المقاله تحت باب منتخبات في
14/10/2009 06:00 AM GMT
شوقي الماجري يروي الحكاية من جديد .. بين من رقص ومن بكى في زحمة مسلسلات رمضان هذا العام تأكدت ظاهرة قديمة جديدة هي تراجع المسلسلات المصرية بشكل عام عن المستوى الفني المطلوب الذي أصبحت تقدمه مسلسلات عربية أخرى كالعراقية والسورية ، وتلك الأخيرة آخذة بسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام الدراما المصرية سواء بشكل مباشر أو من خلال مشاركة كبار مخرجيها وفنانيها وكتابها في تقديم المسلسلات المصرية . وهي خلطة(غير سرية) تضخ روحا جديدة في دراما الرجل المريض المصرية وتوقظها من غفوة الاستسهال التي غطت فيها لتصحو صحوة شاهدناها العام الماضي في مسلسل (أسمهان) الذي مثلته نخبة من الممثلين السوريين والمصريين وجاء على قمة القبول النقدي من حيث الجوائز والتقييم الصحفي.وهذا العام أيضا يقدم لنا المخرج التونسي نفسه شوقي الماجري جمهرة من نجوم الفن العربي في مسلسل حمل ذات البصمة المحترمة التي حملتها أعماله السابقة . وعدا إستثناءات قليلة لازالت الدراما المصرية تدور في فلك السطحية والتأكيد على عدم احترامها المشاهد بالإضافة إلى أن اللهجة المصرية ،التي يعشقها المشاهد العربي ، أصبحت بعيدة عن الخفة والطلاوة مليئة بالتعابير السوقية والغريبة وفي كثير من الأحيان غير مفهومة بسبب السرعة التي أصبح الممثلون المصريون يتحدثون بها . في غمرة تلك الإخفاقات يتقدم مسلسل هدوء نسبي إلى الواجهة ويستقطب جمهور النخبة الباحث عن الجودة والنوعية التي قدمها هذا المسلسل المعتبر على طبق من ذهب سواء من حيث الإخراج والتمثيل والتصوير،أو من حيث التقنيات والديكور والإكسسوارات والأزياء والخدع وتنفيذ المعارك والتفجيرات والمؤثرات الصوتية. وجميع هذه التفاصيل احترمت المشاهد بطريقة قد لاتجدها حتى في الأفلام الأجنبية وقد انتبه إليها المشاهد العراقي أكثر من غيره وأثارت إعجابه بقوة عندما وجد السيارات والجسور والشواطئ والأزقة والبيوت البغدادية والأراضي الخلاء المليئة بالأشواك وما إلى ذلك من مكونات البيئة العراقية ، وكأنها قد صورت فعلا في العراق . الماجري ينشد الكمال على ما يبدو في عمله فجعلنا نصدق أن هذه هي بغداد بجسورها وجوامعها وشواطئها ودجلتها وبيوتها وأزقتها اللهم إلا في اختيار الفندق الذي كان واضحا من طرازه الأموي أنه ليس فندق فلسطين ميرديان الذي كان مقرا للصحفيين إبان الحرب . ولا نستغرب هذه الدقة في الإنتاج إذا ما اطلعنا على بعض تفاصيل الإنتاج ومنها: "يضم المسلسل عدداً كبيراً من الممثلين بلغ عددهم 273 شخصية بين شخصيات رئيسية وثانوية ينتمون لعدة جنسيات عربية وأجنبية بينها مصر وسوريا ولبنان والخليج العربي وتونس والأردن وإيران وأمريكا وفرنسا والعراق وتم تصوير العمل بين سوريا ومصر والجانب الأكبر تم تصويره في مدينة تدمر السورية للتشابه الكبير بينها وبين العراق. وبلغت ميزانية