المقاله تحت باب منتخبات في
25/12/2008 06:00 AM GMT
تثير رواية الكاتب العراقي عبد الله صخي (خلف السدة)، الصادرة حديثا عن دار المدى، الكثير من الأسئلة. فهي رواية استثنائية في تاريخ المنجز الإبداعي الروائي العراقي. فهذا الكاتب الذي بقي صامتاً، ممتنعا عن النشر لاكثر من 29 عاما، منذ صدور مجموعته القصصية(حقول دائمة الخضرة) عن دار الفارابي عام 1979، يخرج الينا باكتشاف مفاجئ ومثير، او بمعنى اكثر دقة إعادة اكتشاف عالم(خلف السدة)، عالم يبنيه بنفسه: ارض بكر، ينتقل اليها المهاجرون الاوائل من الريف العراقي ليستقروا فيها ويبنوا بيوتهم الطينية وهم يعيشون حلماً مزمنا لم يتحقق. يعود الكاتب، الذي اسس عمارة هذه البيئة، ليحرق ما بناه ثم يهدمه بالبلوزرات، ربما بدم بارد، ويُهجر السكان الحالمين، المتعبين الى ارض اخرى قريبة من الاولى متلاعبا بتوزيعهم مثل قطع الدومينو. فالجيران والاهل المتقاربون، يضحون متباعدين، ومع ذلك فهم لا يزالون أسرى احلامهم، والحلم في هذه الرواية هو بطل بحد ذاته، هو احد ابرز شخوص العمل، ذلك ان (خلف السدة) تبدأ بحلم، وتنتهي بحلم. ولان (خلف السدة) تتحدث عن نبوءات وهجرات ومدن فهي تبدو كرواية ملحمية، تضم الكثير من الاسماء والأحداث والصور التي تتشابك وتتعقد، وتتجه مباشرة الى الذروة، بل ان الرواية اصلا تبدأ بالذروة وتبقى متصاعدة، حتى نكتشف ان هناك اكثر من ذروة في هذا العمل. ولكن من هم سكان خلف السدة، ومن هي خلف السدة؟. يقول صخي:«خلف السدة قطاع مجتمعي يعيش في هذا المكان، بين سدتين، لا يبعد عن قلب بغداد أكثر من 300 متر، مهمش ومقصي. إنها تعني مجموعة من الشخوص يعانون من فقر وضغط سياسي وحلم لم يكتمل. لكن هل يمكن اختصار (خلف السدة) في هذا التناول؟ يقول الروائي:«كنت أعني شيئا أكبر من هذا»، موضحا أن ما دفعه لكتابة هذه الرواية، هو «الشقاء ، فالعراق يعاني من الشقاء، بالنسبة لي على الأقل منذ الفترة التي بدأت فيها أتلمس خطواتي الأولى نحو القراءة والكتابة، ثم هناك المذكرات والوثائق المتوفرة التي تتحدث عن تاريخ بلادنا منذ أوائل القرن الماضي. لكن منذ تشكل الدولة العراقية بدأت تتشكل أحلام الناس غير أنها سرعان ما تحطمت. ثم لاح بريق أمل بعد تجربة 1958. هل كان بريق أمل حقا؟ ألم يكن وهما؟ كان الناس يعتقدون أنهم بدأوا السير على طريق الخلاص، ومن بينهم أناس خلف السدة. لكن التجربة السياسية اللاحقة كشفت أن ذلك كان وهما أكثر مما هو حقيقة. لذلك جاءت (خلف السدة) تعبيرا عن ذلك الوهم بمحمول أبعد من مشاهد الحياة». لكن لماذا هذا الصمت الطويل، منذ صدور مجموعته القصصية الاولى 1979؟ يقول صخي:«يصعب عليّ أن أحدد بالضبط الفترة الزمنية لأنني توقفت عن الكتابة سنوات طويلة، ثم توقفت عن النشر لأسباب يتعلق قسم منها بوجودي الشخصي، وأنا وزملائي قذفنا فجأة في منفى طويل، معقد وشائك، وفي عام كان العراق يبتعد وينأى فشعرت باليأس واللاجدوى من الكتابة، وبدت فكرة العمل السياسي، فكرة النضال طوباوية، وهمية. كنت أتساءل هل تعيدني الكتابة الى هناك؟ إلى العراق؟ مرت فترة طويلة حتى أحسست من جديد أن الكتابة تعيدني الى هناك. فكتبت بعض القصص القصيرة هنا وهناك فيما كنت منشغلا في المشروع الروائي، كنت أتأمل فيه كثيرا، أما الفترة الفعلية للكتابة فلم تتجاوز السنتين». يحتاج الروائي عادة الى بيئة تدور فيها الأحداث وشخوص يتصارعون أو ينمون داخل الحدث، لكن صخي في (خلف السدة) يبني البيئة، المدينة، وينقل الناس إليهما، ثم يحرق ما بناه ويهدمه ليعيد بناءه على ارض أخرى، يقول:«حاولت أن أبني عراقي باللبنات الأولى وأن أؤشر لحالات الهدم التي تعرض لها في أكثر من مفصل في تاريخه السياسي التراجيدي. أما على المستوى الفني فكانت بالنسبة لي مغامرة، وكنت سعيدا بهذه المغامرة. كانت تحمل نوعا من التحدي، ليس فقط لجهة تقديم رؤية لبناء مجتمع وهدمه ثم بنائه. كان التحدي الحقيقي في السرد، في النسق، في اللغة، لذلك ترى السرد متواترا، طويلا، والحوار فيه قليل. لم تكن هذه مهمة سهلة بالنسبة لي، وكنت أتساءل إلى أي مدى سأنجح في ذلك». ويستطرد صاحب «خلف السدة»:«ستدور الرواية، تبدأ بالحلم وتنتهي بالحلم، لكن هناك فرقا بين الحلمين، هناك حلم حقيقي، امرأة تحلم بأن يأتيها طفل، وشاب يحلم بأن يعثر على الصبية التي أحبها، كلاهما يحلم بطريقته، لذلك تبدو الرواية كما لو أنها تنتهي لتعود الى بدايتها هل في هذا دلالة؟