خـــادم الزمـــان |
المقاله تحت باب نصوص شعرية
سأعيشُ طويلاً، لأرى المحنَ التي ستتكدسُ فوق الرفوف بمجلدات،
سنتصفّحها كلّ يوم ٍ بلا ملل ٍ، نتصفحها لنكون جديرينَ بالشكوى، سأعيشُ طويلاً لأرى الدهر طريح الفراش، لأستقبلَ وأودّع َ، لأربي الحياة وأنظفها من الخراء، لأرى كيف يولد الأوغادُ، من فروج ٍ مجلخة ٍ، مليئة بالقيح ِ، لأشهدَ زواج ابن عرس من حسناء الفايكنغ، سأعيشُ طويلاً لأشهدَ عيش الفقراء في مخادع الحديد، وعيش القحبة وسط حرير الكواكب، سأعيشُ طويلاً لأرى تحولات الوردة، بين الأسلاك الشائكة، ونهاية الصمت في حضن الضجيج، لأرى الى حالتي كيف صارت خادماً للزمان، لقد صدق هايدغر في فهمه للوجود المزرق كالحبر وللزمن السائل كالصخور وللحياة المنكوحة في كلّ زاوية ومكان، هذي الحياة القذرة التي رحتُ أنظفها من العفن والبول والصنّة، هذي الحياة ذات الشحم الكثير، السمينة بالحادثات والمنتفخة بطنها بالخطوب، سأعيشُ طويلاً لأقرأ فاتحتي وأأبّنَ نفسي وأدفنَ التراب. بائع اللبلبي أتذكره ذاك الصبيّ، ابن الفضاءات الرثة والساحات الشعثاء، ابن الزقاق الأزرق المبلول بماء الغسيل، أتذكره ذاك العدّاء كالسّليك ابن السُّلُلكة وجههُ حافلٌ بالكدمات، أقدامُه مشقّقة ٌ بفعل الريح والملحِ، أجفانُه مجرّحة ٌ جرّاء السّهاد، ليس له أحدٌ غير عائلة من العصافير السمراء، أقرباؤه بضع نسماتٍ وأصدقاؤه حفنة من النجوم البعيدة. أتذكره ذاك الصبيّ بائع اللبلبي للشتاء الفقير، وبائع العسلية للأصياف العُريانة، اللاعبُ لعبة الديوك الدموية والمراهنُ على الخسارات والينابيع الجافة، صانع المرايا من الدمع والضباب، الصاعدُ الى القمر مجاناً على حساب الزعيم، اللاطمُ في مواكب الورد، النائحُ على العطر في النائبات، آكلُ القهرَ والهريسة في سرادق العزاء، الصابغُ جلدَه بالأسود في عاشوراء، قاتل الشمِرَ ذا الجوشن في التشابيه المسرحية، مرتدي الغيوم البيضاء على إنها ثياب القاسم. أتذكره ذاك الصبيّ الغاطس الآن في كرسيّ من التجاعيد، المتقاعد الآن في دار الطفولة. الخف الفضي كنستُ التعب عن عتبات الأميرة، كنستُ الشامات التي تعفّنت في الزوايا، كنستُ القبلات التي سقطتْ فوق حواف المرايا ـ نفضتُ النهاد المتبقي بين الوسائد، بعض الهمسات التي نُسيتْ داخل الشراشف وبين الأسرة، أزحتُ الغمامات الصغيرة المجففة مثل مشمش قديم فوق الدرابزين، كنستُ أحاديث المساء بين الأرائك والطاولات والعتاب المالح فوق البلاط، رميتُ الأذى المخبّأ بين النوافذ وشقوق الأبواب، لكيلا يكبر ويسدّ الأفقَ، أو يثقل الستائر المخملية بلونه الكامد، رميتُ ما يجلب الصداع للحائط، ما يؤسس ساقية للدموع بين شِقّ النهدين، مايعكر مزاج المتوقّد بين الساقين، رميتُ ما يجلب الحسد ذا الأقدام المتينة، ما يجلب الغَيرةَ ذات الخلاخيل الكبيرة، أبعدتُ الأنّةَ عن السلم المعدنيّ والبحّة َ عن البوابة الساج حين تصيح، أبعدتُ الألمَ عن المفتاح في الأقفال الثقيلة، نشّفتُ آهات ٍ مالحة ً تبللت بالدمع هوّيتُ الهواء المستخدم بين الإفريز والمطبخ، مسحتُ نعاس القطة عن السجاجيد، هوّيتُ الحياة كلها، لكي تدخلَ الأميرة ُ بخفّ ٍ فضّيّ ٍ الى القلب وترتّبَ الشّغَفْ. نقود الماضي