العمل أربعة ملايين دولار أمريكي حيث صممت دبابات طبق الأصل من المركبات الأمريكية التي استخدمت في الحرب خصيصا للعمل إضافة إلى استخدام عدد كبير من السيارات والقوارب التي تم حرقها وتدميرها". وهذا الحال بدا واضحا في مواضع أخرى كتصميم (اللوكيشينات) المطابقة لبيئة العراق وما تضمنته من تفاصيل كثيرة كالأثاث والملابس، بل إن اللهجة العراقية جاءت متقنة وجميلة على لسان من تحدث بها من الممثلين العرب كنادرة عمران التي أدت دور شيرين زوجة كاظم و قمر خلف التي أدت شخصية دلشان ابنة كاظم المثقف العراقي الذي كان مضطهدا زمن النظام السابق ومع ذلك فإنه عارض الاحتلال ومن جاء معه وبينهم صديقه أياد الذي أصبح من المسؤولين الجدد وعندما يزور كاظم في بيته تدور بينهما محاورة متوترة ومليئة بالأسى تلخص الجدل القائم حول عراقيي الداخل والخارج لنكتشف فيما بعد أن أياد هذا يحتاج في داخله إلى (صك براءة) من صديقه كاظم ليتمكن من الاستمرار..ولكن الصورة تنقلب فيما بعد عندما يلتقي الاثنان في مشهد بارع هرع فيه كاظم متوسلا المسؤول الجديد الحفاظ على حياة ابنه من الضياع في عالم المافيات . إن المؤلف كان مخلصا في نقله أجواء ذلك الصراع بعد الحرب بل أنه في بعض التفاصيل يبدو كما لو كان قد عاش في بغداد أو صادق بعض مثقفيها وقد قرأنا على بعض مواقع الانترنت ان النص مأخوذ عن رواية للكاتب نفسه . لكن اقترابه من هواجس مسؤول جديد مثل أياد هو موضع جدل وتحفظ في بعض الأحيان ونعني هنا ماقاله أياد (مثل دوره مهدي الحسيني) لمدير المحطة الفضائية (مثل دوره إبراهيم الزدجالي)عندما سخر المدير من خطاب بوش الذي أعلن فيه انتهاء الحرب على العراق فقال له المسؤول العراقي الجديد (أياد) ان الحرب فعلا انتهت والباقي مجرد تفاصيل .وهنا يجيبه مدير المحطة قائلا هل تعتبر كل هذا القتل والخراب مجرد تفاصيل؟ ونظن هنا بأن هذه التفاصيل هي مما فاجأ السياسيين القادمين مع الامريكان فقبلوها مكرهين. إن من إيجابيات العمل التي تلفت النظراليها بقوة هو الوجود الكثيف لممثلين عراقيين برعوا وأجادوا في أداء أدوارهم كالفنان القدير جواد الشكرجي الذي رسم دوره منطقة مهمة من العمل والفنان القدير محسن العزاوي الذي مثل دوراً مؤثراً ،ومعهم طلال هادي ومهدي الحسيني وآسيا كمال وكريم محسن وسنان العزاوي وخليل فاضل خليل وحسين عجاج وذوالفقارخضر وطه المشهداني. ويمكن القول أن هذا المذاق العراقي هو المدخل الذي شدني إلى هذا المسلسل المتميز، بعد كنت قد قررت ألا أتابع حلقاته وأكفي نفسي قهر تلك الأحداث المؤلمة التي عشناها مرة واحدة والى الأبد وشهدنا ما تلاها من زوابع وانقسامات بين مؤيد ومعارض . الحكاية التي حدثت مرتين وعلى ما يبدو انه بعد ست سنوات من الواقعة لازال الانقسام حادا بين العراقيين حولها وتهمة التباس النية لازالت قائمة تجاه الرؤية العربية لذلك الحدث حيث هاجم المسلسل بعض الإعلاميين العراقيين قبل أن ينتهي معتبرين تلك الرؤية مؤيدة للإرهاب ليجعلوننا نعتقد إننا لازلنا نعيش ذلك الانقسام المؤلم بعد أن كنا قد عشناه عام 2003 وأدمى بتفاصيله قلوبنا أكثر مما فعله احتلال بغداد التي دمرت ونهبت ملئ السمع والأبصار. لكن كيف تترك بغداد لتسقط بهذه السهولة ؟؟؟ هذا ما يفتتح به البطل ناجي شرف الدين المراسل السوري تقريره الإخباري الذي بثه بعد هذا السقوط ليقول أيضاً إن الدم الذي غطى بغداد على مدى تاريخها يعود ليغطي شوارعها وتعم الفوضى في كل مكان حيث يصور لنا المسلسل كيف يهرب القادة ويتوه المقاتلون العرب في الشوارع ويهرب المجانين من المستشفى ولكن المؤلف خالد خليفة وهو على ما يبدو قد عايش بعض تلك الأحداث من موقع قريب يحاول أن يرد الاعتبار لبغداد الرافضة للاحتلال ويركز على ماعرفت به على مدى تاريخها قلعة للأمجاد والبطولات فيضئ عن عمد منطقة المقاومة في شارع المطار ويبرر انتهاء تلك المقاومة باستعمال أسلحة غريبة ومحرمة تذيب الأجسام ، كما جاء على لسان أحد المقاتلين . وعندما يبقى الملازم سليم ( أدى دوره الفنان سنان العزاوي ) مع مجموعة من المقاتلين العرب بدون إمدادات وبدون قيادة عسكرية ،فانه يلجأ إلى ضابط كبير من أساتذته القدامى( أدى دوره فاضل خليل) ويسأله لماذا احتل الأمريكان بغداد بهذه السهولة فيقول له التاريخ وحده هو الذي سيقول من خان ولماذا خان .وهنا يتجاوز المؤلف الإشارة إلى حالة الإنهاك الشديد التي أصبح عليها الحال في العراق بعد ثلاثة حروب متتالية وثلاثة عشر سنة من حصار خانق. بغداد وبابل بجانب المراسل السوري ناجي شرف الدين (عابد الفهد) هناك المراسلة المصرية ناهد جلال (نيللي كريم) التي تعشق بغداد وتأبى أن تتركها حتى بعد أن تخطف مرتين قبل وبعد انتهاء الحرب، بل إن أهلها أيضا يمتلكون ذات المشاعر لبغداد فيقولون وهم يشاهدونها تبث تقاريرها على الشاشة : (يا بختك يا ناهد على الأقل حاسة أنك وأصحابك تعملي شيئا لبغداد). إنهم مجموعة من الصحفيين من ثماني جنسيات عربية وأوربية عاشوا في فندق فلسطين مريديان في تلك الأيام العصيبة أغلبهم مرتبط ببغداد عاطفيا وليس بحكم المهنة فقط كما هو الحال مع ناجي الذي يحمل ابنه اسم بابل وجلال الذي كان ينوي أن يسمي ابنته بغداد . من خلال تلك المجموعة من المراسلين وأثناء تغطيتهم حرب العراق بغداد ،أراد الكاتب خالد خليفة النظر إلى ماوراء دخان الحرائق. تبدأ الحرب في المسلسل عبر قصة حب قديمة تعود لتجمع بين الصحفية المصرية ناهد جلال التي تقوم بدورها نيللي كريم والمراسل السوري ناجي شرف الدين المتزوج أساسا والذي يقوم بدوره الفنان عابد الفهد، وهذا الخط الرومانسي جعله الكاتب موازيا لبشاعة الحرب وأهوالها وأيضا هناك الحياة العائلية لباقي الصحفيين مثل المصري جلال الذي أدى دوره (كريم كوجك) حيث تحمل زوجته وتبلغه بحملها بالهاتف أثناء تغطيته المعارك فيقرر أن يسمي ابنته بغداد وسط فرحة كبيرة بين