شاي عراقي

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
14/10/2008 06:00 AM
GMT



 أثناء الحكم العثماني بالبلاد العربية، ولأكثر من أربع مئة سنة، كتب بعضهم رسائله عارضاً مشاكله السياسية والاجتماعية بمقدمات كالآتي:
" إلى جناب حضرة سامي القدر والألقاب الأجل الأفخم دفتردار أفندي أدام الله تعالى إقباله وأشرق كواكب سعادته وزاد أفضاله….. الخ "
 في القرن العشرين وما حاذاه، اختلفت الرسائل قليلا، وإن حافظت على الأسلوب القديم من حيث الكذب والمراوغة لبلوغ الهدف وإنْ تمّ ذلك مباشرة ومن دون لفّ أو دوران. على هذا النهج لم تكنْ غريبةً الرسالةُ الاضطرارية المرسلة من المرأة اللبنانية، إلى موكلها هادي العراقي. كان يملك قطعة أرض صغيرة بمنطقة الحازمية ببيروت، كلفها أن تبيعها له في حالة وجود شارٍ. رسالتها التي بعثت بها اليه على عنوانه ببغداد بتأريخ 1979تقول:
 " البنت حازمة خطبها رجل برازيلي، وقد تزوجت منه الآن. ذهبت إلى البرازيل كي تعيش معه."

