| طغراء النور والماء.. طوفان شعري لعبد الزهرة زكي في اوراق النسرين |
|
المقاله تحت باب مقالات و حوارات (الصورة: عبد الزهرة زكي)
تبدو لك قصائد هذه المجموعة للوهلة الاولى هادئة، ربما تعبرعن هدوء شاعرها عبد الزهرة زكي لكنها في القراءة المتمعنة ستجدها اكثر صخبا، تجد الشاعر في المعطى النفسي والروحي يخفي اسراره في موسيقى صمته الشعري، وعبد الزهرة لمن لا يعرفه يصدر ديواناً شعرياً كل بضع سنين، ينشره ليس حبا بالظهور، ولا ساعيا الى شهرة، ولاكرامة بسلطان.
لذلك فأن الدخول في متاهات ديوانه الجديد "طغراء النور والماء" الصادر عن دار المدى 2009، يجب الاحتراس من لعبته التهويمية، في صناعة الكلمات وهي تُشحن بموجات من العواصف والرمال والطوفان، وهنا، تظهر المفارقة، بين ذاك الهدوء الشخصاني الذي يعتصم به الشاعر، وبين العواصف التي تعبر عنه قصائده، حيث يمكنك ان تنظر من اطار تلك المفارقة، الى اي مدى قد اضافت تجربة عبد الزهرة زكي الروحية والانسانية اسئلتها العميقة الى جوهر الشعر، ولابد من انك بعد الانتهاء من قراءتها، سترى انه انهمك بها، تدقيقا وبحثا، لزمن طويل، تأملا وصمتا، انهماكا يبدو لي، كما تفصح، عن اسئلتها الفلسفية والميتافيزيقية والاركولوجية، ستشعر انها احتفرت في عوالم ومدارات، سبق للشاعر ان خاض فيها، في مجاميعه الثلاث السابقة، " اليد تكتشف 1993 " و" كتاب اليوم.. كتاب الساحر 1999 " و" كتاب الفردوس 2000 "، لكنه في هذا الديوان ذهب بعيدا في الاسئلة الحفرية.. سأختصر هذه القراءة في بحث قصيدة واحدة حملت عنوان "رواية الهدهد" وقد اكلت ثلاثة ارباع الكتاب (101 صفحة) من القطع المتوسط بطباعة متأنقة عرفت بها هذه الدار، وسأهمل في الديوان قصيدة اخرى طويلة نسبيا بعنوان " نهار عباسي" لقراءتها في زمن اخر. تستهل "رواية الهدهد" افتتاحها بـ (كان ذلك ما رواه الهدهد) ص 37 اي ان استعراضا شعريا، قد يكون له انساق سردية تم بثه بما يشبه الرواية، وفعل (كان) يخبرنا ان عصفا وطوفانا سنقرأ سيرته من تاريخ قديم، يصل قدمه الى زمن الطوفان، فالهدهد يروي روايته وهو واقف على شجرة، بالتأكيد ان الشخصية الراوية هنا ستكون استعارية، ولن تكون روايته على شاكلة ما يكتبه الروائيون وهم يفترشون خطوط احداث مسروداتهم بتلك الفرشة لينسجوا من خلالها الصراع ورسم الشخصيات، بل ستجد ثمة هدهداً يقف على شجرة يروي الشعر، او يروي القصة، او يروي الفجيعة، يجلس تحتها ملاك (كان لصوته رفرفة جناح) وكفه تقبض على قبس من ضوء، غير ان الكف (تحفر في ظل الشجرة) فتهيل التراب، يطير(منجذبا بقوة روح الشمس/ التي تأخذ الارض اليها)، فلا يعود ثمة الا ملاك، يقول الهدهد، ان الملاك يقف على فوهة بئر فيما كانت ظلال الشجرة تطبق على قبس صورته على المياه.. في هذا المفتتح، ستلاحظ مفردات (الملاك، الشجرة، الضوء، التراب، البئر، الشمس، المياه، الصوت) ولابد من انك ستتساءل كيف تم صوغ عالمها ورسم افق الصراع بينها في هذه الـ " ورشة " التي اصبحت فيها كائنات، يراد منها ان تقول شيئا ما. ثمة تمايزات لفظية، يحكم فيها الشاعر زكي غنائيتة باحكام بلاغية، وبخصائص، لاريب في انها تعني مساحة اشتغاله الاركولوجي، تلك التمايزات، لها علاقة بتراكيب البنية اللغوية التي يخوض في بحرها،لا تحيد عنه، معبرة عنه، كما هي في كل مبثوثاته الشعرية ويعاملها بحنو وبحدب كما جاء في اختتام مقطع "روح الشمس" حيث سنجد ان (هناك حدب وحنو يسبغ به الاشجار العظيمة)، وقد خطف الصوت وطار بالملاك الى حيث الشمس.