زملاءه ليكون هذا الخبر بمثابة حياة تبزغ في الخراب وهذه الطفلة سترى النور لاحقا في بغداد في إشارة بليغة لمحبة العرب الكبيرة لبغداد وتضامنهم معها. ولكن جلال يقتل في حادثة قصف الفندق التي يجرح فيها الصحفي التونسي وشريف اللبناني ويموت فيها أيضا رمضان الفلسطيني الذي ينقل إلى فلسطين عبر حواجز إسرائيلية بينما الحواجز الأمريكية ماثلة أمام زملائه الأحياء في بغداد مما يجعل ناجي يقوم بتهشيم جهاز التلفزيون عندما أدعت أمريكا عدم تعمدها استهداف الصحفيين. ويتعرض ناجي إلى أكثر من اعتقال على خلفية كونه صحفيا وأيضا لان والد زوجته يعمل في المخابرات السورية ومتهم بعلاقات مع النظام السابق . ناجي أيضا سيعذب في السجن بتهمة تعاونه مع الإرهاب بعد بثه لأفلام عن عمليات زوده بها المسلحون. وهنا يبتعد المؤلف عن الموضوعية حين يصور مشاهد تعذيب شديدة جدا حصلت للصحفي على هذه الخلفية في حين إن بث هذه الأشرطة يتم أحيانا بدافع السبق الصحفي وليس لضرورة وجود العلاقة مع الإرهاب ويمكن القول أن هذه الموضوعية كانت حاضرة عند تصوير بعض الأمريكان وهم غير راضين عما يحدث في السجون من تعذيب . المسلسل أشار أيضا إلى أن عمليات نهب المتحف العراقي قد تمت تحت أنظار قوات الاحتلال ومباركتهم ، إلا انه لم يشر إلى أن من قام بالنهب هي العصابات المأجورة وليس العراقيين...وهذا المسألة هي ممايهمنا جدا التعليق والشهادة عليها ذلك أن عمليات النهب قد بدأت واستمرت في أيامها الأولى على أيدي عدد محدود جداً من الأشخاص ، وأن هؤلاء الأشخاص كانوا حين ينهبون يفعلون ما لا يفعله أي سارق أو ناهب في الدنيا(مهما كان الأمن منفلتاً )إذ كانوا يستعرضون ما ينهبونه ويرقصون به أمام الكاميرات ليدل ذلك على أنهم مدفوعون لتحريك الآخرين نحو النهب. زيادة الى ذلك يمكن القول أن السارق أو الناهب ليس أمامه إلا أن يهرب بما يحصل عليه بأسرع ما يمكن، بينما كان معظم هؤلاء السرّاق، يُخرجون ما يحصلون عليه من المباني المنهوبة ليعودوا إليها فيقومون بالتدمير والحرق، وهذا أمر غير منطقي ولا يتساوق أو يستوي مع عمليات النهب. شيعي وسني وكردي يقدم المسلسل أيضا خط المرتزقة وتجار السلاح من خلال سمسار سلاح وصبيه الشاب موسى الذي يقوم بدوره الفنان خليل فاضل خليل (وهو ممثل سيكون له شأن في المشهد الدرامي العربي)، حيث يتم البيع والشراء لكافة أنواع الأسلحة في الكهوف والسينمات المهجورة.وأحيانا تجري الصفقات لبيع مستودعات سلاح وذخائرها بالجملة لنعرف كيف تم خراب بعض النفوس بعد خراب البلد. فكان المسلسل هنا يربط بين هذه التجارة الفاسدة وبين عمليات التفجير والقتل التي تحدث. ولا ندري كيف دار بخلد بعض الإعلاميين العراقيين الذين انتقدوا العمل أنه يشرعن الإرهاب أو يؤيد هذه التجارة الفاسدة التي صور المسلسل بطلها موسى يدور كالشيطان بين كل الأطراف المشبوهة والمافيات مهيئا أسباب القتل والدمار. المسلسل ، ينقل