 انبسطت أسارير هادي فورا بعد قراءتها. فَهِمَ المعنى المقصود متنفساً الصعداء. إن أرضه التي يملكها بالحازمية قد بيعت وانتهى الأمر. تخلص منها أخيراً. دبّ الفرح متسلللا إلى قلبه خفيه، خائفا أن يعلنه صراحة وبوضوح على الملأ لئلا يفتضح أمره. الحكومة الآمرة الناهية ببغداد لن تغفر له فعلته. إنها لا تقبل أن يكون عند العراقي فلسٌ واحدٌ إلا إذا علمت به، وكيف حصل عليه وأين أخفاه، إلى آخر المعزوفة… أما أن يكون عند العراقي الساكن بالعراق قطعة أرض في بلد آخر فهذه من أكبر الكبائر. جريمة لا تُغتفر. الحكومة العراقية المتسلطة تقف بحزم تجاه هذا الأمر. سيسافر صاحب الملك خارج العراق حتماً " ويلعب على كيفه " كما تتصور. على الحكومة أن تمنع السفر أولاً ناهيك عن البيع والشراء و العقاب جاهز محسوم للشخص المدان. ما عليه إلا أن يُهيئ نفسه للسجن والتعذيب، قبل أن يُحكم عليه بالإعدام لجرائم من هذا النمط الخطر المضر بالمصلحة العامة في قانونها.
جاهداً كبح العراقي فرحه ذلك النهار المشرق بعد أن تسلم رسالة وكيلته اللبنانية. لكنه فضل التطلع في الحيطان بدلا من الوجوه وهو يسير في الطريق العام، متحاشيا نظرات المارة، متوجساً من أن يكون أحد منهم قد قرأ الرسالة اللبنانية وفهم مضمونها الحقيقي أثناء عملية فتح الرسائل البريدية في دائرة الرقابة الحكومية. كلما رأى زياً خاكياً أو عيوناً ثاقبة أو شوارب شوكية سوداء أسرعت دقات قلبه بالخفقان فيحاول، بصمت، تهدئتها. في الوقت نفسه لا تستطيع ذاكرته أن تمحو تراكمات تجارب مرت عليه ولا أمل في نسيانها. قفز أمامه صديق قديم من باب مقفل يعود إلى زمن الشباب فجأة. رآه مجسداً أمامه ممرمطاً. كان يهوديا عراقياً من بقايا فئة هاجر معظمها إلى اسرائيل بعد أن شُجعوا لتسقط عنهم الجنسية العراقية سنة 1948. يهودي خائف مرتعب من أن يبوح بأسراره إلا لثلة من أصدقاء قدامى حوله من كافة الأديان والأقوام الواثق منهم ثقة تامة. كان هؤلاء الأصدقاء يعرفون أن لديه أخاً صار بإيران الآن، هارباً رافضاً أن يذهب للعيش بالدولة العبرية عن عقيدة ومبدأ. صار هذا الأخ الهارب فقيراً معوزا في وضعه الحالي، يكاد أن يتوسل المارة من أجل الصدقة، يحتاج مساعدة أخيه بالعراق ليبعث له نقودا بالخفية بيد بعض الاشخاص المسافرين. الفترة حرجة في تأريخ يهود العراق أثناء تأسيس دولة اسرائيل واتهام البعض لهم بميولهم الصهيونية. الأخ المسافر يهاتف أخاه داخل العراق بين حين وآخر. يسأله أن يبعث له نقوداً وبسرعة. يستخدم عبارات وهمية رمزية يفهمها الجانب الآخر ويدرك مغزاها بالحاسة السادسة على افتراض وجودها عند الإنسان. اتفقا، من دون تخطيط مسبق، أن يستعملا لفظة (الشاي) بالهاتف بدلا من كلمة (نقود) صراحة، من أجل التمويه والتضليل في التعبير عما يريدون قوله فعلا:
- لم اتسلم الشاي حتى الآن.
- سيأتيك قريباً
أحيانا يهاتف الأخ في العراق أخاه بإيران كي ينبئه بخبر مفرح:
-بعثتُ لك الشاي بيد كاظم.اتصل به على العنوان التالي..
الآخر يشكو والثاني يهمز والشاي يُستعمل في الحوار باطمئنان وحرية.
 في يوم ما، وعلى غفلة منهما، لفتت أسماع الرقيب الحكومي على المخابرات الهاتفية في دائرة البرق والبريد العامة، ببغداد، مسألة الشاي الغامضة المتكررة. تكفل بإيصال النميمة والشكوك إلى السلطات الحكومية المختصة. سرعان ما يُلقى القبض على الأخ في الداخل وهو في خضمّ حواره مع أخيه في الخارج، مكرّراً كلمة (الشاي) جيئة وذهاباً بحرارة وجدانية.
 وراءها، أُودِع الأخ المتحدث، من بغداد، التوقيف، حسب قرار الحاكم العسكري العام، محكمين القبضة عليه خوفاً من أن يهرب فيفقدوا الشواهد الثبوتية للجريمة النكراء المتوقع حدوثها وشيكاً.
 أثناء ذلك، بضع صفعات حارة بمركز الشرطة على صدغيه كانت كفيلة كي توقع الأخ أرضاً مغشياً عليه. عندما استفاق من الإغماء لم يتمكن من إخفاء حقيقة وجود أخيه الهارب إلى إيران ودعوته المتكررة له بالهاتف كي يرسل له نقوداً من أجل المأوى والطعام. أمر الحاكم بسجنه خمسة أعوام فقط. قضى ثلاثة منها في السجن ليُفرج عنه في السنة الرابعة مع السجناء الآخرين بموجب مرحمة حكومية جاءت في الوقت المناسب.
خرج من السجن وقد بيّت أمراً في غاية السرية والأهمية بالنسبة له. أراد أن يغادر العراق بأقرب فرصة ممكنة. لم يخبر أحداً بالأمر ولا أقرب المقربين إليه من أصدقائه. ابتعد عنهم جميعاً، خائفاً أن يسمعوا دقات قلبه أو انكماش خفقاته.
××××
بعد نصف قرن من فراقهما التقى الصديقان القديمان يوما، في أرض الله الواسعة. تعارفا بشكل صبياني مفزع لمن كان قربهما من الناس. اكتشفا عمق العلاقة بينهما أثناء فترة شبابهما الضائع. جلسا يستعيدان وقارهما على كراسي مقهى قريب، بعدئذ، بخجل من العابرين المارين المقهى المزين بورود ملونة في المدخل. بدآ يتحدثان بضوضاء لا يمكن تجنبها من شدة الفرح والانفعال. قهقهات تتكسر بصدريهما المثقوبين من كثرة التبغ والرجفات في المطارات والمعاملات الرسمية في الدول التي مرّا بها والخيبات والنكسات. مفتخران بفضح أسرارهما وألغازهما علانية الآن وكيف استخدما (الشاي) و (البنت حازمة) لمآربهما الخاصة.
 الأمور بريئة كورود المكان. تلفتا يبحثان عن نادل كي يجلب لهما شاياً عراقياً كسابق عهدهما في مقاهي بغداد. يريدان شاياً عراقياً غامق اللون مع التأكيد على تعبيرهما السابق للنادل بـ (سكر زيادة)، في قدح زجاج شفاف يسمى (الاستكان) المعروف لديهما قديما. نسيا أنهما مبتليان بمرض السكر اليوم، وهما ممنوعان من اخذ السكر منعا باتا من قبل الطبيب. لكن المقهى، لحسن الحظ، أنقذهما وحفظ ما تبقى من صحتهما المتدهورة فهو لا يقدم الشاي لزبائنه لكون الغالبية العظمى منهم تفضل شرب القهوة البرازيلية .