رواية التل - من الموت الى الحب

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
21/11/2009 06:00 AM
GMT



" رعاة جبال الكاربات ـ الرومانية ـ أحدثوا فيّ انطباعاً أكبر بكثير من الاساتذة الألمان أو المراوغين الباريسيين".
ـ الروائي أميل سيوران.
 
رواية سهيل سامي نادر(التل) لن تمر بسرعة على التاريخ الروائي العراقي حتى لو كان الامر يبدو كذلك بناءً على نظام ثقافي معروف يكون التجاهل فيه نوعا من العلم، لأن التجاهل لا يعني عدم المعرفة بل هو المعرفة السلبية، أو وجه المعرفة الأكثر قبحاً. ومع ذلك فهذه الرواية التي كان كاتبها خارج الحفل العام، وساردها أيضا خارج الحفل العام، وخارج الاعياد، لأن العيد يعني تقديم مصالحة مع الجميع ثمنها الاذلال وهو غير قادر على ذلك في لحظة محددة من حياته، غير قادر حتى على ارتداء ثياب العيد لهذا السبب، هذه الرواية ستكون حاضرة لزمن طويل في ذاكرة القراء، لأن هذه الرواية المختلفة من كاتب مختلف تأتي تتويجا عراقياً على أن الرواية هي نص الاختلاف وليس المتشابه. في التقليد الثقافي البائس المستمر، يعتبر المختلف انحرافاً، والمتشابه، اي المندمج، هو النموذج، وهذا يناقض تاريخ الادب والفن، ومن قرأ في السنوات الأخيرة ما كُتب عن بعض الروايات العراقية يجد أنها تتحدث عن كل شيء الا عن الرواية، بل تقترح بعض تلك الترّهات، علنا، وبصفاقة استثنائية، يشجعها الفراغ الاستثنائي النقدي، رواية مكتوبة حسب المزاج. ليست الرواية، حسب هذا التصور، ما يريد الروائي أن يكتبه، بل ما يراد له أن يكتب، وهو شكل من أشكال سلطة الجهل غير المدرك لنفسه في أفضل احتمال. هل هي أقدار، مصادفات، قوانين، مفارقات ساخرة، أن ينتقل الروائي العراقي من تفاهة السلطة الى سلطة التفاهة؟
 
"التل"رواية تخلق عيدها الخاص وتتقدم بهدوء الى القارئ الواعي ولا تقترح عليه قراءة، بل لا تقترح شيئاً لكنها تبوح، ومنذ السطور الأولى يشعر القارئ أنه أمام رواية شائكة ودخانية وضبابية لا تسمح بالدخول السهل، وربما يكون هذا هو السبب الذي جعلنا نتراجع ثلاث مرات عن قراءتها، وحتى هذه المراودة بدت نوعا من المتعة: متعة الدخول الى نص ممتنع: السهل والسامي والنادر، والمركب وغير المألوف. والصوت المنبعث من السارد أو الراوي هو صوت أقرب ما يكون الى الهمس أو البوح: السارد لا يتكلم حين يتكلم، بل يهمس ويوميء ويوحي ويشير ويقطع فجأة السياق في تحد لـ ( رواية المثقفين) المعروفة بالمجاهرة والخطابية والتزامن المنطقي المتسلسل، لأنها اعتمدت لغة سردية صافية ونقية ونقلت الرواية من الأمكنة المعروفة في الرواية التقليدية كالحانات والمقاهي وغرف الدخان الى الصحراء والأفق.
 
في هذه الأمكنة المتحولة يكون التداعي نقيضا للتسلسل والتراتبية والتتابع لأن التوتر الداخلي يلغي السببية ويحل محلها التدفق المتقطع للصور والكلمات، وهذا القطع العرضي  للصور الداخلية  المشتتة سواء كان منضبطا أم لا، فهو يمنح المشهد شكلا مضافا ودهشة اللامتوقع، لأن التسلسل لا يأتي من التتابع وحده بل من التوتر وتوالد الاحاسيس، وشكل هذه الرواية وحده يتطلب دراسة خاصة ومن عقل محايد غير مجروح، وهذه القراءة تقترح ولا تحدد وقد تكون أو لا تكون مفاتيح هذا الشكل الذي هو جزء جوهري من اخلاقيات الروائي والرواية.
 