للمشاهد المرارة والخيبة ومشاعر الهزيمة والانكسار بعد السقوط، حيث ينتحر جندي عراقي بمشهد متقن ومذهل بعد سماعه خبر هروب القادة من القتال وتخليهم عن المعركة . وتقص دلشان شعرها وتخرج ناهد باكية مذهولة إلى الشوارع غير مصدقة لما حدث في الحرب . وهذه المشاعر من الحزن على ما يبدو لم يرض بها بعض الإعلاميين ممن إعتبروا تلك الحرب الوسيلة الوحيدة لإسقاط النظام ولا نريد هنا أن نلومهم على ذلك ولكن نسألهم: لماذا لا يتخيل من (رقص) أن هناك من (بكى) لسقوط بغداد ،خصوصا وإنهم يعلمون إن داخل العائلة الواحدة كان هناك أحيانا من رقص ومن بكى وليس بالضرورة للأخير أنه فعل ذلك حسرة وحزنا على النظام السابق ولكنه كان يبكي مدينته الحبيبة بغداد التي استبيحت ودمرت بهمجية .. وهذا الجرح الذي نكأه المسلسل يذكرنا جميعا كعراقيين بسؤال أنفسنا متى الوصول إلى منطقة وسط .ولماذا النية مبيتة دائما وعن سابق قصد لأي جهد عربي يحاول الاقتراب من هذا الوسط. في الوقت نفسه ، هناك مجموعة من العائلات العراقية التي عاشت ظروف الحصار و الحروب كعائلة كاظم كمال الذي استشهد ولداه علي وسليم في حرب إيران ومن تبقى من أبنائه في البيت البغدادي الأصيل هم : دلشان وموسى وسامي بالاضافة الى خالهم سيروان عازف البيانو الذي لايخرج من البيت وعمهم كريم الذي فقد عقله في زمن النظام السابق بسبب التعذيب وتحول من أستاذ جامعي محترم إلى مجنون يجول في شوارع بغداد ويلقي الشعر، كأنه الشاهد الوحيد الحي على هذه الفظائع . وستعثر عليه دلشان لاحقا في مشهد مؤثر وتعيده الى بيت اهلها. أسرة كاظم كمال هذه (الذي أدى دوره ببراعة الفنان جواد الشكرجي) هي نموذج للطبقة المتوسطة المثقفة التي علقت بلا حيلة وسط الأحداث ففي الحصار تحولت إلى حافة الفاقة وعانت الأمرين من ضيق ذات اليد وفي الحرب وسنوات الاقتتال الطائفي يريد الجميع ترحيلها عن المنطقة لأنها تعيش خارج منطق الطوائف والمذهبيات ، ولكن رب الأسرة يحاول إبقاءها متماسكة والتمسك بالبيت وهذا ما حدث فعلا للكثيرين في بغداد قبل أن يبلغ التناحر الطائفي مداه في العامين 2006و2007 . وهنا يؤخذ على المسلسل بشدة أنه يصور التهجير الطائفي قد حدث بعد الحرب مباشرة كما هو الحال مع خطيب دلشان (أنس) ابن الرمادي الذي هجر من منطقته واحتل المسلحون بيته وهذا في واقع الحال لم يحدث في السنة الأولى من الحرب وإنما بعد أحداث تفجيرات سامراء وبشكل متبادل بين الطرفين .كذلك فإن ثنائية صادق الشيعي الذي يريد تهجير عائلة كاظم التي تختلط فيها الطوائف هو أمر غير دقيق ومستبعد تماما من الحسبان في تلك الفترة إذا ما عرفنا أن زوجة كاظم السنية هي التي قامت بإرضاعه .. كما أن هذا التنوع لم يكن على مدى التاريخ مشكلة بين العراقيين ولم تكن الحرب لتجعله مشكلة لولا تدخل جهات وأطراف ابتعد المسلسل عن تسميتها وحاذر الدخول في تفاصيلها. ويبدو أن المؤلف لم يشأ مد الفترة الزمنية خارج