النقودُ القديمة ُ تحثني على النوم في الأساطير ِ، تحثني على نبش المستحثّات واستغوار نفائسها، تحثني على شراء الماضي بدينار ٍ، وبيع الحاضر بدرهم، تحثني النقودُ القديمة ُ على مبايعة المتنبي ملكاً للريح، وقيس ابن الملوّح أميراً للرمال وللديار الخوالي، النقودُ القديمة ُ تحثني على إحياء الخرافة ِ المطمورة ِ في جسدي، وإحياءِ السحرِ الباطنيِّ وحثّ ِ هرمسَ على تفتيش ِ المساماتِ والطوايا من أجل العثور على الهالة، النقودُ القديمةُ ذات النقوش الصدئة والرسوم المحفوفة بأنامل الدهر تحثني على شرب الحنين دفعة واحدة وازدراد جمر الأسلاف بكميّات كبيرة لأقوّي أعصاب المعنى وردم معنويّاتي المجوّفة بما تبقى من بروق لدى البلغاء، بما تبقى من جُذىً وشرارات مدفونة في صدر نابغة عباسيّ، يُحسن رشوة التاريخ بفلس ومحاباة المسـتقبل بدوقيّة ذهبية. عند طبيب الأسنان أجلسُ تحت ضوءٍ كشّافٍ، وقفازين مطاطيين، الطبيبُ يتفحّص نواجذي لكأني فرسٌ، ويسألُ عن تأريخها ونشأتها، يسألُ عن جذور الأسنان لدى جدّي، منحدراً الى قبيلتي وقوة الضرس لديها، هل فكي عجينة؟ والطبيبُ أهو بيطريّ؟ ما هذه المدقّاتُ والمقالعُ؟ ما هذه المباضع التي تشرح تاريخي وترهن اللثة للماضي؟ يسألني الطبيبُ عن حياة القواطع والطواحن والقواضم، يسألني عن المعنى القابع في الناب وعن محنة الفك الأسفل الذي يتهدّلُ في الشتاء، عن الفم الذي بدا يتوارى والشفاه التي تكاد أنْ تختفي بفعل الهذيان والحمى، أجيبه: السنّ الأوّلُ ضربه البرقُ فسقط، الثاني التهب بفعل الريح، الثالث ُ تسوّسَ بسبب الذكريات، الرابعُ نخرته العزلة، الخامسُ تثلمَ حين وقعت الحربُ عليه، السادسُ سقط من الخوف، السابع كسرته العاصفة ُ، لكن رغم هذا لا أحتمل القلع، لا أحتمل أنْ تقتلع جذوري، لا أحتمل أنْ يُجتث ّ مسقط الرأس ويدفنَ في فكي، لا أريد ذلك، لا أريد طقم الأسنان هذا، إنه يؤكد المنفى. أزياء التراب الحياة تناورُ، لها أجندتها، لها معايير من حديد، ومكاييل سوداء، لها مؤلفوها وكتاب سيرتها، أنا ليس لديّ بوليصة تأمين على حياتي نفسها، لا غطاء لي ولستُ محميّاً حتى من القلب حين يهبّ عليّ في ليلة برد، البعض يفكر بضريبة عن الهواء، وآخر عن المشي في الشارع، ثمة من هو الآن في البورصة ينافح عن اقتصاد السوق، بينما ماركس نائم تحت الأعشاب، مكفن بالرايات الحمراء، مخدته كتاب رأس المال، هو يفكر بصراع النقود والطبقات، وأنا أفكر ببيع أعضائي بعد الموت، بعضهم