام بالتمثال ربما جعله منسيا وبعيدا عن عيون المتطرفين.
كان هناك عدد كبير من التماثيل البرونزية لقادة وضباط وجنود قضوا في معارك الحرب العراقية الإيرانية دفاعا عن البصرة، فأمر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بوضع تماثيل لهم تخليدا لذكراهم على ضفاف شط العرب وهم يشيرون إلى الضفة الأخرى من الشط باعتبار أن إيران هي عدوة العراق، لكن هذه التماثيل تم تهديمها ورميها في النهر أو بيعها لمصاهر البرونز من قبل جماعات سياسية موالية لإيران، وتحولت منصات التماثيل إلى مواقع يسترخي عليها أبناء المدينة وعشاقها.
ثمة نحت أبيض بارز يطل على شط العرب وهو تجسيد للفظ الجلالة (الله) من إبداع الفنان أحمد السعد، ويبدو أن هذه هي الطريقة المثلى التي تمنع المتشددين من تهديم الأعمال الفنية.
السعد يمضي يومه بالعمل في مشغله الخاص المطل على شارع الجزائر، واحد من أشهر شوارع وسط البصرة الراقي، يعمل منذ الصباح وحتى المساء، وفي الليل يتحول مشغله إلى ملتقى لنخبة من مثقفي البصرة، كتاب وفنانين وشعراء يتداولون همومهم من غير أن يتوصلوا إلى حلول.
يقول السعد لـ«الشرق الأوسط» بينما كان يحتسي شايا بصراويا في شرفة مشغله، إن «هذا المشغل الذي أسسته منذ سنوات طويلة هو ملاذنا الآمن، ليست هناك أماكن نلتقي فيها، لا توجد منتديات أو قاعات أو نقابات تجمعنا، والمقاهي ليست أماكن مناسبة للقاءاتنا ولا تستوعب نقاشاتنا».
السعد الذي بدأ مع الفنون التشكيلية، النحت والرسم والخط، وكذلك مع الشعر، منذ أن كان في الدراسة الثانوية، كبرت موهبته معه وصار ينجز أعمالا فنية كبيرة ومهمة، يوضح «ليس هناك الكثير من الناس الذي يفهم مهمة الفن والفنان، وحتى المسؤولون، لهذا نرى قلة الأعمال الفنية في المدينة وكذلك ندرة المعارض الفنية أو الأمسيات الشعرية». ويستطرد قائلا «لكن الحمد لله نحن الآن نستطيع أن نخرج ونعبر عن آرائنا، فالحياة تعود إلى المدينة تدريجيا، وهذا قد يعيد البصرة كحاضرة مدنية وثقافية إلى سابق عهدها».
يتدخل مصطفى عادل، مهندس نفط، قائلا «ليس لأدباء البصرة وغيرهم سوى بيوتهم يلوذون بها بعد أن كان يجمعهم في السابق مقهى البدر ومقاه أخرى تطل مباشرة على شط العرب، كما كانت نوادي الميناء والنفط والفنون والمعلمين والجامعة تشكل ملاذات آمنة ومريحة للعائلة البصراوية من جهة ولاحتضان ورعاية النشاطات الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، لكن بعض مقرات النقابات والنوادي سيطرت عليها أحزاب متشددة وصارت مقرات لهم حتى إننا صرنا نخشى الذهاب إلى نوادينا». ويقول الكاتب (البصراوي) محمد خضير، إنه لا مكان للقاء سوى البيت، فهو الملاذ الوحيد، ويضيف «لا أخرج كثيرا، أكاد لا أغادر البيت».
ولدى المرور بسوق العشار، أو كما يسمى بسوق (الهنود) كون الهنود كانوا يبيعون فيه التوابل الشهيرة، قد يتذكر المرء ما قاله الشاعر الإنجليزي الشهير (ملتون) «من سوسانة إلى جنة البصرة، تتوق فيها روح السندباد من حين إلى آخر للإبحار وسماع الأخبار الجديدة.. تزخر بالقنوات.. كانت سريعة الشهرة باعتبارها واحدة من أكبر وأهم المدن في الشرق الأوسط.. شيدت على الضفة الغربية لشط العرب.. بلغت قمة الازدهار في عدة عصور وكانت أسواقها تعج بالكثير من البضائع المختلفة المنشأ والأهداف والأنواع..».
فالبصرة كانت تشتهر بأسواقها المسقفة (القيصرية) والتي كانت تتشعب، وكل سوق كانت تتخصص في نوع من البضائع. وسوق الهنود، التي سميت لاحقا بسوق الصيادلة، أو سوق المغايز، هي الشريان النابض بالحياة لكثرة ما يعرض من بضائع، ولتعدد معروضاته من ملابس وأجهزة منزلية وأجهزة كهربائية، ويشكل امتدادها سوقا لصاغة الذهب والفضة، إذ كان الصابئة هم أشطر من برع في هذه المهنة، وكادوا يحتكرونها بالوراثة.
ومثل غالبية المدن الأصيلة، والتي لها أسواق تفتتح في العطلة الأسبوعية، وهي أسواق شعبية في الغالب ويفترش باعتها الأرض لعرض موادهم، ففي البصرة هناك سوق الجمعة، التي يدلل الاسم على معناها، أي لا تقام إلا يوم الجمعة، فهذه السوق كانت تقع في محلة المشراق في البصرة القديمة، واليوم صارت تحتل بقعة خلف سوق الصيادلة. ولسوق الجمعة تقاليدها وقوانينها وروادها من الباعة والمشترين، والباعة فيها يعرضون كل شيء تقريبا، مستعمل وجديد، وكل ما تتخيله من حاجيات، وكل ما تحتاجه وما لا تحتاجه من مواد، وكل ما يخطر وما لا يخطر بالبال.
إلا أن واحدة من الأسواق التي كانت مشهورة هي سوق البنات، التي تعتبر السوق المركزية للكماليات النسائية، وتعرض أغلب محالها السلع الكمالية النسائية من ملابس وإكسسوارات وأحذية وحقائب ومواد تجميل، وللأسف كانت هذه السوق قد تعرضت خلال حرب الخليج الثانية إلى تدمير كامل، حيث لم يبق من محالها البالغة مائة وخمسين محلا غير محلين فقط، وتم بعد ذلك إعادة إعمارها رغم أن الحركة التجارية فيها اضمحلت خلال فترة الحصار الاقتصادي في التسعينات لأن جميع مرتادات السوق كن من الطالبات والموظفات والعرائس.
وتشهد السوق حاليا نشاطا اقتصاديا وإقبالا كبيرا على الشراء، وساعد ذلك دخول بضائع مستوردة جديدة، بالإضافة إلى كثرة الزوار الأجانب الذين يكثرون من شراء السلع من هذه السوق.
هناك أيضا، سوق السمك وسوق الخضار وسوق المقام، وأسواق أخرى تنتشر ما بين البصرة القديمة والعشار.