ولتفكيك اواصر تلك الصور المتحشدة بالرموز والدلالات سنسأل عن ماهية الملاك، لماذا هو فقير؟ ما هي الشجرة التي احتفر ظلالها؟ هل هي شجرة الحكمة؟ ام انها الشجرة التي مكنت الشيطان من الوسوسة باذن حواء كي تنجح باغواء آدم لاقتطاف التفاحة منها؟ ولماذا الملاك صوته كرفرفة جناح، فهل تنهض الرفرفة بالشاعر للبحث عن نزوع ما الى الحرية، وما دلالة افتقار الملاك (هو ملاك.. وهو فقير)؟ هل يفتقر الى العقل الفعال، ام انه الافتقار الى عدم تمكنه من الامتثال بالشمس، هل نقول ان الملاك هو خالق الابداع، (كفه تحفر في ظل شجرة) ام انه صانع المهارات (تقبض كفه على قبس من الضوء) ام انه العازف الماهر في سمفونية الطبيعة؟ هذه الاسئلة لاتفارقنا بمطالعة مقطع "نهار الوحشة" حيث سنعثر على لوحة فيها البومة تتحدث عن النسرين الذي على الجبل، انظر (بومة، نسرين، جبل).. البومة وهي تغني كانت اوراق النسرين (نوع من الورد الابيض برائحة نفاذه) تنحل غبطة، لاحظ هذه الصورة، ففي الوقت الذي تغني فيه البومة، تتساقط اوراق النسرين فيأخذها الريح والمياه، اولا الريح، ثم المياه، يقول الهدهد، في ذلك النهار، اختفت البومة ولم يعد ثمة نسرين، ثم ظل الجبل يردد اغنية البومة وهو يتكلم عن وحشة النسرين. انحسر دور الملاك في هذا المقطع، وانبثق الجبل بطلا فأخذ يردد اغنية البومة مستوحشا غياب النسرين، الجبل يندب في مأساة غياب او رحيل النسرين مع الريح والمياه، لم ترحل النسرين طوع ارادتها بل بسبب غناء البومة، وبفعل غبطة النسرين تنحل اوراقها، ما الذي تفعله الغبطة بالورد، وهل يمكن ان يتقمص الورد مشاعر الاغتباط لولا احقية الشعر في القول غير المباح، ان نمط الاستعارة هنا لا يدخل في العاب اعتباطية يمكن ان تضعف منطوقات البلاغ الشعري، انها تكشف عن ولوجات دفينة عمقها ربما يتصل بالملاك – الشاعر وبالجبل، ذلك ان قول غبطة النسرين في انحلاله ورحيله مع الريح والمياه هو جزء من تماهٍ تبلغ ذروته المأساوية في الاختفاء، اختفاء النسرين، واختفاء البومة وبقاء الجبل لوحده يردد مستوحشا اغنيتها، اليست كل هذه الترانيم محاولة لاعادة صياغة الطبيعة، شعريا. فيما تستمر الشجرة (في عش مضاع) تطفو وسط مياه الطوفان القديم، سنرى ان الشجرة باغصانها العظيمة تطفو على موج مياه قديمة، وسنرى البومة ثانية في السماء الخالية البعيدة، بومة بجناح وحيد تنتظر مستقر الطوفان، تضيع عيناها في السديم المهول للاغصان العظيمة. لدينا طوفان قديم، هل ه طوفان نوح؟ هل هي المياه نفسها التي اغرقت الارض والجبل الذي ظن ابن نوح ان الجبل سيكون عاصما له من الغرق؟ ماهي تلك الشجرة باغصانها العظيمة التي تطفو في لجة الطوفان، اهي شجرة الحكمة؟ لماذا البومة تعود بجناح وحيد، اي انكسار شملها، اهو انكسار البشرية العظيم، حروبهم وتنازعهم واحقادهم، هل ضاع عش البومة في ذلك الطوفان، اتساءل هنا عن اية لعبة يلعبها الشاعر بين الطوفان والشجرة العظيمة والبومة، ان الرموز تنطوي على منظومة لابد من ان اشاراتها تهدف الى تغليف تلك الاسرار بدلا من فضحها، ولعل الشاعر في مشوار نسج غنائيته العذبة المدوية الصخب يريد ان يرشدنا الى ما لايمكننا رؤيته، يرشدنا الى متاهة من متاهاته، بحثا عما تضمره غنائياته من اسئلة، ربما هي اسئلة الوجود والعدم، نسترشد بجناح البومة وعشها الذي ضيعه الطوفان.. وبعودة الى الهدهد الذي يروي الحكاية يجب الا ننسى دوره في قصة سليمان عندما روي كيف نُقل عرش بلقيس، نشير الى ان الطوفان يتداخل بهدهد سليمان من جهة البحث عن مستقر له، غير ان ما يربك الدلالة التاريخية وجود البومة، وجودها في النص عصيا عن التفسير الى النهاية، غير ان الطوفان في " صورة النسيان " سيكشف عن رمال سوداء في الصحارى والسواحل، وستصور الرمال كيف كان شكل الغرق القديم حيث لم تبق من الاقدام المأخذوة بمصيرها سوى تلك الاثار التي تاتي عليها الريح، وتاتي عليها الامواج فتمحي صورة الغرق القديم، هذه الرمال السوداء هي عبارة عن اشارات يابسة عن سفن هالكة وقوافل ضائعة اتى عليها الطوفان. ان رواية الهدهد لا تكتفي بحفريات الطوفان نفسه بل تذهب الى ما قبله وكأنها تحاول قراءة اثار السفن والهوالك من جديد، قراءة تبدو لنا تنحاز في محصلتها النهائية الى التهويم الرمزي محتشد الدلالات.. من المؤكد ان الشاعر لايهدف الى نثر الوان لوحته من دون ان يفصح عن شيء دفين يتطلب منا العثور عليه، وصيغة الافصاح لا تعنيه بالمرة، انها من مهمة القراءة، التي ينبغي من خلالها استنباط تلك الاستعارات، تلك الاشارات الموغلة في الترميز والتعتيم، تلك الانساق الباعثة على الدهشة في محترف بالغ الاهمية اشتغل فيه شاعر موهوب فوجئ به الوسط الادبي منذ ديوانه الاول " اليد تكتشف " اضافة الى اضطلاعه بمشاغل ثقافية كان حضوره فيها ليس عابرا ً، فضلا عن تمتعه بمعرفة لغوية واسعة ومتعددة في جوانبها النحوية والتعبيرية والبنائية ولعل ذلك قد مكنه من الكتابة الشعرية بجمال وصفاء. اذن، ونحن نسير في حقل الطوفان، واظنه ليس طوفانا نوحيا، كما سيظهر ذلك في مقاطع اخرى من القصيدة، سنكتشف عبر المسرودة الهدهدية ان الارض ابتدأت بصياغة ملحمة الانسان قبل اي طوفان اخر، ففي المرويات ان الحمامة الحاملة غصن الزيتون تخبر نوحا بوجود ارض عند نهاية الطوفان، وغصن الزيتون دليل على وجود الارض بعد نهاية المياه، والحمامة تدل على ان رحلة السفينة قد اوشكت على الاقتراب من الارض اليابسة، ولعل الشاعر يستعير تشبيه الجسد اليابس، ذلك الجسد الذي تركه الملاك تحت الشجرة وقد طار جناح الضوء بالملاك الى الشمس يستعيره بالارض. في " حكاية الفقير الذي نسيه الملاك " سنرى ان الجسد اليابس انتظر رسالة الهدهد طويلا، تستبدل العلامات هنا وتنقلب الصور فليس اصحاب السفينة هم الذين استبشروا بغصن الحمامة على وجود اليباس قريبا بل ان الجسد هو الذي كان بانتظار رسالة الهدهد، ولما سقطت ورقة صفراء