لكن من وضع الراوي في هذا الموقف؟ البناء السياسي والاجتماعي أم البناء اللغوي؟ ففي سياق روائي آخر ستأخذ الوقائع وجهة أخرى حتى لو تماثل البناء النفسي والفكري لهذا المثقف الراوي منقب الاثار والباحث في الحفريات عن آثار الماضي، وفي الوقت نفسه يعيش في عزلة لا ترافقه فيها سوى الابنة ليلى طالبة الطب في زيارات مستمرة بينه وبين الأم المنفصلة، ورغم اجواء العمل خلال حفر التل الا ان العزلة تتراكم وتنغلق أكثر عدا بعض الجمل الحوارية العملية العادية بين زملاء واصدقاء العمل التي لا تشرح شيئاً كما لو ان وظيفة اللغة لم تعد التواصل بل تعميق القطيعة والنفي والعزل والتحاشي والتجنب، لكن في مواجهة التل حين يكون وحيدا في الفجر أو في الليل ينفتح حوار آخر بين الراوي والتل، بينه وبين التراب، بين الحاضر والماضي، ومن خلال هذا الحوار نعرف ما يدور أو بعض ما يدور في أعماقه وقليلا أيضا نفهم ما في أعماق التل من آثار وابواب وجدران وهياكل وكتب وحوادث حقيقية أو متخيلة: هل جاء الى هذا التل للحفر فيه هربا من أمر ما؟ وما هو؟ يقول: (من هنا كنت دائم التطلع للأفق كأني أريد القيام بهرب جديد، لكن أين الفرار هذه المرة؟). ما هو الهرب القديم؟ لا نعرف لكن علينا أن نكتشف.
 
الناقد المغربي الدكتور محمد برادة يؤكد على هذه البنية السردية المتوازية، فيقول:(أول عنصر يلفت في هذه الرواية، بنيتها العامة القائمة على التوازي والمراوحة بين حكايتين أو مسارين يلتقيان عند السارد ـ الحكاية الأولى رحلات السارد الى تل الزعلان للإشراف على بعثة أثرية تنجز حفريات واسعة لاستكشاف دفائن اسلامية تعود الى الف سنة ـ والحكاية الثانية تتصل بقصة مطلقته" فاتن" وتعلقه بإبنتهما ليلى ـ غير أن هذا التوازي ما هو إلا مظهر تأطيري لبنيتين عميقتين تنتسج خيوطهما من تفاصيل تتعدى المعيش الظرفي الى أغوار النفس).
 
اذن، ليس الراوي في مواجهة تل أخرس ولا هذا في مواجهة كائن منفي من ذاته وفي ذاته وخارجها ايضا ومقصي وأعزل رغم الاكتظاظ والعمل والانهاك: كلاهما لديه ما يقوله ولكن هذا القول لا يتم باللغة والمناجاة والتداعي والتخيل فحسب بل بالفأس أيضا، بالحفر. من يحفر في من؟ هناك حدث كبير وعاصف يخدر الشخوص ولكن لا يتم الكلام عنه وهو حاضر في التفاصيل. إنه نوع من الاقدار أو التراجيديا الكبرى التي تسحق الناس وتغير مصائرهم لكنه مكتوم وحتى غير مهموس به، وهو أمر لا نجده اليوم في الرواية الاوروبية حيث الزلازل السياسية والحربية والهزات الاجتماعية التي تحدث منعطفا تاريخيا لم تعد قائمة وهو أكثر وضوحاً في الرواية الاسكندنافية حيث الاقدام الغامضة أو الاقدار الساحقة والمفاجآت المزلزلة غابت تماما وحلت بدلها قضايا الشيخوخة والامومة والطفولة والعزلة والثلج والحداثة والجسد والعلم والتقاطع بين حداثة جامحة وبين مؤسسات تقليدية مهمشة.
 