حدود تلك الأشهر الأولى للحرب فجعل التهجير والتفجيرات ضمن حدودها في حين لم يكن الأمر كذلك ولا كانت الطائفية قد جعلت ابن الرمادي أنس لايستطيع ان يجد من يكتب كتابه على حبيبته الشيعية دلشان (من أب شيعي وام سنية وجدة كردية) ومما قرأته على احد المواقع الالكترونية أن المخرج شوقي الماجري كان قد صرح أن العمل سيتعرض للعلاقات بين العراقيين لأن أحداثه تتفاعل على أرض بلاد الرافدين لكن من دون التركيز على الخلافات الطائفية التي تفجرت غداة سقوط بغداد حيث نوه بأن الذين يعملون في الحقل الفني لا يسعون إلى البحث عن الفتنة الطائفية. واقع الحال انه في السنة الأولى بعد الحرب كانت الطائفية أبعد ما تكون عن نبض الشارع العراقي، بل كان هناك رغم المأساة شعور بالأمل وانتظار شيء جديد سيبزغ من هذا الظلام ليعوض صبر الناس ويجازيهم خيرا وهذا الإحساس رافقه انفتاح فضائي وإعلامي فدخل الستلايت إلى العراق وامتلأ المشهد بالصحف التي تتحدث بحرية والفضائيات التي تسخر وتنتقد وقد عبر المسلسل عن هذا الإحساس عبر صدور صحيفة كاظم والاحتفال بها من قبل إبنه موسى وهو نفسه الابن الذي تحول إلى تاجر للسلاح وسيتصدى هذا الإبن بالسلاح لمن سيحاول تهديدهم بترك البيت وهنا نجح المؤلف في تقديم خلطة العراق الجديدة المكونة من أب مثقف يحارب بالكلمة وابن يتاجر بالسلاح ولا يعرف في ظل الخراب من لغة أخرى غير لغة السلاح. يقدم (هدوء نسبي) أيضا الحياة على حافة الخطر و يحاول وضع الحروف تحت النقاط فيما يخص ملابسات ومشاكل كثيرة رافقت الحرب بينها الإعاقة والتشوه والفساد والأسلحة المحرمة والعمالة المصرية ولكنه لايغفل دائما إضاءة النخوة والغيرة والمروءة العراقية الموجودة تحت هذا الرماد .يحاول أيضاً الماجري تصوير ماجرى ويجري خلف واجهة الخبر من المصاعب الجمة التي يتعرض لها المراسلون أثناء الحروب وبشكل خاص في حرب العراق وقد أدى عابد الفهد دوراً من روائع أدواره بينما تفوقت نيللي كريم في أداء دورها بتعابير الوجه فقط والمسلسل كما جاء في تصريح لها هو محاولة لرد الاعتبار لعشرات الإعلاميات اللاتي تعرضن للقهر والتعذيب والقتل خلال الحروب وخاصة حرب غزو العراق التي شهدت مقتل عدد من الصحفيات خلال أداء عملهن. في الجهة نفسها قال المخرج التونسي شوقي الماجري أن المسلسل درامي بالأساس وليس عملا وثائقيا وأنه اهتم أكثر بالجانب الإنساني وأدرك منذ اللحظة الأولى حساسية الموقف كونها قضية قومية لذا تعامل مع كل الأحداث بدقة شديدة وتناول كل التفاصيل بحذر شديد كي لا يقع في مطب الانحياز أو التعبير لمصلحة جهة ضد أخرى. في الحقيقة أن هذا هو التحدي الأكبر الذي واجهه الماجري بنجاح عندما تصدى لحدث أشبعته الفضائيات نقلا وبحثا وتحليلا فقام هو باعداد صياغته الدرامية بهمة من لايريد جعل الدراما تبدو هزيلة مقارنة بالواقع. والحق يقال إن المسلسل مكتوب بطريقة روائية فذة قامت بتحميل العمل الدرامي