واخرى خضراء تدثر الجسد بورق كثير، قبل ان يكتشف الانسان عريه، وعندما يهتز ويقوم ليقترب من البئر يتطلع الى صورته على صفحة المياه سيكتشف انه رأى الشمس وليس صورة وجهه. الانسان – الفقير قد وجد ان الشجرة باوراقها كانت تطير اليه وهو الذي تركه الملاك ونساه تحت الشجرة العظيمة، ولما ابصرت البومة الشجرة، شجرة الشاعر هنا هي شجرة الخلد، شجرة الحكمة والمعرفة والجمال، كان نفاضها ذهبا يتكسر وكانت اغصانها عارية كأكف تستغيث متضرعة على مد الرمل، تلك الشجرة كانت تغرق في لجج الطوفان وهي ترنو الى البومة التي تحلق في السماء البعيدة وقد اطبق فمها على ورقة صفراء. وحتى لا نتيه في الصور المتدفقة التي مازال السارد ينثر باجزائها مرة على الرمال الصحراوية ومرة على الرمال الساحلية، مرة يجعل البومة تحمل الاغصان ومرة يجعلها بجناح وحيد، لابد من القول، ان تقطيع تلك الصور واعادة تشكيلها سيخلق رؤيا محددة يمكن القبض عليها تحت مجهر التأويل، اذ انها مفتوحة على سلسلة لا نهائية من الترميز والمتاهة، ولمعرفتي ان الشاعر يتعمد خلق هكذا مناخات بغية عدم ايقاف حدود التأويل في مساحات ضيقة، سيكون عندئذ لدينا متسع من القراءات للدخول في ارضه الملغمة من دون ان نضيع فيها، وهي متاهات على اية حال قابلة لان ترشدنا الى جماليات القول الشعري واهميته في الارتفاع بالحياة والتحليق بجمالها الى مستوى الشعر نفسه. في مقطع " المعلم الملاك " سنعود ثانية الى بطلنا الجبل الذي تركناه يغني اغنية البومة مستوحشا غياب النسرين، سنراه هنا وقد برق جناح الضوء عليه ( الجبل ) برق ينسي الجبل الاغنية وهو يصغي الى الملاك، المعلم الذي يبصر فلا يطرف له جفن ويقول فلا ينبس ببنت شفة، ذلك البرق خرج من كف الملاك فاختلط الضوء بالتراب واختلط التراب بالنسرين والنسرين بالضوء.. في ذلك النهار الذي طلعت فيه الشمس على وحشة النسرين.. برق جناح الضوء على الجبل.. هذا المقطع يعيدنا الى طوفان الشاعر الذي لايختلف من حيث الرؤيا عن طوفان نوح، هناك لدى نوح جبل وللشاعر جبل، وهناك غصن وللشاعر اغصان عظيمة، وهناك حمامة تسترشد الضائعين في متاهة المياه وللشاعر بومة تغني اغنية النسرين تسترشد الضائعين في متاهة الحياة، الشاعر قلب المعادلة هنا، في لعبته الماهرة، وجعل الارض بدلا من جسد يابس لانسان فقير يقف على البئر، الذي هو بئر المعرفة والحكمة، وعوضا عن رؤية صورته شاهد شمسا، تلك هي الشمس التي سنرى ان جناح الضوء يبرق من خلالها على الجبل.. والسارد الشعري سيخبرنا ان ثمرة الشجرة الوحيدة، شجرة المعرفة والحكمة والجمال لم تبلغها كف الفقير ( الانسان) ولاكف الملاك، هذه الثمرة تبدل الشمس الوانها ويبدل رائحتها الظلام، تتدلى اغصانها التي لم يرها الهدهد راوي قصة الطوفان والشاهد لملحمة الغرق، وهذه الثمرة لم يرها الهدهد وهي تتهادى على الامواج فيصير الموج شمسا واخرى ظلاما (دلالة على تبدل الزمان بين النهار والليل والرحلة الطويلة التي قطعتها الشجرة بثمرتها الوحيدة في حمل الامواج) تنتظر الكف التي تقطفها، ولاداعي للتذكير هنا بأن تلك الثمرة هي الحكمة، وهي السؤال الذي تركه الشاعر