المقاله تحت باب  في السياسة
في  09/06/2009 06:00 AM
GMT

يتعرض عالمنا المأنوس لكوارث متفرقة كسقوط الطائرة الفرنسية بركابها في المحيط الأطلسي، وما زال الجنس الآدمي مهدداً بالغزو النووي. يبدو كوكبنا في العقد الأول من الألفية الثالثة عالماً مبعثراً، يخطو الإنسيون فيه على أرض شائخة بالحدب والمنخفضات والبرك الجليدية الذائبة والمباني المتناثرة تحت سماء تصهرها الأبخرة الحمضية، فيما يشعر إنسيو الحضارات القديمة بالحيف والاستغلال والعوز في ظل هيمنة الأقاليم الإنسـية المسلحة وغزوها المنظم لأراضيهم المسالمة.

يمارس الإنسيون المبعثرون في الجيوب الإقليمية القديمة حرفيات عالمهم المأنوس، متجاهلين محاولات الأقاليم الراقية الانتقال إلى كواكب غير مأنوسة، واستحداث خرائط جينية معدَّلة لأجيال الكوكب القديم. وفيما يزاول روائيو الكوكب القديم إحياء ذكرى الثورات السياسية العظيمة، ويصارعون لاكتساب قدر من الحداثة الفكرية والعلمية، يحاول العلماء والمخططون الإستراتيجيون وراء أقاليمهم استنساخ جينوم ما بعد الحداثة الإنسية، والتحكم بالفضاء السيبرنتي، واستحداث مرويات وصور متحركة وشبكة اتصالات افتراضية تخترق ثقافات العالم الإنسي وتقصِّص أطراف التاريخ المدون في مجلداته الشمولية.
إنهما عالمان متجاوران، إقليمان إنسيان، جيشان أسطوريان ممدودان بخرافات لا إنسية. أما بقايا الصراع فلا تعدو قصاصات متطايرة في مشهد دخاني مخرَّب من رواية تخيلية على شاكلة رواية ماكارثي كورماك (الطريق) التي منحتها أميركا جائزة بوليتزر عام 2007، لتصويرها عالم ما بعد إعصار نووي أخير يهيم فيه إنسيان (أب وابنه) على وجهيهما، يغمرهما الضباب والمطر، ويطاردهما أكلة لحوم البشر. وقد يستعيد هذا العالم الشيزوفريني رؤيا منسية من (حرب العوالم) خلّفها الروائي هـ. ج. ويلز، ليلتقطها المخرج السينمائي سبيلبرغ ويبعث فيها الروح من جديد في فلم من إنتاج 2006، مصوراً انفصال أب (الممثل توم كروز) عن عائلته في أثناء غزو كائنات فضائية لكوكب الأرض، ثم التئامها بعد انتهاء الغزو الفضائي.
لا يكف العالم الإنسي الراقي عن تهديد كينونته المفكرة وحطّها إلى مستوى الخيال المدمر، وتغليف فصامه الروحي بمحاولات عجائبية، راقية التدبير والتصوير، وفي مقدمتها محاولات الغزو التلفزيونية للأقاليم المجاورة والبعيدة. وُصِفت حروب العراق بأنها حروب تلفزيونية، ميدانها فضاء مظلم تطير فيه طائرات شبحية من جزر صخرية ثابتة في البحر، أو من جزر حديدية عائمة في الخلجان، تفرغ حمولتها من القنابل الثقيلة على مدن غارقة في الظلام، ثم تعود إلى قواعدها في فضاء مرقش بالانفجارات البعيدة. لا يشاهد متفرجو النصف الراقي من العالم على شاشات تلفزيوناتهم عمليات عسكرية تقليدية على الأرض، إلا أن شبكات التلفزة الفضائية عندهم تواصل نقل صور الغارات الجوية الليلية وكأنها عملية غزو كائنات فضائية خارجية لمدن الخليج البحرية الآمنة.
تجرع سكان الإقليم الراقي أمصالاً زائدة عن الحد ضد الرعب، فجعلهم فرط الرعب أقل اكتراثاً بحروب الواقع الإنسي، وأحفل بكوارث الطبيعة التسونامية، يشاهدونها ويؤرشفونها ويتلذذون بخرابها الشامل، لكنهم لا يُصدمون بل يطلبون جرعات أكبر وأمضى غوراً في خيالهم الجائع للرعب. أذكت أشرطة الرعب شهوة بدائية، وأنهضت نزعة عدائية، في نفوس الأقاليم المحتلة، بينما اجتذبت الأقاليم الراقية هجرات إنسية متوالية داخلة وخارجة، لم تستطع الاندماج بشهوة الرعب لضعف في تكوينها الروحي والفكري، فعادت تنشد الركون إلى موطنها القديم، أو استعمال لهجته وعاداته في غيتوات المنفى وإقامة روابط إثنية وأيديولوجية في داخله. هدم الحنين إلى الموطن الأول، وسوء استعمال لغة المنفى، النماذجَ المهاجرة من الأقاليم القديمة، حين أعاد أدباء المهجر إنتاجها في قصاصاتهم الروائية بلغتهم الفصامية الحاوية على صور الضياع والإدمان والانتحار.
لم تستطع شخصيات الطاهر بن جلون أن تتخلص من فصام الإقليم الإنسي الراقي، فتلاشت في شهوة الرعب المتنامية حولها، وضاعت للأبد بعيداً عن موطنها القديم (رواية: أن ترحل-2007). لم يحسن الإنسيون المهاجرون اختراع لغة ثانية، ولم يتبعوا طرق الهجرة التي طرقها الجيل الأقدم والجيل الأوسط من أدباء المهجر العربي، ففشلوا في اختراع لغتهم المهجنة العابرة للهويات الأصلية. بدا المهاجر العربي الأخير على عجلة من لغته وهويته، فانطبقت عليه صفة المهاجر الضليل، أي المهاجر المتفاخر الذي لا يلبث أن يتحول إلى مهاجر متصاغر.
وبين هؤلاء جميعاً المهاجرون العراقيون الذين حمّلتهم لغاتهم وعاداتهم الإنسية القديمة أعباءً فوق أعباء المهجر، فتبعتهم طيور الشؤم حتى أقصى المهاجر، وجعلهم سوء حظهم أتعس المهاجرين.