شحنات رمزية عالية وقد تصاعد هذا الصوت الرمزي في حلقات المسلسل الأخيرة بطريقة اوركسترالية مؤثرة جدا جعلت رموزا روحية كموسيقى سيروان ومياه دجلة وشعر السياب وولادة الطفلة بغداد وبيت كاظم البغدادي الحميم... تشكل الحافة الاخرى لهذا العالم الكابوسي الذي يعيشه العراقيون. من الجدير بالذكر أن مؤلف العمل خالد خليفة هو سيناريست وروائي سوري من أصل كردي ولد في عفرين بحلب عام 1964 ووصل عمله مديح الكراهية الى قائمة الست القصيرة لجائزة بوكر في دورتها الأولى وله الكثير من المسلسلات بينها (زمن الخوف) و(ظل امرأة) و(أهل المدينة). وقد نجح في كتابة مسلسله بوجهة نظر وطنية خالصة غير خاضعة للتعصب أو الأفكار المسبقة. ولكنه مر على استحياء ببعض المناطق الشائكة التي أدت إلى الاقتتال الطائفي .ويمكن القول انه وقف على نفس المسافة الموضوعية من المسؤولين بالنظام السابق والنظام الحالي في العراق وكذلك من المفسدين من الطرفين بل إنه صور عصابات القتل والخطف بأبشع صورة ممكنة وتكفي حادثة قتل سركون المثقف المسالم وحادثة بتر إصبع ناهد أثناء اختطافها، لتصوير هذه البشاعة . خالد خليفة كان في هذا العمل مهموما بالوقوف مع الشعب العراقي قلبا ومضمونا وليس مع أي جهة أخرى ،مما يجعلنا نستغرب آراء بعض الاعلاميين في العراق التي اعتبرت هذا النص متواطئا مع الإرهاب والقتلة حيث نشرت الصحيفة الرسمية في العراق استطلاعا حول هذا المسلسل معتبرة إياه: " استفز مشاعر الإعلاميين الصحفيين العراقيين لما رأوا فيه من تبرير للإرهاب وقتل الشعب العراقي تحت ذريعة مقاومة الاحتلال بإظهار العراقيين لصوصا متواطئين مع الاميركان" ومن بين المستطلعة آراءهم مدير قناة فضائية معروفة لايملك متسعا من الوقت لمشاهدة مسلسلات التلفزيون إلا انه لاحظ (على ذمة الاستطلاع) أن: "هناك مسلسلات تكتب برؤية مؤلف مؤدلج يحرض على الشر وأخرى تكتب بتوجيه من المشتري وفق رؤية الفضائية التي سوف تبثها" واعتبره فنان في الاستطلاع نفسه عملا عظيما: "جودة في صياغة السيناريو والإدارة الفنية وتفسير جميل من قبل المخرج لأحجام اللقطات ، كاميرا تفسر سلوك ونفسية الشخصية " ولكنه أيضا أدانه وشبهه بسيارة مفخخة . وانضم إلى الهجوم ناقد فني فقال (إن هناك قصدية من وراء إنتاج مثل هكذا أعمال تنسجم تماما مع طبيعة توجه الجهة المنتجة وما تروج له الفضائيات المغرضة) أما احد المستطلعة آراءهم في الاستطلاع فقد تبرع لشتم المسلسل دون أن يراه وقال إعلامي آخر في الاستطلاع نفسه أن المسلسل اغفل مشهد سقوط التمثال في حين ان المسلسل لم يفعل ذلك . هذا وغيره يدل أن ظلما كبيرا لحق بهذا المسلسل الذي لم يشرعن للإرهاب مطلقا وان هؤلاء الذين انتقدوه في الاستطلاع (الانتقائي) لم يتابعوه جيدا لأنهم عندما أدانوه قد وقعوا في ما لاموا غيرهم عليه من تبني المواقف المسبقة والنيات المبيتة إزاء وجهة نظر مختلفة هي وجهة النظر المعارضة للحرب .
|