في نهاية المقطع حيث سيدفعنا الى الاستقصاء الاركولوجي في مستويات القول الشعري، في الكشف عن الدلالات التي يمكن لها ارضاء فضولنا في معرفة من هو صاحب تلك الكف التي ستقطف تلك الثمرة – الحكمة.. ان معرفتي بثقافة الشاعر التي نهلها من فلسفات واداب ومعارف شتى تمكنه من الوقوف على حافة سؤال عصي كهذا، فليس من العبث جاء قوله الشعري ان ثمرة الحكمة تنتظر الكف التي ستقطفها، انه لا يلعب بلعبة الرموز ولايحاول تشتيت القراءة بل اقول مؤكدا ان منطقة التبئير في هذه القصيدة الخلاقة انبنى في هذا القول الشعري وما تعدى ذلك تأسيس للصياغة الموسيقية رفيعة العزف والنشيد وما جاء بعدها تتويج للابتكار الذي انتهى اليه بكل ما يحمل من تمظهرات سابقة ولاحقة.. ان المقطع يكشف لك ان الشاعر يخط القصيدة بريشة من جناح الهدهد فيجعل ورقة النسرين تسقط صفراء في كأس الملاك وسيكون قد اذاب الذهب فاندلقت الكأس ثم سالت الخمرة على النهر ذهبا من نسرين، عندئذ، حينما اخذ المعلم بجلال الهدهد (المعلم والملاك يتبادلان الدور نفسه) سنرى ان الملاك قد سها عن الكأس وعن قصيدة يخطها عن الطبيعة والحكمة والجمال.. ان بعودتنا الى سؤال الكف التي ستقطف الثمرة الوحيدة يكشف لنا المقطع الاخير من (حين سها الملاك) التي نرى ان المقصود بها الشاعر نفسه، شاعرنا او شاعر اخر هو الذي سيتمكن من كتابة قصة طوفان جديدة او قصة خلق جديد، فالشاعر بامكانه ان يقول ويفعل ما يشاء مادام هدهده قد اطبق فمه على لحن غامض وهو يحلق نائيا في الفضاء البعيد. الملاك – الشاعر (تفركت بين اصابعه) ورقة صفراء وقد اطبقت شفتاه على الصفاء الغامض للحن المضاع غير ان الملاك – الشاعر وضع جملة موسيقية عن مؤلف موسيقي قديم ( لاحظ مفردة قديم وقارنها بقدم الطوفان والغرق والسفن المتهالكة).. والفقير يرى صورته ملفوفة بالحرير الاسود ومدثرة بالنسرين والرعد غير انه صنع في ظلام المياه بوقاً، وعلى فص خاتمه وضع طغراء النور والماء، لتبرق قصيدة عن الطبيعة والجمال لم يتممها. ان هذه القراءة بتتابعها قد فرضت علي نوعا من التذوق، اكاد اقول، يفتح افقا متعددا للتأويل، قد لا تنحصر بالضرورة، في قصة الطوفان، وقصة الخليقة، حيث وجدت الصور بتدفقها الصاخب تحتوي على تقانة عارفة بالتشكيل متحررة من العفوية واللاقصدية، ما وجدته هنا، تمعينا وتكثيفا بالصياغة وبالابتكار الخلاق الذي يهدف، اولا، الى قراءة محذوفات التاريخ، عبر كاميرا، سعت لتلقط ادق التفاصيل بلغة اقتضت التكثيف كي تلج مناطق التفكير الهيولى والسديمي خطورة وحساسية، انها ليست طوفان التاريخ وليس غرق التاريخ، بل هو الطوفان الشخصي، انظر الى (الفقير) كيف وضع في قلب العاصفة والرعود، اي فقير هو غير الشاعر الذي سيصبح ملاكا يكتب قصيدته على ورق النسرين، والهدهد ينقل تلك القصة الى الناس. شعرت وانا انتهي من قراءة هذه القصيدة – الملحمة ان الشاعر عبد الزهرة زكي قد ازاح عنه ركام رحلة تأمل متعبة والم ممض ربما سيأخذ منه وقتا طويلا قبل ان ينتج ديوانا اخر، كما في كل ديوان جديد حيث تتباعد الازمان ليقول فيما بعد قولا جديدا نافعا، كما هو شأنه دائما. |