لا يمكن أن نقبل بسهولة أن الراوي يبحث عن آثار الماضي فحسب، فهذا البحث ليس سوى  غطاء لحفر آخر:(كل مسافة بعيدة أنظر اليها باتت تحرك في داخلي احساسا بزمن راحل فأحني رأسي. لكن ما كنت أتحاشاه في نهارات الحفر يهاجمني في الأحلام). كيف يستطيع الروائي تبرير روايته في زمن كانت وما تزال الرواية تحتاج فيه الى تبرير أو مخطط أولي لا يشير الى لعبة خفية أو تعهد بذلك؟ هو يحفر في التل من اجل كشف الماضي لكنه في حوار داخلي في الوقت نفسه: بمعنى ان الحفر يتم في منطقتين: واحدة تشير الى الماضي، في التراب، وأخرى في الذات، في الحاضر، في الجسد. لكن اليس الجسد تراباً في البدء والمنتهى؟ الم يقترح على زوجته من قبل زيارة مناطق الحفر لكي ترى ما يتبقى من الانسان المستخرج من الحفريات الذي ليس سوى عظام وخاتم في اصبع يابس وشعر وقحوف وهي ترفض؟ لماذا ترفض؟ ربما يكون السبب انه اراد أن يقودها الى معرفة الهزيمة الانسانية النهائية ـ الموت ـ كي تخفف من غطرستها وسلطتها واحتفاليتها المتعالية في الحياة وهي واحدة من أبسط حقوقها شرط ألا تتحول الى قوة انكار وتسلط. قد تجد نفسها أمام مشهد الموت العاري عارية هي الأخرى من سلاح الغواية وهو أمر ترفضه لأن هذه المواجهة بينها وبين هياكل الماضي هو مواجهة بينها وبين شكلها القادم مهما طال الزمن تجردها من قوتها القائمة على (سلطة الجمال) وهي هزيمة مبكرة أو وعد هزيمة. هل كانت دعوة أم وعيداً؟ هل كانت نزهة أم تهديدا؟
 
الجملة الافتتاحية للرواية تبدأ بكلمة اقتحام وفي مشهد كئيب يوحي بالسجن والموت:(اقتحمت ليلى غرفة نومي على غير توقع، فرأتني مقرفصا على فراشي وصور فوتوغرافية عن تنقيباتي الأخيرة منثورة حولي بينما غمرني والغرفة ضوء أحمر بلون الدم) وليلى هي ابنة السارد من مطلقته التي تفاجأ بهذا اللون الأحمر والوضع المقرفص للأب الذي كان مستغرقا  في تأمل لوحة:( لأفق عريض يعبره طائر) واللون الأحمر في الغرفة أعطى الأفق هوية ملغزة نفسية: (فبدا كما لو كان تلويحة وداع أخيرة). طائر يعبر الأفق مشهد يجذب المحاصر من الداخل والخارج أكثر مما يجذب غيره: هو العبور الخاطف للطائر الذي يلفت انظار الأسير والسجين والمُقعَد والمنفي والمحاصر حيث مشهد السكون المتكرر والثابت يوحي بأبدية اللحظة ـ تكون النافذة عادة زاوية المراقبة.
 
هذه هي اللغة التي سيكون على القارئ المدمن على الروايات الصارخة البدايات والحبكات الكبرى والعنيفة الغوص في شبكتها التي تبدو قريبة لكنها عصية في آن ومتوهجة وعذبة كغناء طائر مغرد في قفص، فهو مجبر على الغناء والبوح لكنه لا يغني طرباً بل يغني سراً أو جرحاً. من يستطيع أن يستعير قلب طائر في قفص ويحس برعشته حتى لو كان هذا الطائر يعبر أفقا في نص روائي أو لوحة او قصيدة؟
 
تلويحة وداع أخيرة؟ أفق يعبره طائر؟ غرفة بضوء أحمر بلون الدم؟ حفر في تل؟ ماذا يبحث في هذا الحفر؟ هل يكون السبب هو:( لعل هناك شيئاً صغيرا ينبض بأفعال الانسان ومهاراته، شيء عادي جداً أصبح ثميناً بتخفيه وضياعه)؟و:( رغم ذلك كنت أتسلى بعيداً عنه كأنني صياد يوهم طريدته). هذه هي العلاقة بينه وبين التل: الاقتراب والتسلية لكن هذه التسلية لا تعني اللهو بل هي حفر آخر في مكان آخر وفي هذا الحفر تكمن المتعة، متعة الاقتراب من الذات والكشف عنها والبحث فيها وعنها وبها، اي انه الفأس والتل، الحافر والمحفور، المفكِّر والمفكَّر فيه والمفكَّر به وهي متعة السرد.
 
الروائي سهيل سامي نادر كان يلعب بمهارة احترافية داخل هذه الرواية، وهذا اللعب يقيم تعارضا مع الرصانة والوقار والقاعدة في الرواية التقليدية، كما أنه يحرر السرد من التوقع الى المحتمل بل الى الهباء واللاشيء، واللاشيء لا يعني العدم بل العبث والتفاهة المسيطرة، وليس من الضروري أن ينتهي فعل بنهاية منطقية متسلسلة أو خاتمة مكرسة أو حتمية والأمر ينطبق على الكلام: كثير من حوارات الشخصيات مبتورة أو لا تقول شيئاً، أو محاولة غير مكتملة في الكلام، وهذا اللعب يخرج الرواية من حقل الثبات الى أفق المدهش وغير المتوقع وغير المحسوب والاحتمالي.
 