يطالبني التبرّع بالخصى والقضيب، تصلني رسائل كثيرة الى المقبرة، سأجيب على رسائل الكراهية وأهمل رسائل المحبين، سأكمل قصيدتي الأزلية تحت الأرض، وأجيب على المكالمات الهاتفية تلك التي تصلني من مقبرة أخرى، سألبس أزياء التراب، وأدع لحيتي تطول لتلامسَ لحاء الأشجار فوق، قبعتي لن أغيرها هذه المرة لأنها من الجذور، قفازي ساحتفظ به الى الأبد لأنه مصنوع من الكلس والأملاح، هي حياة صامتة سأواصلها في الأسفل، من دون مناورات وفواتير، من دون ضوء وضوضاء. استيطان يهبط ُ الداءُ كطيّار ٍ في الجسد، يرافقه الأسى، حاملاً عدّة الاستيطان، يتبعُه اليأسُ وهو يرنّ بأقراطه وأساوره والخلاخل، ضارباً قاع المفاصل، حتى تتفكك الأعضاء ويترسّب الأسى في الركبة وعظمة الساعد، لامعاً كرمح من الملح، العطارُ ينصحُ بعتمة الزنجبيل، بالكركديّة، بالكرنب المسلوق، ينصح بمرهم الزوفى والقصعين ليضاء الطريق الى القلب، ينصح بحبة أسبرين لكي يبتسم الدم في الشريان الكئيب. يهبط الداءُ كطيار ٍ ليستعمرَ الكُلى، ثم يحتلّ الحالب، كي يضغط في الليل على جيرانه من سكنة الأحشاء، حينذاك يتوسع، معطياً إشارات ٍ الى الكبَد والصفراء، منذراً ومحذراً مناطق أخرى، زاحفاً ببطء في العتمة، في داخل يشبه الليل، كأنه إنزال في الظلام، كأنه غزوٌ لبرابرة. عدس الحرب يصل الصبــاح متـــأخّراً الى بيــتي، في الحادية عشــرة، بيـــنما هو يكون في الثامنة في مديــنة ثانية، يحْلق ويتعطر، بينما عندي تغطيه البثور والقذى، رجال الفضاء يصلون الى القمر مبكرين في ساعة السحر، يحبّذون الفطور فوق، مطلين من عَلٍ علينا، ملوّحينَ بصخور بيضاء، ترفرفُ كالمناديل، هم فوق، بيضهم أزرقُ، جبنهم أحمرُ، خبزهم من هلام وهم لا يعرفون عدس الحرب، عندنا في الأسفل. بعد قليل سيبنون مرأباً للمركبات الفضائية، فندقهم شفاف يُرى من جميع الجهات، مبنيّ من قطع الهواء. يصل المساء متأخّراً الى بيتي، لا فرق بينه وبين الليل، لا يهمني ما ذا يحمل في حقائبه السوداء، عشائي زعترٌ وخاثرٌ، ورجال الفضاء يأكلون ما تمنحه الكواكب لهم ويشربون الضوء بطاسات من الضوء. أنا هنا على الأرض، وحيد في حرب لم تقع إلا عليّ، كحجر كبير سقط على رأس صغيرة، أمامي قصعة العدس، أنتظر فجراً لا يأتي، بل حتى لا يتأخّر ويقول على سبيل المواساة: هأنذا الضحى قد تأخّرتُ. تعاليم خرجتُ الى هذا العالم لأتلقى تعاليمه: النبذ ُ والكراهيةُ، تقديسُ فساء الملك، الأكلُ من يد القوّاد، التسامر مع الديّوث، ملاطفة المأبون والتودّد إليه، تملق حديث النعمة، والقسم له بأنه المولود في قلب العافية وفي فمه مغرفة من ذهب، وأن الذي نكح أمّه الله وليس الشيطان، والذي أعطاه نقوداً في الطفولة هو أباه وليس العشيق. خرجتُ الى هذا العالم، لأرى جارتي تركب التاكسي في شارع النضال وينكحها خمسة رجال ينز منهم الجنس والملوحة