، هل في هذا خصوصية رمزية؟، ربما». شخوص هذه الرواية يبدون وكأنهم يعيشون معنا، حتى أننا نكاد أن نتنفس رائحتهم ونسمع أصواتهم ونشعر بأحلامهم التي لا تنتهي، يقول:«كل شخوص (خلف السدة) حقيقيون، لا توجد بينهم شخصية متخيلة، صحيح قد تعثر على نوع من الكولاج، يعني شخصية مكية الحسن هي موجودة بالواقع تماما لكني أضفت إليها من شخصيات نسوية أخرى موجودات بالجوار لاغناء أو رسم هذه الشخصية. وهناك شخصيات قائمة بذاتها ومستقلة وموجودة كما هي، المرأة الكردية مثلا، وهي أحد أبطال هذا العمل، كانت جارتنا وكنت أحبها جدا وكانت ترعاني. لقد فقدت حفيدها الوحيد، ربما في النسيج الروائي المتخيل أضفت بعض الأشياء الطفيفة كي أعطي بعدا اجتماعيا في سياق الحدث العام. وقد أدركت في ما بعد أني أضفت شيئا إلى عملي هو أني نقلت نسيجا اجتماعيا كان متعايشا في جوارحه ودواخله. هذه المرأة الكردية عاشت في وسط حتى لم يكن بغداديا، وسط أناس قادمين من الجنوب، يتحدثون لهجة مختلفة، طقوسهم مختلفة، ميثيولوجيا مختلفة، لكنها كانت جارتنا تأكل وتشرب معنا، تشاركنا في كل شيء كما لو أنها كانت عربية وليست كردية، أو كما لو أن المجتمع العربي الذي حولها كان كرديا مثلها، هذا النسيج الاجتماعي الباهر البراق أسعدني». قد يبدو شخوص (خلف السدة) بسطاء واعتياديين في حركتهم خلال الحدث، لكنهم يحملون دلالات رمزية يمكن استكشافها خلال السرد. ويوافق صخي على ذلك بقوله:«هذا صحيح تماما. هل وفقت في ذلك، هل نجحت في تقديم محمولات رمزية وحقيقية، بمعنى أنها قائمة ولها دلالة في الواقع وفي التاريخ العراقي؟ لا أعرف. لكني كنت اقصد أن ارسم مشهدا فيه شخص تائه يضل طريقه ولا يجد من بين هذا العدد الهائل من البشر المبصرين من يدله على الطريق فيكتفي ببصيرة الأعمى، هل كان أولئك الذين قادونا الى المآسي والمهالك السياسية وبحيرات الدم والمقابر الجماعية والاتهامات الباطلة وأحواض الأسيد والرمي في حقول الألغام، هل كانوا مبصرين؟ الذين قادونا على مدى نصف قرن هل كانوا مبصرين حقا»؟. الرواية تنحاز الى شخصية سياسية واحدة، عبد الكريم قاسم، وليس الى حدث سياسي، ويبرر صخي ذلك بقوله:«عبد الكريم قاسم سياسي عسكري لعب دورا استثنائيا، بالرغم من قصر هذا الدور، في حياة المجتمع. ولقد وضع قطاع واسع جدا من المجتمع العراقي أمله كله فيه، لكن الرواية تتساءل في لحظة من لحظات السرد هل كان التشبث بذلك الأمل واقعيا؟، إذا كان كذلك فإلى أي حد وصلت تلك الواقعية في شخصية قاسم. أنا أتحدث عن قطاع مجتمعي معين، الحياة تقول إن هذا القطاع المجتمعي سعى الى هذا الأمل، وهذا الأمل تملك كل شيء فيه، لم يعد أولئك الناس يرون في قاسم شخصية سياسية، قائد ثورة، أو انقلاب أو تغيير فقط. رأوا فيه المنقذ والمخلص، لذا بحثت هذا الأمل وهذا التعلق حتى وان كان وهميا». بعيدا عن السرد والصور والأحداث والشخوص، فإن رواية (خلف السدة) تميزت ببناء لغوي يشبه قطعة موسيقية متكاملة لا نشاز فيها. ويشرح صخي اهتمامه باللغة قائلا:«أمضيت سنوات طويلة في تأمل العربية، في دلالاتها وثرائها، سواء في التراث أو المنجز الحديث. واكتشفت أن للعربية سحرا موسيقيا جوانيا، حاولت أن أتقصى اثر تلك الأجراس النائمة في أعماق الكلمات، أن أتتبعها واحدا واحدا وان أعيد صياغة قلادة من الأجراس، ثم دخلت الصورة، الرسم، الكاميرا، السينما، سعيت من كل هذه العناصر أن ارسم مشهدي انطلاقا من تلك الالتقاطات».
|