أغلب الظن ان الروائي في لعبة السرد هذه كان يراوغ سلطة ما لكي يستمر في الحكي والحفر على أكثر من مستوى: الحفر في التل ضروري لتبرير العيش العادي وتلبية الحاجات الملحة اليومية، والحفر في الذات لتبرير معنى الحياة: لا يكفي أن يعيش المرء بل يتطلب الأمر رفع العيش الى مستوى السؤال عن معناه وسارد مثل هذا قادر على طرح مثل هذه الأسئلة الفكرية والوجودية لأنه مثقف وقارئ وتأملي وشخصية مركبة، ويقف على الجانب الآخر من الواقع القائم بكل ما فيه من قوى ومواضعات. شخصية مركبة من طبقات وليست سطحا كما هو الأمر في الشخصيات النمطية لأننا لا نعرف كل شيء عنها لا من حيث الوصف الجسماني ولا من حيث عالمها الداخلي مما يجعلها حرةً أمامنا في الظهور والفعل وهذه الشخصية تشكل نعياً للشخصيات الروائية (الايجابية) المتماسكة والمطمئنة لمصيرها كإطمئنان الخراف وهي تنام في حقل قرب جدار المسلخ: القلق لا يلغي السؤال عن المصير بل يكشفه، والانسجام أمام الذل نوع من التصدع والسخف والقبول والموافقة، والتمزق تمرد على شروط المؤسسة.
 
الراوي في داخل هذا الواقع لكنه خارجه، هو خارج التل لكنه داخله، هو خارج ذاته بفعل قوة غير مسماة ومجهولة لكنها حاضرة في كل تفصيل: في الحوارات الحذرة والجمل المقطوعة والانفاس المحسوبة والارتيابية القائمة بين الشخصيات وفي عزلة الراوي وفي كشوفاته ونظرته لنفسه وللحياة وللموت كما أن هذه السلطة داخلة في صناعة أدق الاحلام الشخصية.
 
هل كان سهيل سامي نادر يروي سيرة ذاتية؟ ممكن، لكن هذه السيرة من كتبها، أولا؟ هل يمكن كتابة سيرة ذاتية تحت هذه الشروط وستكون سيرة من؟ السيرة الذاتية تشترط الحرية والاختيار، فكيف يجد شخص نفسه داخل هذه الشبكة اللغوية المعقدة البناء وداخل علاقات ملتبسة ودخانية وفي عمق لغة تنفي ولا تقول شيئاً وأن يكتب سيرة ذاتية روائية حتى لو كان عقد القراءة يقول على الغلاف انها رواية؟ عنوان النص المجنِّس كـ(رواية) غير ملزم للقارئ لأنه لم يعد عقداً لأن القراءة اليوم هي نوع من التأليف لكنه ليس التأويل المطلق. اذا حفرنا أعمق نجد ان الراوي ومن معه من شخصيات يتحدثون في العموميات وخطط العمل وعن الشرب والنوم والنهار والعاصفة الترابية وبعض المسرات الانسانية العادية لكنهم يغوصون جميعا في حفر داخلي عميق ومرهق، وفي الوقت الذي يعلنون لبعضهم نتائج حفريات التل، لكن تبقى الحفريات النفسية أسراراً.
 
لماذا يتحول كل شيء داخلي وتفصيل بسيط وانساني الى سر؟ هل يتضمن هذا السر خطرا أو لغزا؟ نقترب قليلا لنطرح هذا السؤال: هل هناك قوة ليس من مصلحتها هذه الأسرار الفردية؟ هل ان هؤلاء من مصلحتهم اخفاء عالمهم الداخلي؟ لنحفر أبعد: هؤلاء مخلوقات لا تحلم بغير العيش والعمل والسعادة والحرية والاختيار وليس في تفكيرهم الظاهري في الأقل نوايا سياسية أو تطلعات ضخمة، فما الذي حبسهم داخل جلودهم؟ لا تقول الرواية ذلك صراحة ولا تلميحا، ولكن يقوله البناء الروائي، يقوله الشكل المعماري الملتبس والمعقد، تقوله الكلمات المبتورة، الكلمات غير المنطوق بها، يقوله النعاس والخدر والهذيان والتطلع عبر النافذة الى الليل وهو ينسكب على التل ويغطيه، لكن النيام في الكرفانات يظلون عراة في مواجهة هذا السكون الليلي البري.
 