والروائح الكريهة، لأشهد المجاعات التي خلفها أبي لفمي والمصائب التي تركها تتراكم بمحاذاة سمعي، عدا الديون المنشورة فوق حبل الغسيل، عدا الجروح التي أوصلها لحياتي، عدا الخرائب الموضوعة في دماغي، عدا العري الذي رحت ألبسه وأخلعه كملابس حقيقية. خرجتُ الى هذا العالم جنيناً لم يكمل يومه الأول، لأشهدَ ولادة موتي. هزة أرضية كنّا في السرير، حين انقطع الوصلُ بين قبلتين، الشفاه تحفّتْ وأخلتْ المكان للتأمل، كلانا واجم أمام حاجبين مندهشين، كنتُ على مرمى ثلاثة أصابع من حفرة اللذة، حين حدثت الهزة ذات اللون الكحليّ والثوب القصير، أثوابنا قصُرَتْ بفعل ارتجاجها الشديد، لأنها ارتفعتْ سبعُ دَرَجات وصعدت الينا ونحن في الطابق الخامس، بالطبع لم تأخذ المصعد، كانت عجلى، تحتذي حذاءً من ريح ، ارتفعتْ حدّتها عشرُ درجات ٍ أخرى، حتى وصلتْ إلينا وهي بمقياس هاشم، كلّ شيء كان يهتزّ حتى الشخوص في شاشة التلفاز، الطاولة انقلبتْ على الأفق والكتب سقطتْ منها الحروف فوق البلاط وبين قدميّ، بعض الكلمات هُرعتْ الى الأقلام لتختبئ، امرأتي تحاول أنْ تختبئ في كفي، الصحنُ فوق فمي، بدلاً من القبلة، الملحُ في أذنيّ، ومرقُ الفاصولياء في حضن إمرأتي، فوضى في المطبخ وقطتنا تأكل مصيرها بين حجرين، نظراتي تجمّدتْ وانقطع البثّ ُ الكونيُّ, جرّاء هِزّة، أتتْ قوية ً هذه المرّة ولم تكن بمقياس ريختر. اللعبة قبل أنْ اصطحبَ طفولتي معي، تقاصرتُ حتى اصبحتُ بحجم ِ قبلة ٍ من هواء، استعرتُ وجهاً من الفراشة وارتديتُ فرحاً وجدته مرميّاً في حضانة، ثم رحتُ الثغُ بالسين، أقول للطفلة سناء ـ ثناء . . . هي حقاً تثني عليّ كلما أعطيتها حلوى. آنذاك قدتُ الطفولة َ وصعدنا معاً نلعبُ في السطح ِ، بيتَ ابي بيوت، صرتُ أتزوّج دمية ً شقراءَ، الشمسُ تزفّها اليّ، فننجبُ أولاداً من الدمى الصغيرة، وحين نزلنا الى الشارع لنلعبَ لعبة الكريات الزجاجية، كان العم هرمان هسّه يراقبنا من بعيد، وحين ابتعدنا قليلاً عن الحيّ وقعت الحربُ من السماء علينا، فخفنا لدمامة وجهها الملطخ بالدم الذي أفسدَ علينا اللعبة. كلحية الظواهري أستيقظُ في سرير ٍ لفندق، داخل مدينة غريبة، المدينة كلها تتوكأ على عكّاز ٍ، بيوتها نخرتها الكراهية وقضمت الحروبُ أبوابها، هنا الناسُ يعيشون بما تبقّى لهم من أعضاء، بنصف ِ بشريّ، المدينة ُ هي خليط من أكتع وكسيح وأعرج، خليط من كلام مكسور وخيال جريح ومعان ٍ ثقبتها الطَلقاتُ ، خليط من برابرة ٍوغزاة ٍ وسكّانٍ أصليينَ بدَوا كهنود حُمْر ٍ، أستيقظ ُ مندهشاً لمرأى طوربيد يمرق في صالة الفندق، لمرأى اسطول ٍ يتوقفُ قرب نافذتي، يحمل طائرات تتأهب لاختراق الزجاج، أنا رجلٌ أعزلُ ، البسُ تي شيرت عليه صورة ُ غيفارا، وأحملُ قلماً يُشبه صاروخاً، لحيتي مدبّبة كلحية الظواهري وأكتبُ شعراً إرهابياً يقتلُ الطغاة. |