ليسوا عراة من الثياب ولكنهم عزل وعراة من الأمل ولا تنفع اللغة الصباحية الوقحة شبه الاحتفالية المعبرة عن صداقة في الظاهر وعن مأزق في الداخل، لا تنفع في اخفاء الشقاء المختفي الذي يتحكم بهم،كما لا تنفع الشتائم الحادة للتل والريح والتراب وكل شيء، إلا الاقتراب المحظور من تلك السلطة الشبحية غير المرئية، المهيمنة، التي تبدو غير موجودة أبداً خلال الكلام وخلال الأحلام، ولكنها المتكلم الوحيد القادر على الفعل والانجاز: يستطيع هؤلاء الحفر في التل ليل نهار، ويمكن اكتشاف ذواتهم أو البحث عنها، الوصول الى النجاح في هذا الحفر أو ذاك أو عدمه، لكن الخط الأحمر واضح للجميع: إن أحدا لا يستطيع تحقيق ذاته على حساب "الذات الكبرى" لأن الراوي المثقف، اي السارد، مسموح له أن يحكي عن كل شيء ـ وهذا ما حصل حين تبنت المؤسسة طبع الرواية ـ ويستطيع أن يغوص في التل بل ويهدمه ويتهدم مثله ويضرب رأسه بالفأس كما في التراب والقحوف وأن يصير قحفاً حياً لكن من دون الاقتراب من سرد آخر وحكاية أخرى وخطاب آخر وتل آخر ليس من التراب يمتلك سلطة الماضي والحاضر والمستقبل، بل وسلطة تحويل الحكاية الى تراب وبالعكس، بل وتحويل كل شيء الى تل وحريق. ما هو اسم تلك المصادفة التي جعلت هذه الرواية تحترق في المخازن قبل التوزيع مع حرائق الاحتلال؟
 
يمضي النص الروائي موازيا بين العثور على مخطوطات قديمة وهياكل بشرية وغرف وبين الحوار الداخلي مع الذات لكن طبيعة الذات المفكرة ونوعية الراوي المثقف تحمي مناطق الحفر هنا وهناك من الترهل والتقريرية وتقيم العوازل السردية لكن المتداخلة وتصون النص من خطر الانزلاق نحو الخطابية وهذه الشخصية العميقة المستبطنة والمراقبة لأدق الأحاسيس بسبب عزلتها الداخلية ومشاعر الوحدة ترتفع بالتفصيل العابر الى مستوى التاريخ وليس العكس: ليس التاريخ هو الحكايات الكبرى، كما تعودنا، بل قد يبدأ أو ينتهي بتفصيل صغير على مائدة، وكما قلنا مرةً إن الرواية العراقية لا تحتفل كثيرا بمائدة وطقوس الطعام مع ان المائدة كانت وستظل مسرحاً لأحداث عاصفة تزلزل كيان الأسرة فجأة بتلميح عابر أو عفوي أو اشارة أو جملة أو حركة وربما يكون العكس وليس بالضرورة أن تقع الأحداث التاريخية والفردية الكبرى في ساحات حرب أو سجون أو أمكنة صراع مفتوحة أو مجابهات مدوية بل قد تقع في أكثر الأمكنة دفئاً وحميمية وعزلة وفردية: في غرف النوم، على مائدة طعام، نزهة في حديقة، بزوغ فكرة في حمّام... الخ. 
 
ماذا يفعل سهيل سامي نادر في مواجهة تل التراب؟ وفي مواجهة عزلته؟ وفي مواجهة غربته واغترابه؟ ليس عليه سوى مواصلة الحكي. أشك في أن الروائي كان يتخيل أن روايته سترى النور في تلك الظروف ليس بسبب طبيعة المؤسسة القائمة يومذاك فحسب بل بسبب حالة الروائي نفسه المدقق و"الحرون" والعنيد والمتطلب.
 
 هذا التفصيل الصغير قد يكون مهما في اضاءة صورة الكاتب: كان سهيل سامي نادر يعيش في شبه عزلة في المرحلة الدكتاتورية واختزل الكتابة في النقد التشكيلي واتذكر يوما أن الكاتبة والصحافية هناء ابراهيم قالت لي إنها تحترم كثيرا خيار سهيل سامي نادر حين فضل العمل في معمل أو ورشة أو ما شابه (صورة غامضة تقول انه معمل أحذية، وكان ذلك  أواخر السبعينات والسماء ملبدة بغيوم سوداء منذرة) فقلت لها بالخرق المألوف عندي والعفوية القريبة من السذاجة المكلّفة الثمن في لحظات الشعور بالبهجة :(المهنة الوحيدة التي أجيدها هي البحلقة في الحيطان وعدّ مصاطب الحدائق والنجوم ورعي الجاموس) وقد مضينا الى المكان بحثا عنه (أحد أزقة شارع الرشيد) فلم نجده، لكنه كان حاضراً في أحاديث نخبة خاصة من الأصدقاء بما يشبه الحديث عن قديس (في الأزمنة الحرجة تبدو الافعال العادية معجزات بما في ذلك الصمت) وصار عزوفه عن الكتابة في الشؤون المتداولة حلماً عصي المنال في وقت كان مثل هذا الموقف مكلفاً لكن عزلته كانت مفهومة لأن سهيل سامي نادر جاء من العزلة الى العزلة( عن الساحات العامة وليس عن الحياة) ولم يأت من الضجيج، لذلك لم يتغير ايقاع الموقف منه بسبب ذاك الصمت الذي ربما كان يقطعه كنقر ايقاعي لطائر غابي مجفل في كتابة نقدية في الفن التشكيلي(عمل في الصحافة اربعة عقود) ولا أعرف الى أي حد كان ذلك النقر بسبب علاقتنا المضطربة مع " التل".
 
هو غاص في تل ونحن هربنا منه، فلا من حفر ربح  شيئاً غير ذاته وخسر الوطن، ولا من رآه عن بعد ربح شيئاً غير ذاته أيضا وخسر الوطن. قبح الحياة في الرواية ليس من صنع الروائي ولا من طبيعة الحياة نفسها ولكنه من صنع الآخرين وكل ما يفعله الروائي هو وضع المرآة أمام الوجوه لكي ترى جيدا. لكن المفارقة هي أن هذه الوجوه التي ترى صورها المشوهة والقبيحة في نص تعبيري تلعن النص ـ المرآة، لأنها تعودت على أن تعيش هذا القبح كجرح نرجسي سري وبتلذذ يفسده النص العاري.
 
لم يكن التل عميقا وغامضا بل لأن الذات المنفية لا ترى جيدا وربما لا ترى أبدا بمعنى الرؤيا الأعمق، ولا تستطيع الظهور في الخارج والبحث عن شيء آخر بلا شرط الحرية الداخلية: ليست حرية السياسي فهي قريبة وسهلة المنال بل حرية العاشق والمعتز بفرديته والمختلف والأعزل الذي لا يريد الحرية وحدها بل البراءة أيضا: لم نحصل لا على هذه ولا على تلك. مازلنا نحفر في التل، رغم كل هذا الزمن والمسافات، لنلتقي في هذا النص المبهر والآسر. هو يروي ويحفر حفراً مركباً: في نص وفي تاريخ وفي ذات، ونحن نصغي الى راوٍ يحكي من أعماق وحدته حكاية الجميع.
 
بدأت الرواية بمشهد عصر في خريف كئيب عن غرفة مغلقة مضاءة بلون أحمر كالدم كما لو أن العراقي لا يعرف شيئاً أحمر غير الدم، ولوحة لطائر يعبر الأفق، وهو مشهد تأمل في الموت والخسارة، لكنها تنتهي بمشهد احتفالي على مطر ينزل فوق الزهرات البيض المتساقطة من شجر النارنج، وينهض الراوي متجهاً الى الهاتف وفي قلبه كلمتان لمطلقته" أحبك! أحبك!" كما لو أن كل هذا الحفر في التل انتهى باكتشاف الحب المدفون في ذات منفية: حين تكون الذات منفية ومتوارية وملغية لا ترى الجمال المنسي القريب جدا، ليس جمال زوجته فاتن فحسب، بل جمال الكون الذي بدا في تلك اللحظات يتفتح تحت المطر، فوق الزهرات البيض، ورائحة النارنج: كان ذلك أهم اكتشاف أُستخرج من حفر التل ليس بالفأس ولكن بالاستبطان والتأمل والنبل والمشقة.
hamzaalhassan@hotmail.com